الرئيسية / الفوتوغرافيا / الفواعل البصريَّة، اِسْتفْزاز لِخمول الذَّاكرة اِشتِغال لِأنْور درْويش – خليل الطيار

الفواعل البصريَّة، اِسْتفْزاز لِخمول الذَّاكرة اِشتِغال لِأنْور درْويش – خليل الطيار

«لَا تَكتَفِي اَلحُروب بِالْكَشْف عن أَسوَأ غرائزنَا، بل تصْنعهَا « الكاتب أمين مَعلُوف
أحد مَكامِن جماليَّات الفوتوغْرافْيَا يَتَمثَّل بِقدْرة الصُّورة على خَلخلَة مُحَصلَة الذَّاكرة وَوخزِها لِتعيد إِحيَاء الانْفعال اَلذهْنِي والْعاطفيِّ والْوجْدانيِّ لَشيئيتهَا المسْتهْدفة.
فالْكثير مِن الأحْداث والْمرْئيَّات المسْتوْطنة فِي أَرشِيف ذاكرتنَا، سُرْعان مَا يَأكُل النِّسْيان مِن جَرْف تَأثِير مُحصِّلاتهَا القديمة فَتصبِح عِنْد إِعادة مُشَاهدَة أيْ مَرئِية جَدِيدَة عن مُفْرداتهَا مُجرَّد اِسْتذْكار مُكرَّر، ومقْروء بَصرِي لَا نَقبِض مِنْه إِلَّا بقايَا اِنْطباعات عَابِرة لَا تُضيف شيْئًا لِفاعليَّة مُتعَة التَّلَقِّي.
هُنَا تُبْرِز مُهمَّة اَلمُنتج البصَريِّ (المُصور) لِيقوم بِتفْعِيل اشْتغالاته الجماليَّة يَقتَحِم خُمُول الذَّاكرة ويمْحو مَا عَلَّق فِيهَا مِن صَفَحات مَيتَة الأثر ، ويحفِّز فِيهَا قُدرَة أَدرَاك مَا مضى ومَا قرأ ومَا شُوهد بِفواعل بَصَريَّة جَدِيدَة لَا يَستهْدِف فِيهَا طَبْع نُسَخ مُكَررَة لِصور الأرْشيف القابعة فِي الذَّاكرة ، كمَا لَو أَننَا نُعيد مُشَاهدَة فِيلْم سِينمائيٍّ أو قِراءة قِصَّة مُشَوقَة، وَفِي كُلِّ مَرَّة تَعمَل ذاكرتنَا على اِستِباق اِسْتذْكار أَحدَاث مَا نُشاهِده ومَا نقْرؤه قَبْل وُقوعِهَا بل وَنحرِز نِهاياتهَا مُسْبقًا . وَهِي مُهمَّة تَحفِيز مِيلودراميٍّ لِلذَّاكرة وليْس إِثرَاء دِيناميكيٌّ لَهَا. وأشْبه مَا تَكُون بِعملِيَّة تَرمِيم صُورَة قَدِيمَة تَجذرَت فِي الذَّاكرة أَوشَكت أن تشيخ وتبْلى آثارهَا مُقتربَة مِن التَّلف النِّهائيِّ فَتكُون مُهمَّة تصْحيحهَا مُجرَّد إِنعَاش لَهَا قَبْل اِنطِفاء وهجهَا.
«أَنوَر درْويش» رفض هَذِه المعادلة ولم يَسْع لِإعْطَاء جرعة لِأحْيَاء ذاكرتنَا عن مَوضُوعة آثار اَلحُروب ولم يَتَقبَّل أن يَكُون مُضَمد أَوجَاع مُهمتِه إِنتَاج صُوَر عِبارة عن أَمصَال لِإنْعَاش ذاكرتنَا عن وَقائِع عَالِقة فِيهَا.
بل أَرَاد أن يَقُوم بِدَور اَلمخْرِج المبْتكر اَلذِي
يُفكِّر فِي مُعَالجَة نصٍّ « كِلاسيكيٍّ « بِرؤْية جَدِيدَة تُعيد قِراءَته بِجماليَّة مُغَايرَة.
وَبدَا واضحًا مِن خِلَال اَللغَة الجماليَّة اَلتِي
اِعتمَد فِيهَا قَاعِدة المثلَّثيْنِ لِكتابة سِرِّديَّته البصريَّة، أَنَّه غَيْر رَاغِب أن تَكُون نَتائِج لَوحَتِه البصريَّة مُجرَّد تَذكِير لِمشْهد مِن وَاقِعة تَكرَّر مُشاهدته والاشْتغال عليْه بِأكْثر مِن مُنْتِج بَصرِي سبقه في قِراءَته اَلعدِيد مِن زُمَلائِه المصوِّرين قَدمُوا خِلالهَا أعْمالا بَصَريَّة عَالِية اَلْجَودة اِسْتهْدفتْ آثار اَلحُروب اَلتِي اِجْتاحتْ مدينَته.
بل سعى لِكتابة مَادَّة بَصَريَّة وتقْديمهَا بِرؤْية مُغَايرَة تُخَالِف مَا اِسْتوْطن بِالذَّاكرة مِن عَناوِين قَدِيمَة، فَقرَّر تَوجِيه صَدمَة عَنِيفَة لِذاكرتنَا الخاملة تزيل مَا عَلَّق فِيهَا مِن اِنْطباعات جَاهِزة واسْتبْدالهَا بِمؤشِّرات دِيناميكيَّة جَدِيدَة.
فالْحروب تَجمدَت مُخلَّفاتهَا فِي ذاكرتنَا الجمْعيَّة بِعناوين جَاهِزة (دَمَار، بَشاعَة، فَضائِع ، مآس ، فِقْدَان ، أَوجَاع ، خَسارَة ، مَوْت )
لكن «أَنوَر درْويش» لَم يشأ تَرْك مِثْل هَذِه المعنونات المأْلوفة فِي مَتْن نَصِّه البصَريِّ ، بل أَرَاد دَفعنا لِنتأَمَّل مَا وَرَاء ذَلِك ، فَذهَب لِترْتِيب مُقومَات جماليَّات صُورته وإعادة إِنشَاء تَكوِين شيْئيْه الدَّار المهدَّمة مِن زَاوِية نظر تَحتِية Down shot وليترْكهَا تُهيْمِن على مِساحة اَلمُثلث الأوَّل بِالصُّورة فِي دَلالَة جَمالِية وَاضِحة سَمَّت بِهَا بِكبْرياء وَحرَص على إِبرَاز دقيق لِحَجم مَا ظهر فِي جسدهَا مِن أَوجَاع الدَّمَار كَنَموذَج مُصغَّر اِخْتاره لِلتَّعْبير عن مآلات مدينَته (موْطنه) اَلتِي اِجْتاحتْهَا حُرُوب المجاميع الشَّيْطانيَّة اِخْتزلهَا بِهَذا الدَّار العريقة والْأصيلة الأثر .
ولم يَقتَصِر على إِحدَاث الألم فِي نُفوسِنَا بِمَا حَققَه مِن نَجَاح بِتوْفِير مَسحَة العتَمة فِي
صُورته لِيكْثر مِن وَشِيجَة اَلحُزن والتَّأْثير العاطفيِّ ، بل ذهب لِيَضع قُبَالَه أثر جَمالِي تَوازن مع حَجْم دَارِه ، فَترَك مِساحة اَلمُثلث
الثَّاني مِن الصُّورة تُهيْمِن فِيه بِحضور بَصرِي فَاعِل سَمَاء مُكْفهِرَّة تُوشك أن تضع حمْلهَا وَتنزِل أديمَهَا على دَارِه اَلتِي اِختزَل فِيهَا عُنْوان أَكبَر هُو (الوطن) وَهُو يَرَاه مُدَمرا أَكلَت أَفوَاه اَلحُروب أَجزَاء كَثِيرَة مِن جَسدِه اَلعرِيق .
«أَنوَر درْويش» لَم يَترُك لَنَا فُرصَة الاكْتفاء بِهَذا الأثر السَّوْداويِّ اَلذِي عَلَّق بِذاكرتنَا بل أَرَاد إِنْعاشهَا بِبارِقة أمل اِسْتعَان بِهَا بِغَيث السَّمَاء لِيدعَنَا نُركِّز على إِمْكانيَّة إِعادة إِحيَاء هَذِه الدَّار (الوطن) طالمَا بَقِي عَصِي على الانْهيار يَحتَفِظ بِقواعده الرَّصينة ساعدتْ جمالية التكوين على إِبقَاء شُموخه وَهُو يُلَامِس شَأفَة السَّمَاء يَنتَظِر اِنهِمار خيْراتهَا عن قريب لِتبْرد أوْجاعه.
رُؤيَة «أَنوَر درْويش» بِزاوِية عَدسَتِه اَلذكِية ساهمتْ بِإنْشَاء ثَرَاء جَمالِي آخر فِي لَوحَتِه عزَّزهَا بِهَذه المعالجة اَلتِي ترك فِيهَا حَيِّز مُؤثِّر لِمساحة اَلغُيوم الملبَّدة وَهِي تَحتَضِن دَارَه أملا لِهطول أَمطَار طال اِنْتظارهَا لِتغْسل عار مِن تَسبَّب بِهَذه الفواجع لِأجْسَاد أوْطاننَا ، واسْتكْمل حِلْميَّة خلاصه بِالْإشارة إِلى إِبقَاء أثر بَصرِي مَعبَر ظَهرَت فِيه مِن بُعَيد أَعمِدة أَسلَاك الكهْرباء وهي مَا زَالَت عَالِقة بِخاصِرة الدَّار تُلَامِس غَيْث السَّمَاء مُعلَنَة قُدرَة وُصولِهَا لِإعادة إِضاءَته وابْتعاث الحيَاة المنْطفئة فِيه.
« الدَّرْويش» بِسرْديته البصريَّة المثريّة جَمالِيا نجح باِستفَزاز ذاكرتنَا لِيصرِّح بِأنَّ أَوَّل الغيْث قَطرَة ، وللْأوْطان المدمِّرة ، ربٌّ يحْميهَا.
باحث وفنان فوتوغرافي من العراق

عن madarate

شاهد أيضاً

حوارات فوتوفرافية – مع الفنان الفوتوغرافي نبيل العلمي

سؤال يطرح نفسه: ما علاقة الفوتوغرافي بالفوتوغرافيا…؟ هل مجرد هواية فقط، تدخل في نطاق علاقة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *