الرئيسية / ملف الهايكو / الذاتية في الهايكو حسني التهامي

الذاتية في الهايكو حسني التهامي

على عكس ما جرى عليه الشاعرُ العربي الذي اعتمد في منجزه على الغنائيةِ، تختفي الأنا الشعرية في الهايكو، حيت يقف الشاعرُ موقفاً محايدا؛ يرتكزُ دورُه على التقاط ِالمشاهد الحسية في كونٍ لا متناهٍ، مليءٍ بالتفاصيل والكائناتِ التي تسترعي دهشته. ليست الذات محورَ النص الشعري، لكنها كائنٌ يتفاعلُ مع بقية الموجوداتِ الكونية. تقف الذات النرجسية حائلا في مسار الهايكو الحقيقي، لذا يقوم الهايكست حين الكتابة بدور المتأمل المشدوه بتفاصيل البهاء الكوني، وينقل مشاهده بطريقة محايدة، لأن تدخله حتما سيُفسد صفاء اللحظة المشعة (لحظة الهايكو)، ويحجب عن عينيه الشعاع المؤدي إلى الكمال الروحي. يتنحى الشاعر عن مسرح الحدث وينقل مشاعره عبر جزئيات المشهد الحسي، وكلما نجح في ذلك، كانت نصوصه أقرب إلى روح الهايكو.

لا يحق للهايكست الحكم على الأشياء بالجمال أو القبح، فعليه أن ينعتها بصفاتها الحقيقية، مثلا إذا وصف الشاعر شجرة وأضفى عليها صفات ليست من طبيعتها يعتبر هذا تدخلا في الحدث، لكن عند وصفه لها بالعارية، فإن صفة العري تعكس حالتها الحقيقية في فصل الخريف، على الرغم من استخدام وصف مجازي لتلك الشجرة:

غصنٌ عارٍ،

دميةٌ عالقةٌ تنتشي

تحتَ المطر

( مزار الأقحوان ص31)

لا نكاد نلمح أثرا للذات الشاعرة أو أي مشاعر مباشرة، فكل ما قام به الهايكست هو نقل المشهد الحسي كما هو، وجعل الظواهر الكونية تتحدث عن ذاتها، وإذا كان هناك أي إجراء تجريبي فإنه دون شك تجريب تنويري يحدث في حضور الذهنية الصافية التي تتأمل كل ما هو استثنائي في حركة الكائنات الكونية الدقيقة.

***

على الأغلب تكون مهمة كاتب الهايكو مراقبة المشهد وتصويره كما هو، دون إقحام ذاته وحضوره في قلب الحدث. يقول الشاعر الكندي الأمريكي بروس روس في مقاله “جوهر الهايكو”: “يُنكر الهايكو الأنا الذاتية، في الأساسِ الأنا الفرويدي وبنياتِها العقلية – أو ما يسمى بالعاطفة التي نجدها في بعض تجارب الهايكو، وتعتبر هذه الأنا حائلاً يعترضُ مسار الهايكو.” (21) تتحدث الأشياء عن ذاتها، وإذا أراد الشاعر أن يقحم نفسه، فلا يجب على الأنا أن تطغى، بل يكون حضورها ثانويا. تكمن خاصية التنحي في غياب الأنا، فالهايكو ليس تعبيرا عن المشاعر الذاتية والتجارب الخاصة.

في النص التالي لريتشارد رايت Richard Wright ، تبدو ذات الشاعر جلية، لكنها ليست الأنا المنغلقة والبعيدة عن محيطها الكوني:

أنا لا أحد

شمس خريف حمراء غارقة

أخذتْ اسمي بعيدا

(PoemHunter.com)

يستغرق الهايكيست في البحث داخل ذاته، وهذا الاستغراق لا يعكس اهتمامه بتلك الذات بقدر ما يهدف إلى معرفة الطبيعة الحقيقية للوجود البشري عبر الأشياء الكونية. هذا الامتزاج بين الذات والطبيعة يظهر الروح التأملية في نظرتها للأشياء؛ لم يذكر الشاعر اسمه أو يستمر في الحديث عن ذاته أو يجعلها محورا أساسيا، وبذا يتحقق الانسجام الروحي مع العالم الطبيعي.

إن الهايكو الكلاسيكي هو شعر الطبيعة بامتياز، وعلى هذا الأساس تذوب الذاتية على ضفاف المحيط الكوني، وينمحي التعبير عن المشاعر المباشرة، حيث تعد الطبيعة محورا أساسيا حتى لا يكاد تخلو نصوص الشعراء الأوائل من وصف الطبيعة حد الافتتان بها؛ فباشو على سبيل المثال كان شاعرا مطيعا للطبيعة متتبعا لتفاصيل الكائنات وتغيرها في الفصول الأربعة. اشتملت قصائد الهايكو التقليدي على الكيغو (الكلمة الموسمية)، التي تجسد الجمال الطبيعي وتمثل النزعة التأملية والروحية تجاه الأشياء. يقول باشو في إحدى قصائده:

كمْ أشتاقُ أن أرى

بين زهورِ الصباحِ

وجهَ الله (22)!

قد يبدو لنا صوت “الأنا”، لكنه يبقى خافتا أمام صوت الطبيعة الهادر. يعكس النص العلاقة بين الزهور وآلهة الكامي والشنتو عند اليابانيين قديما، وبحث الشاعر الدائم عن المعنى الروحي في الوجود، فهي ملاذه الهادئ ومحرابه المقدس

 

شاعر من مصر

 

عن madarate

شاهد أيضاً

 ترجمة كتاب الهايبون ” الطريق الضيق إلى أقاصي الشمال” لماتسو باشو  (الجزء الثامن) – حسني التهامي

 ترجمة كتاب الهايبون ” الطريق الضيق إلى أقاصي الشمال” لماتسو باشو  (الجزء الثامن) حسني التهامي   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *