الرئيسية / دراسات / التفكيك بين الحداثة والمثاقفة خاليد القاسمي

التفكيك بين الحداثة والمثاقفة خاليد القاسمي

 

1- من الحداثة إلى ما بعد الحداثة

يشير مفهوم الحداثة إلى نمط حضاري غربي بدأت إرهاصاته في أوروبا منذ القرن السادس عشر، وهو يختلف عن الأنماط التقليدية، دافعه الأساس منظومة العقل الأنواري ومبادئه الجديدة، وموقفه الثوري المناهض للأنماط والثوابت والثقافات التي سادت العقل الكلاسيكي الغربي. ويطرح مفهوم الحداثة صعوبات على مستوى تعريفه والإحاطة به بما يمثله من مسار متعدّد الأبعاد، أساسه الرؤية التقنية للعالم التي تشكلت منذ القرن السادس عشر، وسمحت بتبلور النظرة التجريبية للطبيعة التي هي خلفية العلوم الدقيقة التي ارتبطت بها الثورة الصناعية، والثورات السياسية التي أنهت الاستبداد السياسي-الديني القائم في العصور الوسيطة بفرض مرجعية الإرادة الذاتية الحرّة، والتعاقد المدني المحدّد لشرعية السلطة ونظام الحكم، وإرساء الفلسفة العقلانية التي اجترحت قطيعة مع التقاليد الفلسفية الوسيطة[1].

لقد جاءت الحداثة من هذا المنطلق، بمشروعها للنهوض بالإنسان، وتخليصه من أوهامه، وتحريره من قيوده، وتفسير الكون وفق رؤية عقلانية واعية تجاه الوجود، وبالتالي كان مشروعها انقلابيا، يقطع صلته بالماضي وينشغل باللحظة الدنيوية الراهنة. ومن هنا استحدثت الحداثة رؤيتها الخاصة للوجود، حريصة في ذلك على مركزية الإنسان وما تقتضيه من حرية للعقل، وثقة في سلطته الجبارة الكفيلة بإخضاع الطبيعة، وكل ما تنطوي عليه من ألغاز وحقائق لم يدركها العقل على مرّ تاريخه الطويل.

وينطوي مشروع الحداثة على رؤية جديدة لنظرية المعرفة، ساعيا، عبر ترسانته النظرية والعملية الناظمة، إلى إزالة الأوهام والطلاسم التقليدية التي ارتبطت بالمعرفة والثقافة، ورأت أن هذه الرؤية العلمية من شأنها تحرير الإنسان وتوجيهه نحو قيم جديدة قوامها الإبداع والاكتشاف العلمي والنبوغ الفردي، رافعة شعارات الحرية والمساواة والعقل الساعية إلى السيطرة على الطبيعة، وتحقيق العدل وسعادة الإنسان[2]. ولا غرابة أن الحداثة قد حاولت إطلاق طاقتها الذاتية ومرتكزها المادي الدنيوي بالاعتماد على نبذ فكرة الأصل الواحد الذي تنبثق منه الحقيقة ومختلف أشكال المعرفة، لذلك ستعمد إلى طرح إيديولوجية فكرية مدعمة بسطوة العلم وقوانينه، وسيادة العقل ومبادئه، وهو توجه سيغير الوجه السياسي للدولة، وشروط البنية الاجتماعية للمجتمعات الأوروبية. ووفق هذا التوجه “تأملت الأيديولوجية الحداثية دلالات الأصول، نحّت الأصل بصيغة المفرد، واحتفت بأصول جديدة ومتكاثرة، حيث أصل الإنسان في ذاته وأصل الطبيعة في قوانينها، وأصل السلطة في الشعب وأصل الحقيقة في القانون العلمي. وكانت في هذا كله تبتكر معنى الدولة بقدر ما كانت تبتكر معنى التاريخ”[3].

ويرى بعض المفكرين بأن مرحلة الحداثة لم تستكمل مشروعها الحضاري بعد، ومن أبرز هؤلاء نجد المفكر محمد أركون الذي يرى بأن العقل لم يحصل على استقلاليته بشكل كامل بالقياس إلى الدولة التي حلّت محل الدين، لذلك لا ينبغي أن نقطع مع الحداثة ونتوهم أننا دخلنا مرحلة ما بعد الحداثة، ذلك أن الداعين إلى هذه القفزة يريدون ضمنيا القضاء على مشروع الحداثة والطاقة التحريرية الهائلة التي تنطوي عليها[4]. ونفهم من هذا القول بأن مشروع الحداثة لم يحقق أهدافه التي قام من أجلها، بسبب انحرافه وعدم وفائه لمبادئه وقيمه. وكان نتيجة ذلك أن تمركز العقل الغربي الأوروبي حول نفسه، ونظر إلى العالم الآخر بوصفه هامشا متخلفا ينبغي استعماره وسحقه ونهب ثرواته، تحت شعار تصدير التحضر والمدنية، مما أفضى إلى حروب كثيرة بهدف الهيمنة وفرض الأيديولوجية الفكرية والسياسية. لذلك نجد أركون يتساءل حول منظومة الحداثة الأوروبية وقيمها حول الحرية وحقوق الإنسان، ممثلة في المستعمر الفرنسي في علاقته بإفريقيا: انظر إلى السياسة الفرنسية في افريقيا، هل تستطيع أن تتحدث عليها من خلال منظور الحرية؟

إن الصدمة التي اعترت الإنسان الغربي بسبب عجر العقل عن السيطرة على الظواهر الاجتماعية والطبيعية والعلمية، وما رافق ذلك من سقوط مدوّ للقيم الأخلاقية، وفشل العقل الحداثي في تفسير حقيقة الوجود والذات والعالم، وعجزه عن تحقيق سعادة الإنسان ورخائه، كل ذلك جعل هذا العقل يرتدّ على نفسه، ويوجه نقدا لاذعا لأفكاره التنويرية التي طالما روّج لها، ولقيمه العليا التي ناضل لأجلها، متلمسا إعادة النظر في مشروعه الفاشل. لذلك كان على العقل الأوروبي، كما يرى “فيصل درّاج” أن “يعود إلى قراءة المشروع الحداثي بمنظور جديد، يتضمن أكثر من اقتراح: توجه يطالب بالاحتفاظ بالمشروع الحداثي بعد نقده وتطويره وتوسيعه، وممثله الأكبر الألماني هابرماس وآخرون. واتجاه آخر يرى أن الحداثة الأولى قد تفجرت وانتهى عهدها إلى غير رجعة، ومن هؤلاء الفرنسي ليوتار وآخرون، وإلى هذا الاتجاه تنتمي إشكالية ما بعد الحداثة التي ما تطلق آلة مفهومية تندّد بالعقل والتنوير والتقدم[5].

من هنا يتضح أن المفكرين والدارسين اختلفوا في تصورهم لحدود مشروع الحداثة، وتعدّدت أحكامهم الصادرة بخصوصه، وهذا ناجم عن التداخل الحاصل بين الحداثة وما بعدها. فإذا كان هابرماس يرى أن الحداثة مشروع غير مكتمل، ولا بد من إعطائه وقتا كافيا ليصحّح نفسه، ويتبلور في شكله الأرقى، فهناك من نعاها بدليل سقوط نظرياتها ووصولها إلى باب مسدود. ولعلّ التوجّه الأخير هو ما يحفزّنا للتشكيك في رؤية هابرماس وجهوده لإحياء مشروع الحداثة، لأن التصور القائل بمبدأ الاستمرارية والتكامل، لا يصمد أمام حركة الواقع. فالتيار ما بعد الحداثي فرض نفسه بقوة على الساحة الغربية، كما أن بنية تشكلاته الفكرية والفلسفية ومفاهيمه الإجرائية، تتعارض كليا، بل تسعى إلى تقويض الحداثة وتدمير الأسس التي قامت عليها.

إن التجاوز الذي تدل عليه الوحدة اللغوية “ما بعد” ليس زمنيا فحسب، ولكنه تجاوز ثقافي وقيمي، وهو ما يفسره التعارض المفاهيمي بين النمطين الفكريين، الحداثي وما بعد الحداثي، لذلك يضعف التصور بإزاء هاتين المنظومتين والقائل بعلاقة التكامل والامتداد أمام التصور القائل بعلاقة التجاوز بل الرفض والانقلاب. ف” إذا كانت عملية التحديث في الغرب قد انطلقت من عقلنة الفكر العلمي وعقلنة الفكر السياسي وعقلنة القول التاريخي وعقلنة القول الديني، فإن مرحلة ما بعد الحداثة التي ولجها الغرب الراهن في سياق التحدّيات العالمية الأخيرة، تحمل الوشم المناقض والمناهض له (..) فالفكر العلمي والسياسي والقول التاريخي يعيش الآن في إيديولوجيا ما بعد الحداثة أزمة انشطار وابتلاع[6].

ومن هذا المنطلق يتضح أن الحمولة الدلالية للمفاهيم المؤسسة والمؤطرة لمنظومتي الحداثة وما بعد الحداثة لا يمكن إقامتها على نوع من التوافق الفكري والإيديولوجي، بالنظر إلى طاقتها الدلالية التي تمتح من خلفيات ومفاهيم فلسفية وفكرية وسياسية دالة على علاقة عدائية وصدامية. وبهذا المعنى يمكن النظر إلى ما بعد الحداثة بوصفها ردّة فعل عنيفة على الحداثة تخبو معها الأصوات التوفيقية والتأليفية، والتفاؤل الذي تمتعت به الحداثة أيام ثورتها[7].

إن ما سبق قوله لا يعني أن الحداثة ولدت ميتة، أو أن ما قامت به مجرد شعارات فكرية رنانة لم تلتزم بتفعيلها على أرض الواقع. إن مثل هذا الحكم يفتقر إلى الدقة والموضوعية، ويغض الطرف عن حقيقة مفادها أن الحداثة عاشت تجربتها باعتبارها مرحلة إنسانية تحكمها اشتراطات التاريخ وجدلياته. وهي مرحلة استطاعت، في وجهها الآخر، أن تتبوأ بالإنسان الأوروبي أعلى المواقع، لكنها لم تبلغ مداها المشتهى، وموقعها الذهبي الذي بشرت به، ذلك لأنها اعتقدت المطلق والوثوقية في مقولاتها ومفاهيمها، فكشفت حركية التاريخ عن نسبيتها وعدم إطلاقيتها التي “هجس بها عقل الأنوار، بل أصابها انزياح، بدّد من الحلم القديم أشياء كثيرة، ووجه أصابع الاتهام إلى المهندس العقلاني المستنير الذي اقترح المدينة الفاضلة الجديدة[8]. ووفقا لذلك، اعتبرت منظومة ما بعد الحداثة مشروعا فكريا ونقديا، وأسلوبا في النظر والتفكير لا يثق في الأفكار والتصورات الكلاسيكية، كفكرة الحقيقة والعقل والواقع والهوية وغيرها. وهي تفهم العالم بخلاف معايير التنوير الحداثي، بوصفه طارئا ومتحركا وبعيدا عن الثبات، وعن الحتمية والوثوقية، إذ هو مجموعة من التجارب والتأويلات القائمة على النسبية والاختلاف، والتي تولّد زخما من الشك تجاه موضوعية الحقيقة.

2-ما بعد الحداثة والنقد الأدبي

لا غرو، أن تترك العقيدة الفلسفية لما بعد الحداثة، المنطلقة من مقولات النسبية والهامش والاختلاف واللامعنى، أثرها الثوري واضح الندوب على خريطة النقد الأدبي الغربي المعاصر. ذلك أن من أهم أركان الفكر ما بعد الحداثي هو احتفاؤه “بعدم ثبات المعنى وعدم جوهريته، فلا شيء تحت السطح سوى السطح، ولا شيء تحت التجربة سوى التجربة”[9]. وبهذا المعنى، فإن الإسقاطات ما بعد الحداثية، ممثلة في رفض متعاليات الحداثة ومطلقاتها، من أنساق الجوهر والحقيقة والكينونة والذات، باعتبارها نماذج كلية مطلقة، كلها ستنطلي على الخطاب الفلسفي لتطال النقد الأدبي ومدارسه الغربية، بدءا من البنيوية وانتهاء بنظرية التلقي والاستراتيجية التفكيكية.

وبالرغم مما يتسم به المنهج البنيوي من مقولات علمية متعالية، تنسجم مع حركية الحداثة ومبادئها، فإن هناك من يدرج البنيوية ضمن حركة ما بعد الحداثة النقدية، حيث أن هناك، كما يرى عبد العزيز حمودة، اتجاها غربيا بارزا، يؤرخ للنقد الحداثي بصعود نجم البنيوية في الأدب منتصف الخمسينيات من القرن العشرين، أما ما بعد الحداثة الثقافية، فيشير نفس الكاتب، إلى أنها بدأت قبل صعود نجم البنيوية، وأن ما يسميه بالتأجيل في عمر البنيوية الذي قام به “ليفي ستروس” سرعان ما سيعقبه فشل المشروع البنيوي، وبروز تيارات نقدية بارزة تمثل إفرازا عضويا لحركة ما بعد الحداثة الثقافية وهي نظرية التلقي والتفكيكية[10]. فالبنيوية، من هذا المنطلق، عاشت زمنا غير زمنها، مستفيدة في ذلك من عمرها الإضافي الذي حقّقته دراسات “ليفي ستروس” البنيوية. غير أن تيارات جديدة ستبرز ضمن مشهد ما بعد الحداثة ومن أبرز نماذجها التفكيكية النقدية بزعامة الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا”.

تعتبر التفكيكية إذن التوجه الأكثر إثارة للجدل ضمن مشهد ما بعد الحداثة، لما يتسم به من نزعة تشكيكية وتدميرية ترفض ما سبقها من طروحات فلسفية ومناهج نقدية، ومن حيث تبنيها لترسانة مفاهيمية هدفها الأسمى تفكيك مركزية المعنى المتسلط عبر ثنائيات ميتافيزيقية نائمة في نسيج اللغة. وتنطلق في ذلك من فكرة “أن هذه الثنائيات التي تدين بها الحداثة هي الوازع والدافع وراء القمع والقسر والإرهاب (..) ولذلك حاولت ما بعد الحداثة إلغاء التحيزات الهرمية عن طريق استبعاد مبرّرات وجودها: فبدلا من القول بالفوارق والفواصل الهرمية (المهم-غير المهم، الأصل-الفرع)، سعت ما بعد الحداثة وتسعى إلى تقويض السلالم الهرمية والاحتفاء بالعرضية والتلاعب والمفارقة والسخرية والانفصامية (..) واهتمت بأشكال التعدّدية اهتماما شديدا كأقوى وسائل الانعتاق من القيود الماورائية”[11]. فالنص الأدبي باعتباره خطاب لغويا وثقافيا، أصبح عرضة للنقد وإعادة القراءة من منظور التفكيكية ما بعد الحداثية، لأن كل القراءات السالفة خادعة وواهمة. فهي انطلقت من مراكز ميتافيزيقية متعالية وجاهزة لتحقيق المعنى، وهو ما ترفضه التفكيكية لأن المعنى متحرك، لا تبارح آثاره اللانهائية وعوامل تفكيكه نسيج اللغة، وما يتبقى هو عبارة عن “تشكيل مستمر لا يمكن تبريره أو تفسيره بالإحالة على أنموذج متعال، وإنما يقبل التفسير فقط من داخله، مما يجعل التفسير نفسه محكوما بأشكال مادته الخاصة وليس نتيجة ثوابت لا تتحوّل ولا تتبدّل”[12]. وعليه فالمعنى لا يفسر إلا من داخل الخطاب نفسه، وتحكمه تجاذبات اللغة وتحولاتها وتناصاتها، التي تفرزها تجربة القراءة ذات الموقع المتميز من وجهة نظر الاستراتيجية التفكيكية، والتي ترى في كل قراءة إساءة قراءة.

3-التفكيكية وما بعد الحداثة

لا شك أن فكر ما بعد الحداثة نقل الإنسان الأوروبي من واقع إلى واقع آخر مختلف، تخلخلت فيه كل الثوابت السائدة التي حكمت العقل البشري لقرون طويلة. وهو ما نجم عنه وعي جديد، له موقفه المتشكك اتجاه الوعي اللاهوتي الذي أراد توحيد العالم حول نسق مركزي يتجسّد فيه المعنى الوحيد للحقيقة. في ضوء ذلك، تميز الفكر ما بعد الحداثي بالنقد الشديد لما خلّفته الفلسفة والفكر، وإن كان ما تعرض له هذا النقد يقع ضمن دائرة المقدّس. وفي هذا الإطار يندرج عمل دريدا التفكيكي الذي يحتل مكانة بارزة لها فرادتها ضمن مشروع مجاوزة الميتافيزيقا[13]، الذي بدأ مع الفيلسوف نيتشه ومن بعده هايدغر وغيرهما.

لقد نشر دريدا أول أعماله: (أصل الهندسة) عام 1962، وهو مقدمة طولها 170 صفحة، لبحث كتبه الفيلسوف الألماني إدمند هوسرل عن أصل الهندسة[14]. وفيه بيّن دريدا بتحليله الدقيق لاستراتيجيات هوسرل وفرضياته المسبقة، أو فكرة هوسرل القائلة بأن اللغة هي الشرط الوحيد لإمكانية تحول الهندسة إلى قوانين مثالية بعدما تكون فكرة في ذهن المشتغل بالهندسة، على الرغم من تقديمها للغة على أنها هي الحل، فهي تضم في ثناياها المشكلات التي ظن هوسرل أنها حلّها. وقد غدت هذه المشكلات: العلاقة بين الحدث والبنية، وبين التجريبي والمثالي، وبين النظام والأصل، وبين الكلام والكتابة، غدت الموضوع الذي تناولته معظم كتب دريدا التالية[15].

غير أن لحظة الميلاد الحقيقية لمشروع التفكيكية عند دريدا، تتمثل في مقالته المعنونة: (البنية والدليل واللعب في خطاب العلوم الإنسانية)، والتي ألقاها في الندوة التي نظمتها جامعة هوبكنز حول موضوع (اللغات النقدية وعلوم الإنسان) سنة 1966 بمشاركة مجموعة من النقاد والباحثين مثل: رولان بارث، وتودروف، ولوسيان جولدمان، وجاك لاكان[16]. وواصل دريدا بعد ذلك نشر مجموعة من المقالات في المجلات الفكرية الفرنسية، وفي عام 1967 فرض نفسه على المشهد الفكري بثلاثة كتب هي (في الكتابة) of grammatology و (الكتابة والاختلاف) writing and difference، و (الكلام والظواهر) speech and phenomena [17]، وهي الإنتاجات التي لاقت شهرة منقطعة النظير، وطار على إثرها اسم دريدا إلى جامعتي ييل yale وجون هوبكنز john hopkins ، ليسطع نجمه بوصفه زعيما لامعا للتفكيكية[18].

ينطلق المشروع التفكيكي من فرضية مركزية مفادها أن هناك وحدة تاريخية متماسكة بشكل قوي، تشكل الشبكة المحدّدة لرؤية الميتافيزيقا، هذه الوحدة يجسّدها النزوع نحو التمركز العقلي (اللوغوس)[19]، وهي الأساس الذي تقوم عليه كل نزعة مثالية أو روحية أو كل ميتافيزيقا، في مختلف تشكلاتها. وبناء عليه، فإن كل تجاوز للميتافيزيقا –عند دريدا- ينبغي أن يلاحق هذا الأساس المحدّد لكل الأشكال الفكرية الميتافيزيقية بغية تفكيكه[20]. فما هي آليات هذا التمركز في الفكر؟ وما هو الشكل الذي اتخذته مجاوزة الميتافيزيقا لدى الفيلسوف جاك دريدا؟

4-التفكيكية: من التمركز إلى الاختلاف

إن أبرز تأثيرات الفلسفة التفكيكية كانت على المستوى الاونطولوجي، حيث غيّر دريدا بالكامل نظرتنا إلى الوجود عندما أوضح أن الفكر البشري هو فكر متمركز حول اللوغوس logocentrisme، ويتحدّد هذا التمركز العقلي من خلال نسق من المسلمات الثابتة يذكر منها دريدا: “حضور الشيء للنظر بوصفه صورة أو فكرة مدركة، الحضور بوصفه جوهر وجود ouasia ، حضور زمني وتحديد stigmé للآن أو للحظة nun ، حضور الكوجيتو أمام الذات، وعي، ذاتية، الحضور المشترك للذات وللآخر، والعلاقة بين الذوات intersubjectivité كظاهرة قصدية للأنا..إلخ[21].

ولئن كانت السمة الأبرز لهذا الخطاب الفلسفي المتمركز هو التأكيد على وجود الموجود بوصفه حضورا، فإن في ضوء هذا التصور ستكتسي مسألة المعنى شرعية حضورها ووجودها بوصفها نسقا مستقلا وسابقا عن اللغة التي تجسدها، أي أن المعنى، وفق هذا التراث الميتافيزيقي، هو أصل وله وجود أنطولوجي مطلق. إنه المعنى هناك الحاضر في نقائه وعذريته، والجوهر المستقر خارج الزمان وفعل الكتابة التي لا تعدو تكون مجرد تحبير وتثبيت[22]. ومن هنا فإن ركوب مغامرة تفكيك هذا الحضور من داخل اللغة، مردّه إلى العقيدة التفكيكية التي لا تعترف بوجود ثابت خارج عن اللغة. فالميتافيزيقا، بحسب دريدا، “ليست تخما واضحا، ولا دائرة محدّدة المعالم والمحيط، يمكن أن نخرج منها ونوجه لها ضربات من هذا الخارج، وليس هناك من جهة ثانية خارج نهائي ومطلق[23].

لقد خاض دريدا مقارعات فكرية مع كثير من النصوص الفلسفية المكتوبة، لتفكيكها وإبراز أن الأنساق المعرفية الخارجية التي تذرع بها الفلاسفة في تشييدهم للفكر، إنما هي لعبة حضور واهية لا توجد إلا داخل اللغة نفسها، وهو ما عبر عنه بالقول: “اللغة إنما هي الوسط الذي تجري فيه لعبة الحضور والغياب”[24]. وعلى هذا الطريق يحلّ دريدا مفهوم الاختلاف محلّ الحضور، لكن ليس الاختلاف السوسيري الذي يحقّق، من خلال اللغة، الدلالة الثابتة، ولكنه الاختلاف مضافا إليه الإرجاء différance، وهي كلمة نحتها دريدا بعناية فائقة، لتقصم ظهر النظرية البنيوية الاختلافية لدى سوسير حول اللغة. فعند دريدا ليس هناك هوية ذاتية حاضرة أمام نفسها بشكل مغلق، كل ما هنالك هو الإرجاء الذي يتخذ شكل حركة قرائية إجرائية مولّدة للدلالات. وعلى هذا النحو يصبح كل تفكيك للميتافيزيقا عند دريدا، رهينا بتغيير الأسلوب الذي نتعاطى به مع اللغة ومعانيها، بالقدر الذي يصبح به هذا الأسلوب، وعلى غرار ما يرى نيتشه كذلك، أسلوبا متعددا[25].

ولئن كان أسلوب دريدا هو التفكيك القائم على التعدّد والاختلاف والرقص واللعب الحر، فذلك لأن أسلوب الميتافيزيقا يتخلل النصوص من خلال الثنائيات الضدية التي تأسس عليها الفكر الغربي، من قبيل: العقل-العاطفة، الذات-الآخر، الكلام-الكتابة وغيرها. وهو نفسه الفكر الذي يمنح الامتياز والفوقية للطرف الأول، ويلقي بالدونية والثانوية على الطرف الثاني. فإذا كانت الميتافيزيقا هي هذا التحديد الموجه للدلالات فإن الخروج من الانبهار الذي كرّسته مركزية العقل والحضور لا يكمن ببساطة في تغيير المصطلحات بل يقتضي أساسا تغييرا في الأسلوب[26].

في ضوء ما سبق، يمكن الوقوف على خصوصية التفكيكية في مجاوزتها للميتافيزيقا، والتي تميزها عن المجاوزات السابقة لنيتشه وهايدغر، وتكمن في أسلوب التوغل داخل البنى الميتافيزيقية، وفضح أسطورتها ووهم حضورها. وهو ما يعني العمل على تذويب الدلالة المركزية أو الأصلية المفترضة، لينفتح الخطاب على راهنية الحاضر وآفاق المستقبل دونما قيود مسبقة. وكل ذلك بتوجيه من عقيدة الاختلاف حيث تتلاشى سطوة الدلالة المتعالية، وتتخصب إلى دلالات محتملة لانهائية.

5-التفكيكية والمقولات الأساسية

أ-مفهوم التفكيك:

تنطوي مقولة التفكيك على الكثير من اللبس والغموض، وهو ما يفسر توارد إشكالاتها وحدود اصطلاحاتها في مؤلفات دريدا، خصوصا ضمن كتابه (في علم الكتابة)De la Grammatologie، وهو كتابه العمدة، وكتابه الآخر (الكتابة والاختلاف) L’écriture et la Différence.  وعن ملابسات اختيار دريدا لمفردة Déconstruction (التفكيك) لتمثل عنوان الحمولة الدلالية لمشروعه، يقول دريدا:” كنت، بين أشياء أخرى، راغبا بأن أترجم وأكيف لمقالي الخاص المفردة الهايدغرية Destruktion أو Abbou كانت الإثنتان تدلان في هذا السياق على عملية تمارس على (البنية) أو (المعمار) التقليدي للمفهومات المؤسسة للأنطولوجيا أو الميتافيزيقا الغربية. غير أن déstruction إنما تدل في الفرنسية، وعلى نحو بالغ الوضوح، على الهدم بما هو تصفية واختزال سلبي ربما كان أقرب إلى الdémolition (الهدم) لدى نيتشه، مما إلى التفسير الهايدغري ونمط القراءة الذي كنت أقترحه. فاستبعدتُها. وأتذكر أنني رحت أبحث لمعرفة ما إذا كانت هذه المفردةdéconstruction (التفكيك)، (التي خطرت علي بصورة هي ظاهريا شديدة العفوية) أقول لمعرفة ما إذا كانت فرنسية حقا. فعثرت عليها في قاموس (ليتريه) lettré وكانت مؤدياتها النحوية واللغوية والبلاغية مربوطة فيه بأداء (مكائني). وبدا لي هذا الالتقاء مفرحا، وشديد التلاؤم مع ما كنت أريد على الأقل أن ألمح إليه..”[27] . يتضح إذن، أن دريدا رفض كلمة destruction التي تشير إلى الهدم سواء في صورته الهايدغرية أو النيتشوية، واتجه إلى إقرار كلمة déconstruction، لتلاؤمها النحوي واللغوي والبلاغي مع المؤديات الدلالية للتفكيك. ومن المعاني التي تؤديها هذه المفردة ضمن معجم (ليتريه)، يستعرض دريدا: تشويش بناء كلمات/ تفكيك أجزاء كل موحد/ تفكيك قطع ماكنة لنقلها إلى مكان آخر/ تفكيك الأبيات وإحالتها شبيهة بالنثر عن طريق إلغاء الوزن ..إلخ [28] .

ويقر دريدا بعدم الكفاية الدلالية للكلمة déconstruction نظرا لاقترانها بالظاهر السلبي المتمثل في البادئة  deالدالة على الهدم، رغم الفعل البنائي الذي يتوخاه دريدا من هذه الاستراتيجية التفكيكية:” بدلا من الهدم، كان يجب أيضا فهم كيف قيض ل(مجموع) ما أن يتشكل أو ينبني، أي، من أجل ذلك، إعادة بنائه. ومع هذا، فإن الظاهر السلبي كان وما يزال عصيا على المحو، سيما وأنه يظل مقرونا في نحو الكلمة نفسه، عبر البادئة (de) هذا مع أن بمقدوره أن يدل على صعود نسَبي (صعود في شجرة أنساب الكلمة) أكثر مما يدل على فعل تهديم. لذا فإن هذه المفردة، لوحدها على الأقل، لم تبد لي كافية أبدا.[29]

إن عجز كلمة التفكيك عن أداء وظائفها الدلالية يرجع إلى طبيعتها المتغيرة التي لا تستقر على حال ثابت، خصوصا وأن دريدا نفسه يرفض مفهمتها على هيأة نقدية ثابتة. من هذا المنطلق يرى دريدا أنه من السذاجة الاعتقاد بوجود معنى ثابت وواضح لمفردة التفكيك في اللغة الفرنسية. بل حتى ترجمتها إلى لغات أخرى لا يعد حدثا ثانويا، فهو مجازفة وإعطاء فرصة لإبدالها بمفردة أخرى وتطبيقها في مواضع أخرى[30]، وهذا ما يحفظ طبيعتها الاختلافية التي تعتبر شرطا لازما لاشتغالها أو بالأحرى وجودها.

وعلى الرغم من اللبس، أو بالأحرى، التضليل اللغوي لمصطلح déconstruction، يمكن القول إنه ” ثر في دلالاته الفكرية، فهو في المستوى الأول، يدل على التهديم والتخريب والتشريح، وهي دلالات تقترن عادة بالأشياء المادية المرئية، لكنه في مستواه الدلالي العميق، يدل على تفكيك الخطابات والنظم الفكرية، وإعادة النظر إليها بحسب عناصرها، والاستغراق فيها وصولا إلى الإلمام بالبؤر الأساسية المطمورة فيها”[31].

لكن على الرغم من العمق الاستقصائي للتفكيك في تجاويف النصوص، فهو لا ينتج معنى حاسما، ولا يثبت قراءة واضحة المعالم للنصوص، ذلك أن لغة التفكيك مفتونة بالتنكر والتمنع الدلالي، وهو ما يشير إليه دريدا في كتابه (أحادية الآخر اللغوية) بقوله إن التفكيك لا شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء، وكل شيء بما أنه يحيل إلى لا شيء أيضا، إنه أكثر من لغة[32]. وعلى الرغم مما سبق ذكره، فإن دريدا يصر على نفي صفة السلبية عن التفكيك(ية): إن التفكيك هو حركة بنائية وضد البنائية في الآن نفسه، فنحن نفكك بناء أو حادثا مصطنعا لنبرز بنيانه(..) البنية التي لا تفسر شيئا، فهي ليست مركزا ولا مبدأ ولا قوة أو مبدأ الأحداث، بالمعنى الكامل، فالتفكيك من حيث الماهية، طريقة (حصر البسيط) أو تحليله، إنه يذهب إلى أبعد من القرار النقدي، من الفكر النقدي، لهذا فهو ليس سلبيا مع أنه فسر كذلك على الرغم من كل الاحتياطات.[33]

لا شك إذن، أن التفكيك يختلف عن المناهج النقدية ذات الأجهزة المفاهيمية الصارمة، والتي تقدم براهين تحليلية متماسكة لوصف الخطاب، فهو ” يبذر الشك في مثل هذه البراهين، ويقوض أركانها، ويرسي على النقيض من ذلك دعائم الشك في كل شيء، فليس ثمة يقين (..) فهو رحلة شاقة، بل مغامرة محفوفة بالمخاطر”[34]. إن استراتيجيته التفكيك في مجاوزة الميتافيزيقا، تنطوي على قدر كبير من اللعب والمناورة، فنحن لا نخرج فعلا من نسق التعارضات الميتافيزيقية إلا بالدهاء والاستراتيجية، بالميلان والانحراف أو (الالتواء) بلغة دريدا[35]، بالقدر الذي يصير به الالتواء فاعلية تحقق المرونة المنشودة في القراءة، تلك المرونة التي تمتح من الاختلاف والتأجيل ولعبة الآثار وتذرية المعاني، مما يتيح قراءة النصوص في ضوء راهنية الواقع وحركته ونسبيته.

لقد هيأت التفكيك(ية) من هذا المنطلق، الأرضية اللازمة لمقارعة النصوص، وتفكيك بناها الارتكازية العميقة، دون أن يعني ذلك ذما للمؤلف. فالقصدية بوصفها مرجعية ثابتة للمعنى، تندرج على غرار الأنساق النهائية الأخرى ضمن عمل التفكيك(ية)، وهو ما يوجب حسب دريدا، ضرورة الفصل بين تفكيك هذه القصدية وبين التقدير اللازم لصاحبها، “ولهذا كان دريدا يضع لنفسه شرطين للإقدام على تفكيك نص ما: أولهما هو شعور الناقد التفكيكي بأن هذا النص (أيا كان نوعه) ذو عمق فلسفي، وثانيهما هو حب النص وتقدير مؤلفه. ولهذا رأى دريدا أن تفسيراته لنصوص أفلاطون وروسو وماركس وهيدجر وجينيه وجابس وسيلان وغيرهم نوع من الوفاء لهم”[36].

ب-مفهوم الكتابة الأصلية

يشكل التمركز العقلي، بوصفه أساسا ميتافيزيقيا حكم النظرة الفلسفية إلى المعرفة والحقيقة والوجود، منطلقا فلسفيا يترتب عنه تمركز صوتي، يعطي أفضلية للكلام المباشر على حساب الكتابة. فالصوت وحده يتمتع بعلاقة جوهرية مع الحضور. والكلام، بعكس الكتابة، هو وحده الذي يستطيع على الفور أن يتدارك ذاته ويصحح نفسه، فهو لا يحتاج إلى مرجع آخر سواه[37]. لكن دريدا سيفضح زيف هذه القيمة الميتافيزيقية، فهو يرينا “أن الفصل نفسه الذي تتوهم الميتافيزيقا إمكان إقامته بين الكلام (الفوري، المباشر، الحيوي، التعليمي، القادر على الاضطلاع بخطابه واستعادته وتصحيحه) وبين المكتوب (الجامد في حروفه أو قوالبه، والقاصر عن الإجابة من دون حماية أبيه وإسناده)، هو فصل إشكالي. فالكلام، كما أسلفنا في عرضه مع دريدا، هو نفسه كتابة، وذلك بمجرد أن يقبل (وهذا هو شرط معقوليته أو أدائيته) بالتقطيع والتفضية والفواصل وبنحو معين، أي ما يدعوه النحاة ب(التمييزية) diacricité . ومن جهة ثانية، يرينا دريدا أن الميتافيزيقا نفسها، وسقراط نفسه، غالبا ما يرجعان إلى استخدام مجازي لمفردة الكتابة، بها يسميان الكتابة الإلهية المنقوشة في القلوب (صورة ستتكرر لدى روسو)، كما سيتم الرجوع بعد سقراط إلى الكتابة الفعلية نفسها بالذات، وليس إلى مجازها فحسب، لإدانة شرور ..الكتابة[38]. وهو سوء الفهم والتناقض الذي يرى دريدا أن الميتافيزيقا تتأسس عليه وبموجبه تنتشر.”

إن الحوار المعمق مع هذه الإشكالية (تفضيل الكلام على الكتابة)، المندرجة في صميم ميتافيزيقا الحضور، سيفضي بدريدا إلى اجتراح علم للكتابة، ليؤسس عليه استراتيجيته في القراءة والتأويل. وقد خص دريدا هذه المقولة الإشكالية (الكتابة)، بكتاب كامل بعنوان (De la Grammatologea) أصدره عام 1967م، وترجم إلى الإنجليزية عام1976م، تحت عنوان (Of Grammatology)، وترجم إلى العربية ب (في علم الكتابة) أو (عن الغراماتولوجيا). وينطلق فيه دريدا – في دعوته التحديثية للكتابة- من الأسس الفلسفية والفكرية التي كان أسس لها، ليخلص إلى أن الكتابة ليست وعاء لشحن وحدات معدة سلفا، وإنما هي صيغة لإنتاج هذه الوحدات وابتكارها.[39]

إن المفهوم التحديثي للكتابة الذي سنه دريدا، لا يجعلها وعاء للكلام فحسب، ولكن للغة برمتها، وهي سابقة عليهما، فتكون “اللغة نفسها تولدا ينتج عن النص، وبهذا تدخل الكتابة في محاورة مع اللغة، فتظهر سابقة على اللغة ومتجاوزة لها، فهي تستوعب اللغة، وتأتي كخلفية لها بدلا من كونها إفصاحا ثانويا متأخرا، وهذا هو البعد الخلاق الذي يريد دريدا منحه للغة”[40]. لكن ما الذي تكونه هذه الكتابة السابقة على اللغة، وما هي خصائصها؟

يشير رامان سيلدن إلى ثلاثة خصائص أساسية تميز الكتابة في ضوء مفهومها الدريدي الجديد، والمتوافق مع مفهوم اللغة الجديد نفسه-عند دريدا-القائم على الاختلاف ولانهائية الدلالة، وهي: أولاها قابلية العلامة المكتوبة للتكرار في غياب منتجها الذي أنتجها في سياق معين، وكذا في غياب مخاطب محدد توجه إليه هذه الإشارة. وثانيتها أن العلامة المكتوبة يمكن أن تخرج عن إطار سياقها الفعلي، وتستنبت في سياق مختلف لا يراعي بالضرورة قصدية منتجها الأول. وثالثتها أن العلامة المكتوبة تقبل الإبعاد، فهي تنفصل عن غيرها من العلامات في سلسلة بعينها، وكذلك لا يمكنها أن تشير إلا إلى شيء ليس حاضرا فيها[41]. ومن هذا المنطلق، يمكن القول إن الكتابة بهذا المفهوم، هي كتابة الاختلافات بوصفها أثرا، أي الكتابة المعلومة الوجود والسابقة على اللغة، والمجهولة الماهية، وهي ما يسميها دريدا الكتابة الأصلية (l’archi-écriture) وهو مفهوم يتضمن الكلام والكتابة العادية معا.[42]

إن موقع الكتابة الأصلية يصعب تحديده، وهي ليست جزءا من نظام اللغة، بل هي شرط لكل نظام لغوي يحكمه الاختلاف والإرجاء بين دواله ومدلولاته. يقول دريدا:”إن الكتابة الأصلية بوصفها حركة للإرجاء وقضية مركبة أصلية، لا تقبل التبسيط، وهي تفتح في إمكانية واحدة، السبيل للتحديد الزمني والعلاقة مع الآخر ومع اللغة، كما لا يمكنها بوصفها شرطا لكل نظام لغوي أن تكون جزءا من النظام اللغوي نفسه، ولا يمكنها أن تصبح موضوعا يعالج داخل مجال هذا النظام (وهو ما لا يعني أن لها مكانا واقعيا في مجال آخر، أو موقعا آخر مخصصا لها)”[43] .ويسترسل دريدا في جدله مع إشكالية الكتابة، دون أن يقلب السلم الهرمي: كلام / كتابة. فهو بطرحه للتصور الجديد للكتابة الأصلية، يبين قدر العنف الذي مارسته هذه الكتابة على اللغة. فكتابة الاختلاف بوصفها عودة أزلية أسطورية، مزقت أوصال اللغة، وضيعت حلمها في تمثيل الحقيقة. يقول دريدا:” إن تفكيك هذا التراث لا يعني قلبه، لا يعني تبرئة الكتابة، بل يعني أننا نبين لماذا يطرأ عنف الكتابة على لغة بريئة. هناك عنف أصلي للكتابة لأن اللغة، بمعنى ما (..) هي أولا كتابة.. لقد كان التعدي موجودا بشكل دائم. إن اتجاه الخط المستقيم يظهر بوصفه تأثيرا أسطوريا للعودة”[44].

لقد أتى دريدا بالكتابة المزدوجة الذي يحرض نصفها الأول على قلب الهيمنة الثقافية التي يطابق دريدا بينها وبين الميتافيزيقا وسلاسلها الهرمية، في حين أن نصفها الثاني يتيح تفجر الكتابة في صميم الكلمة بحيث يؤدي هذا التفجر إلى تمزيق النسق المعهود[45]. فالكتابة هنا تقف ضد النطق وتمثل عدمية الصوت، وليس للكينونة إلا أن تتولد من الكتابة، وهي حالة الولوج إلى لغة (الاختلاف) والانبثاق من الصمت أو لنقل إنها انفجار سكون[46]. وبالتالي “فالمرجع بالنسبة للحقيقة مقرر سلفا بالمعنى ولكن المعنى متعلق بالكتابة البدئية بوصفه اختلافا متواصلا للدلالات، ولهذا فإن (الغراماتولوجيا) ترى أن ليس هناك شيء قبل اللغة أو بعدها. فمفاهيم الحقيقة والعقلانية ما هي إلا من نتائج المجاز والاستعارة “[47].

ج-مفهوم الأثر

 الأثر بين الاخ(ت)لاف والحضور

لا شك أن النص هو نسيج من الآثار التي تشير بصورة لا نهائية إلى أشياء غير نفسها، إلى آثار اختلافات أخرى، وهذا ما تؤكد عليه الطبيعة الاختلافية للغة كما تصورها دريدا. و” تظهر هذه الاختلافات بين العناصر أو بالأحرى تنتجها أو تجعلها تنبثق بوصفها كذلك، وتشكل نصوصا وسلاسل ونظم آثار. هذه السلاسل وهذه النظم لا يمكن أن تتحدد معانيها إلا في نسيج هذا الأثر أو البصمة”[48]. وعليه فإن مفهوم الأثر يرتبط -لدى دريدا-ارتباطا وثيقا بمفاهيم الاختلاف والكتابة والحضور، ذلك أن الاختلاف لا يمكن التفكير فيه بدون الأثر، لأن الأثر الخالص هو “الإرجاء نفسه الذي يفتح الظهور والدلالة. وهو الذي يربط الحي بغير الحي بوجه عام. وهو أصل لكل تكرار، وأصل المثالية، ولكنه ليس مثاليا أكثر منه واقعيا، وليس معقولا أكثر منه محسوسا، وليس دلالة شفافة أكثر منه طاقة معتمة، ولا يمكن لأي مفهوم ميتافيزيقي أن يصفه”[49]. وعلى الرغم من الطبيعة المعتمة لهذا المفهوم السحري الذي تنبني عليه فكرة الاختلاف الدريدية للمعنى، فيمكن القول إنه شرط أساسي للاختلاف في المعنى، فهو يتمتع بإمكانيته الاستباقية على كل نسق ميتافيزيقي. “فالأثر (الخالص) هو الإرجاء، وهو لا يعتمد على أي امتلاء محسوس مسموع أو مرئي، صوتي أو خطي، بل على العكس يكون هو شرط هذا الامتلاء. وبرغم أنه غير موجود، وبرغم أنه لم يكن أبدا موجودا-حاضرا خارج كل امتلاء، فإن إمكانيته سابقة من حيث المبدأ على كل ما نسميه علاقة (مدلول/دال، مضمون/تعبير، إلخ) وعلى كل ما نسميه مفهوما أو عملية، متحركة أو حسية”[50].

إن عدم الانتباه إلى وشوم الآخر المختلف في اللغة، من شأنه أن يعطل عجلة الاختلاف، ويسقط المعنى في حباله الارتكازية الميتافيزيقية، بعيدا عن المعنى الخاضع للصيرورة المعبر عن حقيقة اللغة، فبدون “أثر يحتفظ بالآخر في الذات بوصفه آخر، لا يستطيع أي اختلاف أن يقوم بعمله، ولا أن يظهر أي معنى”[51].

لا شك أن مقولة الأثر التي اجترحها دريدا في سياق (علم الكتابة)، كانت بهدف الإطاحة بمركزية الصوت والثأر للكتابة المهانة، وهي في نفس الوقت من المفاتيح المهمة لاستراتيجيته التفكيكية في القراءة والتأويل. وهي المقولة التي اعتبرها دريدا لعبة للاختلاف. وفي ضوء لعبة الاختلاف هذه، التي يسميها الأثر، يتشكل الشرط الأساسي لإمكانية تملص جميع المدلولات التي تستمد وجودها من العقل[52]. وبهذا المعنى، جاء مفهوم الاختلاف كرد فعل قوي على فكرة الحضور، وهو ما يعني أن علاقة الأثر-بوصفه لعبة للاختلافات-بالحضور هي علاقة تصادم، من خلال سعي الأثر الدائب إلى محو هذا الحضور. في ضوء ذلك، يحدد دريدا الأثر بأنه “كل ما يستعصي على أن يلخص فى حدود الحضور وحده”[53]. وعلى الرغم من هذا التحديد، فإن دريدا يعود ليؤكد أن الأثر ليس موجودا، شأنه في ذلك شأن الاختلاف، لأن الوجود يعنى الحضور.

الأثر والأصل :

يشكل الأثر من منطلق الأهمية التي يشغلها في تفسير اللغة، الفعل التفكيكي الثاني الذي يعقب حركية الاختلاف والإرجاء. هذه الحركية المؤدية إلى تحول الأصل إلى أثر لأصل، يتضح أنه هو الآخر أثر لأصل[54]. وعلى غرار تعارض هذا المفهوم مع مقولة الحضور، نجده ينبذ فكرة الأصل، فهو على حد قول دريدا:” إن الأثر لا يعنى فقط اختفاء الأصل، إنه يعنى هنا – فى الخطاب الذي نتبناه والمسار الذي نتبعه-أن الأصل لم يختف، إذ إنه لم يتكون يوما إلا فى مقابل اللا-أصل، أي الأثر، الذي يصبح هنا أصل الأصل”[55]

إن النظر إلى المعاني باعتبارها أثرا، هو إمعان في نفي صفة الأصلية عن الأشياء، إلى درجة أن النص قد أصبح في عرف التفكيكيين – كما يرى عبد العزيز حمودة-مجرد أثر لآثار آثار وليس أثرا لأصل معين. وهو ما يعني أن الأثر عصي عن أي تحديد، وأن لا وجود لأصل نقي، وإنما هناك فقط آثار تمنح إمكانيات مؤقتة للحضور.

لا شك إذن، أن مقولة الأثر هي مفتاح مهم ضمن الكتابة الأصلية التي وضعها دريدا في كتابه (في علم الكتابة)، إذ به تتشكل قوة الكتابة، لأنه يمثل وظيفة شبكة العلاقات الداخلية في تكوين العلامة، وهي وظيفة لا يمكن إفرادها ولا عزلها[56]. وهو ما نفهمه من قول دريدا:” إن كل عنصر يتأسس انطلاقا من الأثر الذي تتركه فيه العناصر الأخرى في السلسلة أو النسق”[57]. وعليه فإن الأثر وفق إمكاناته المتعددة، هو ما يحدد بنية الموجود كمجال للحضور، وهو سابق على هذا الموجود، وهو ما يشير إليه دريدا بقوله:” ينبغي التفكير في الأثر قبل الموجود. ولكن حركة الأثر هي بالضرورة حركة خفية (..) إن مجال الموجود قبل أن يتحدد كمجال للحضور تتحدد بنيته طبقا لإمكانات متعددة (..) للأثر”[58]. وفي ضوء هذا التأثير الذي يمارسه الأثر، تتحدد الوظيفة الجمالية الانفعالية التي تخاطب وجدان القارئ وذائقته، وهو ما يؤكده (محمد عبد الله الغذامي) بقوله: إنه على رأي الغذامي “القيمة الجمالية التي تجري وراءها كل النصوص ويتصيدها كل قراء الأدب” .[59]

وعلى غرار الوظيفة الجمالية، تبرز الخاصية الانمحائية للأثر، من خلال ما يرصده القارئ التفكيكي في النصوص من أثر لمحو متعلق بآثار أخرى. إن “هذا الأثر المبحوث عنه، معلوم الوجود، مجهول الهوية، ويتمثل ذلك في كون القارئ التفكيكي يقر بوجود الأثر، ومن ثم يبدأ في البحث عنه داخل النص ومحاولة تصيده دون ان يعي جوهر ماهيته، لأن الأثر في حركة دائبة من الجلاء والخفاء، ما إن يظهر حتى يختفي من جديد”[60]. وعليه، يصبح ” (الأثر) –trace مثلا هو ما يشير وما يمحو في الوقت نفسه، يشير إلى امحاء الشيء وبقائه محفوظا في الباقي من علاماته. ويقوم عمل دريدا على بعث طاقة التعبير الحية في المعنى الآخر (المهمش) لهذه المفردات، والتأكيد عليه بقوة بحيث يعود يواجهنا كلما ورد ذكر الكلمة المتضمنة له”[61]. وهو ما يجعل الأثر قناة للارتباط بسابق النصوص والعلامات، وللتيه في علامات أخرى لاحقة.

انطلاقا مما سبق، يمكن القول إن الأثر حضور متصدع سرعان ما يغيب عند كل امحاء وشطب، وعند كل امحاء ترك لأثر امحاء جديد، يحيلنا إلى نص آخر أثره محو للأثر نفسه. إن “هناك في كل نص ميتافيزيقي (أثر) موشوم يحيلنا إلى نص آخر حاضر بغيابه، وأن وشمة هذا الأثر على النص الميتافيزيقي لا يمكن أن تدرك إلا (كمحو) للأثر نفسه، وعلى الرغم من ذلك فإن هذا المحو يخلف أثره في النص. إنه لفظ تضاد ينطوي على قوة للخلخلة والتفكيك عملت الميتافيزيقا على الدوام على الحط من أحد معانيه.[62]

6-التفكيكية والثقافة العربية

لا شك أن دريدا قد استطاع أن يفرض ثورته التفكيكية في قلب الانشغال الفكري العربي. وكانت مساحة ما تمخض عن ذلك في النقد الأنجلوفوني مهمة ولافتة في الاستثمار العربي، ولا تقل أهمية عن التوظيفات التفكيكية العربية ذات المرجعية الفرنسية. فقد امتلأت بكتاباته ساحة الفكر العربي، وانشغلت به الثقافة العربية، وتكاثرت الترجمات وتسابقت في نقل معالم هذا المشروع، وشرح أسسه ومفاهيمه وطروحاته. وعلى هذا الأساس انتقل النص الفرنسي الدريدي إلى العربية مع كاظم جهاد وفريد الزاهي ومنذر عياشي وغيرهم. وكذلك من خلال شروحات أو تطبيقات أنجلوفونية لها طوابعها، ومساقاتها الخاصة، وتحولاتها وحساسيتها[63]. ومن أصحابها نذكر محمد عبد الله الغذامي، وميجان الرويلي، وعبد الله إبراهيم، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف وسعيد الغانمي، وسعد البازعي وغيرهم.

وعلى عكس ما صرح به “جابر عصفور” من تحفظات النقاد العرب في التبني الكامل لآليات التفكيك الدريدي بحكم العقلية والخصوصية الثقافية، يذهب “عبد العزيز حمودة” إلى أن النقاد العرب على الرغم من واقعهم الثقافي والحضاري المختلف، يستخدمون المصطلح النقدي والأدبي بكل دلالاته، فلا نص ولا دلالة ثابتة، لا تفسير نهائي للنص، لا تفسير مفضل أو موثوق به، اللعب الحر للغة، كل القراءات إساءة قراءات[64]. ليخلص إلى أن الواقع العربي يرفض الترف الفكري الذي وصل إليه الغرب، كما يرفض أن تنسحب مظلة الحداثة، بمفاهيمها الغربية، والمدارس أو المشاريع النقدية التي أفرزتها، على النصوص الدينية بصفة محددة في محاولات لأنسنة الدين[65].

غير أن مقاربة متأملة لمظاهر التفاعل الثقافي مع التفكيك في الحقل النقدي العربي، تفرض على الدارس عدم التسليم الخادع المفترض بين المقاربتين الكمية والنوعية لحضور التفكيك في الساحة العربية. وهو ما معناه أن حجما هائلا من الكتب والترجمات والاقتباسات لا يشكل دائما دليلا قاطعا على تأثير التفكيك وفاعليته في الساحة النقدية العربية. وعلى هذا النحو لا يعبّر الحضور البارز للفكر التفكيكي، سواء من خلال الترجمة أو الاعتماد النقدي أو الاختلاف الفكري ممثلا في المطارحات النقدية الحادة التي دارت رحاها على صفحات المجلات والكتب والجرائد بين “عبد العزيز حمودة” و “جابر عصفور”، لا يعبّر بالضرورة عن تغلغل هذا التيار وتأثيره في الفكر العربي. فسؤال “التأثر الجوهري بهذا التيار فإنما يجد له أجوبة في الكشف عن العمق النوعي لهذه التحولات المعرفية التي دخلت في حوار مع التفكيكية، سواء تعلق الأمر بالتنظير أو الإبداع أو التطبيق النقدي.

إن احترازات التعاطي التثاقفي مع الوافد التفكيكي يجد صداه في الطبيعة الثورية التدميرية، التي ليس لها رادع، وهي تتمادى في تقويض الانساق والمتعاليات في الثقافة العربية. ولعل المفارقة التي يقف عليها الدارس للتفكيكية تتمثل في أن النقد اللاذع الذي وجهته للخطاب الفلسفي الغربي، ستواجه به ضمن سلسلة من الاتهامات من قبيل العدمية والطوباوية، ذلك أن ضبابية المواقف التفكيكية وتملص طرحها المعرفي من الحسم والثبات نابع من أسلوبه المراوغة الذي ينطوي أحيانا على معاداة الثنائيات التضادية فقط لأجل الانتصار للهامش. لكن المفارقة هنا هي أن “التضاد أساس المعرفة وأساس التحيز، وبدون التضاد لا يمكن معرفة ما إذا كان توجه ما أفضل من غيره. ولذلك فإن دفاع ما بعد الحداثة عن الهامش جعلها تتقمص خصائصه، إذ انقلبت على أهميتها فأصبحت هامشية لا تغير من الواقع شيئا. وككل هامشي أصبحت ما بعد الحداثة تتمنى أن يتحقق الوئام فجأة فتسود العدالة وتختفي الطبقية الهرمية ويختلط المركز بالهامش وتلغى الفوارق من غير تحيز أو غاية”[66].

ويذهب “هاشم صالح” إلى انتقاد النموذج الفلسفي الجديد الذي تطرحه التفكيكية، والذي يتضافر ودراسة الأدب وتحليل الخطاب بوجه عام في عالم من الاختلاف المرجأ. فهو يرصد أن دريدا لم ينتبه إلى حجم الخسارة الناتج عن ذلك، فتحليل الخطاب الفلسفي على طريقة الخطاب الأدبي يعني إفقاده خصوصيته ومطمحه في التوصل إلى الحقيقة. كما أنه يعني قطع الأواصر بين الفلسفة والعلم، ويحول الخطاب الفلسفي إلى مجرد خطاب شعري أو أدبي[67]. ووفق هذا التوجه الثوري الذي لا يقيم حدودا بين الخطابات عبر قراءات تدميرية لم يتوان بعض النقاد بوصفها قراءات المراوغة والترنح والظلمة والعتمة، بل والعدمية التي أسس لها نيتشه في الفكر الغربي الحديث[68].

إن الفكر الغربي ما بعد الحداثي له سياقه الفلسفي الحضاري الخاص به، فالتفكيكية ما كان لها أن تظهر إلا في سياق ثورتها على الفكر البنيوي الذي يؤمن بمسلمة الأنساق والأنظمة المتعالية على حركة الإنسان والتاريخ. وهي ثورة بشكل أو بآخر، على الحداثة الفكرية الغربية المتمركزة حول العقل بما يفرضه من حقائق نهائية. إنها عقيدة تأليه العقل في مقابل “موت الإله”، والتي “يصعب بل يستحيل تنزيلها في تربة نقدية لها جذورها وقيمها الخاصة، كالواقع العربي ذي المرجعية الإسلامية التي تؤمن بالله الواحد الأحد، أصل الحياة ومنتهاها. وهو النسق العربي الذي يجد في هذا الوافد شكلا “من أشكال العدمية الكاملة التي لا تنكر وجود الإله فحسب، وإنما تنكر أية مركزية للإنسان، بل تنكر فكرة الطبيعة البشرية نفسها. وهي لا تنكر الحقيقة الدينية وحسب وإنما الحقيقة في أساسها، ولا تتمرد على فكرة القيمة الدينية أو الأخلاقية، وإنما على فكرة القيمة نفسها، أي أنها تنكر قيمة القيمة”[69].

غير أن أية مقاربة موضوعية لحساسية المثاقفة التفكيكية لا يمكن أن تغفل حقيقة ان التفكيك قد كرس موقعه ضمن خارطة الفكر الغربي باعتباره استراتيجية جديدة في قراءة النصوص، تتاخمه في ذلك مناهج ونظريات نقدية وطروحات فلسفية لا زالت سارية المفعول، وليست بأي حال من الأحوال على توافق نظري وفكري معه. وهو ما يفرض التفريق المنهجي بين التفكيك وبين ما بعد الحداثة بوصفها اتجاها فكريا شاملا. ف”هذا الاتجاه لا يمثل التيار السائد في الفكر الغربي (..) مازال هذا الاتجاه في العربية رافدا صغيرا من روافد متعدّدة في فكرنا المعاصر تشاركه حفريات فوكو وابستمولوجيا باشلر في الاستئثار باهتماماتنا الفكرية أو قل النقدية”[70].

وفي هذا السياق نستحضر ما أشار إليه المفكر المغربي “محمد عابد الجابري” حول خصيصة السرعة والتطور التي تطبع حقل الفكر والعلوم الإنسانية، وهذا ينطلي على مناهج النقد والقراءة التي لا يمكن التعامل معها بوصفها قدرا حتميا ونهائيا، بل سرعان ما تدخل أرشيف التاريخ والتراث الإنساني فاتحة المجال لأشكال جديدة. وبالتالي فهي ليست مخصوصة بتراث معين، والتراث الفكري العربي، من جهة مقابلة، في مجال علوم العقلية والمناهج والصناعات هو جزء من تراث الإنسانية، بما هو مساهمة حضارتنا في التراث الإنساني العام[71]. ومن هذا المنظور لا مغبة في أي تثاقف مع الفكر الأوروبي من الوعي بطابعه العالمي والشمولي، الذي قد لا يمنعنا من البحث فيه عن أجوبة لكثير من الأسئلة التي يطرحها علينا واقعنا الراهن. وهذا الوعي ينبغي أن يصدر عن وعي أكبر يخص التمييز “بين ما يخدم التقدم ويسير في اتجاه تطور التاريخ، وما يخدم الواقع الاستغلالي والهيمنة الامبريالية أو القومية العرقية. ذلك فقط هو معيار الاختيار في الثقافة المعاصرة والثقافات الماضية”[72].

 

ناقد من المغرب

 

[1]– الحداثة وانتقاداتها-2، سلسلة دفاتر فلسفية 12، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء،ط1، 2006، ص16.

[2]– سعد اليازغي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء-بيروت، 2002، ص225.

[3]– ما بعد الحداثة 1 تحديدات، سلسلة دفاتر فلسفية 13، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط1، الدار البيضاء،2007، ص28.

[4] – ما بعد الحداثة1 تحديدات، سلسلة دفاتر فلسفية 13، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط1، ج1، الدار البيضاء، 2007، ص48.

[5] – ما بعد الحداثة1 تحديدات، سلسلة دفاتر فلسفية 13، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط1، ج1، الدار البيضاء، 2007، ص37.

– نفسه، ص73.[6]

[7]– سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء-بيروت، 2002، ص228.

[8] – ما بعد الحداثة1 تحديدات، سلسلة دفاتر فلسفية 13، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار توبقال للنشر، ط1، ج1، الدار البيضاء، 2007، ص37.

[9]– سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء-بيروت، 2002، ص228.

[10]– عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه: دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع298، الكويت، 2003، ص100.

[11]– سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء-بيروت، 2002، ص226-227.

– نفسه، ص 141.[12]

– محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002، ص221.[13]

[14]– جون ستروك، البنيوية وما بعدها- من ليفي شتراوس إلى دريدا، ت.الدكتور محمد عصفور، علم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع206، الكويت، 1996، ص182.

– نفسه، ص183.[15]

[16]– بسام قطوس، استراتيجيات القراءة- التأصيل والإجراء النقدي، دار الكندي للنشر والتوزيع، أربد، الأردن، 1998، ص19.

[17] – جون ستروك، البنيوية وما بعدها- من ليفي شتراوس إلى دريدا، ت.الدكتور محمد عصفور، علم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع206، الكويت، 1996، ص183.

[18]– بسام قطوس، استراتيجيات القراءة- التأصيل والإجراء النقدي، دار الكندي للنشر والتوزيع، أربد، الأردن، 1998، ص19-20.

[19] – اللوغوس لفظ يوناني يشير إلى الكلمة التي تعبر عن الفكر الداخلي نفسه، ويستخدم في الفلسفة اصطلاحا للإشارة إلى العقل من حيث هو مبدأ الوجود.

– محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002، ص222 [20]

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص74.[21]

[22]–  محمد طواع، هيدجر والميتافيزيقا: مقاربة تربة التأويل التقني للفكر، افريقيا الشرق، الدار البيضاء، 2002، ص220.

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص47. [23]

[24]– جاك دريدا، الصوت والظاهرة-مدخل إلى مسألة العلامة في فينومينولوجيا هوسرل، ت. الدكتور فتحي إنقزّو، المركز الثقافي العربي، ط1، الدار البيضاء، 2005، ص34.

[25] – شكري الولهازي، مقال: دريدا وتفكيك الميتافيزيقا، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، ع140-141، بيروت، 2007، ص87.

– نفسه.[26]

– جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ت.كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، ط2، الدار البيضاء، 2000، ص58.[27]

– نفسه، ص58.[28]

– جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ت.كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، ط2، الدار البيضاء، 2000، ص60.[29]

– نفسه، ص59.[30]

– عبد الله إبراهيم، التفكيك الأصول والمقولات، منشورات عيون المقالات، ط1، الدار البيضاء، 1990، ص45-46.[31]

[32] – جاك دريدا، أحادية الآخر اللغوية أو في الترميم الأصلي، ترجمة وتقديم الدكتور عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم ناشرون، ط1، الجزائر العاصمة، 2008، ص15-16.

– عبد الله إبراهيم، التفكيك الأصول والمقولات، منشورات عيون المقالات، ط1، الدار البيضاء، 1990، ص45-46.[33]

[34]– عبد الله إبراهيم-سعيد الغانمي-عواد علي، معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت- الدار البيضاء، 1990، ص113.

[35] – شكري الولهازي، مقال: دريدا وتفكيك الميتافيزيقا، مجلة الفكر العربي المعاصر، مركز الإنماء القومي، ع140-141، بيروت، 2007، ص87.

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص46-47.[36]

– جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ت.كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، ط2، الدار البيضاء، 2000، ص26.[37]

– جاك دريدا، صيدلية أفلاطون، ت.كاظم جهاد، دار الجنوب للنشر، تونس، 1998، ص7.[38]

[39] – بسام قطوس، استراتيجيات القراءة-التأصيل والإجراء النقدي، دار الكندي للنشر والتوزيع، أربد، الأردن، 1998، ص28.

– نفسه، ص29.[40]

[41]– رامان سلدن، النظرية الأدبية المعاصرة، ت.جابر عصفور، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 1998، ص139.

– هشام الدركاوي، التفكيكية-التأسيس والمراس، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، اللاذقية، 2011، ص101.[42]

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص145.[43]

– نفسه، ص111.[44]

– أحمد عبد الحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك، سلسلة أوراق فلسفية، دار الفارابي، ط1، بيروت،2010،ص142. [45]

[46]– عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، الهيأة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1998، ص55.

[47]– عبد الله إبراهيم-سعيد الغانمي-عواد علي، معرفة الآخر: مدخل إلى المناهج النقدية الحديثة، المركز الثقافي العربي، ط1، بيروت-الدار البيضاء، 1990، ص135.

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص152.[48]

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص152.[49]

– نفسه، ص149.[50]

– نفسه، ص148-149.[51]

– جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ت.كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، ط2، الدار البيضاء، 2000، ص33.[52]

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص154. [53]

[54] – عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه-دراسة في سلطة النص، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع298، الكويت، 2007، ص192.

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة، 2008، ص147.[55]

– عصام عبد الله، جاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، القاهرة، 2008، ص31.[56]

– جاك دريدا، الكتابة والاختلاف، ت.كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، ط2، الدار البيضاء،2000، ص33.[57]

– جاك دريدا، في علم الكتابة، ت.أنور مغيث ومنى طلبة، المركز القومي للترجمة، ط2، القاهرة،2008، ص126.[58]

[59]– عبد الله محمد الغذامي، الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية، الهيأة المصرية العامة للكتاب، ط1، 1998، ص55.

– هشام الدركاوي، التفكيكية-التأسيس والمراس، دار الحوار للنشر والتوزيع، ط1، اللاذقية، 2011، ص97.[60]

– عصام عبد الله، جاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، القاهرة، 2008، ص28.[61]

– عصام عبد الله، جاك دريدا: ثورة الاختلاف والتفكيك، مكتبة الأنجلو المصرية، ط1، القاهرة، 2008، ص31.[62]

[63]– محمد أحمد البنكي، دريدا عربيا-قراءة التفكيك في الفكر النقدي العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، بيروت،2005،ص63.

[64]– عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة من البنيوية إلى التفكيك، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ع232،الكويت، 1998، ص30.

– نفسه، ص31.[65]

[66]–  سعد البازعي وميجان الرويلي، دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، ط3، الدار البيضاء-بيروت، 2002، ص229.

– أحمد عبد الحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك، سلسلة أوراق فلسفية، دار الفارابي،ط1،بيروت،2010،ص132.[67]

– أمينة غصن، جاك دريدا في العقل والكتابة والختان، دار المدى للثقافة والنشر،ط1،دمشق،2002،ص110.[68]

– د.عبد الوهاب امسيري، موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق،ط3،مج2،مصر،2006،ص178.[69]

– أحمد عبد الحليم عطية، جاك دريدا والتفكيك، سلسلة أوراق فلسفية، دار الفارابي،ط1،بيروت،2010،ص136. [70]

[71] – د.حسن حنفي ود.محمد عابد الجابري، حوار المشرق والمغرب-نحو إعادة بناء الفكر القومي العربي، المؤسسة العربية للدراسات والنشرذنط1، بيروت،1990،ص73.

– نفسه، ص40.[72]

عن madarate

شاهد أيضاً

ذاكرة الوجع: قراءة في رواية رجل المرايا المهشمة- ربيع عبد العزيز

ذاكرة الوجع: قراءة في رواية رجل المرايا المهشمة- ربيع عبد العزيز   لعل أول ما نلاحظه، في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *