الرئيسية / ابداعات / القاتل الصامت – محمد البوركي

القاتل الصامت – محمد البوركي

الرماد يزحف، يكتسح كل شيء: المقاهي والمنتزهات والغرف المغلقة والمكاتب المكيفة والملاهي والشواطئ والغابات والساحات، يجتاح المسام والرئتين وشرايين القلب وخلايا الدماغ، ينسف المال والمعنى والمنطق. سلاح الموت الفتاك يباع في الأزقة والدروب، وفي الدكاكين والمتاجر الكبرى، يعرض في علب جذابة براقة من مختلف الأحجام والأشكال والألوان.
زبائن من كل الفئات والطبقات والأعمار: أثرياء، فقراء، علماء، مشردون، شرفاء، مجرمون، مثقفون، أميون، مشاهير …
لم ينج إبراهيم من هذا الزحف الجارف، كان أستاذا يضرب به المثل في الجدية والنباهة الفكرية ونكران الذات، منذ أن أحيل على التقاعد لم يبرح سريره إلا لقضاء حاجة ملحة، إذ لم تعد رجلاه قادرتين على حمله.
في ذلك القفص الإسمنتي المعلق بالطابق الخامس من العمارة، تؤنسه في وحدته ابنته فاطمة التي ترفل في ربيعها العشرين، مع كتبه ومجلاته وأوراقه وملفاته وأسطواناته.
كان لا ينفك يدخن باستمرار حتى صار كومة عظام يابسة.
نادى ابنته، لم تتوان في الاستجابة، لثمت ظاهر كفه، جلست بجواره، ناولته الدواء وكأس ماء، ثم قالت بصوت يفيض رقة وعذوبة:
– ألن تكف عن احتساء هذا السم الزعاف ، يا أبي ؟ لم تمتثل لتحذيرات الأطباء ولا لنصائح العلماء والأصدقاء. هل يرضيك أن تتحول إلى مدخنة تلوث الجو. قبل أن يجيب، أشعل الفتيل، توهج وجهه الشاحب النحيل، أغمض عينيه، سحب نفسا عميقا، نفث الدخان دوائر في الفراغ، اعترته نوبة كحة جافة طويلة متتابعة، هدأ قليلا، ثم قال وهو يلهث:
– كلامهم سخيف، ووصاياهم هراء، لا تصدقيهم يا عزيزتي، لدي مناعة قوية، أستطيع بها أن أقاوم الأمراض وأواجه الآفات.
لم تكترث لكلامه الواهي بل أردفت قائلة:
– خدعوك حينما قالوا : إن التدخين يساعد على التركيز ويطور الذكاء ، ويمنح الطاقة والكاريزما. إنما هي أراجيف يروجها أرباب شركات التبغ، أنت من زبنائها الأوفياء، لا تهمهم صحتك ولا سعادتك بل ما يجنون من ربح وفير.
لم يتحمل تقريعها الناعم، تأوه، وخاطبها بلهجة مستسلمة:
– حسبك هذا يا فاطمة ، سئمت هذه السفسطة العقيمة ، أريد أن أنام.
أخذ يقلب علبة السجائر بين كفيه، استرعت انتباهه جملة كتبت باللغة الفرنسية في الأسفل: Fumer tue) التدخين يقتل (، أمعن النظر كأنما يراها لأول مرة، انفجر ضاحكا، جحظت عيناه، انتابه سعال حاد، تنفس بصعوبة بالغة، خارت قواه، مال جانبا، ثم لفظ أنفاسه.
صرخت ابنته وناحت، احتضنته وقد تبللت وجنتاها بدموع حارقة، وهي تردد:
« انطلت عليك الحيلة يا مخدوع ، احترقت و لم يتبق لي منك غير الرماد ، لمن ستتركني أنا اليتيمة ، لمن … ؟.

قاص من المغرب

عن madarate

شاهد أيضاً

معانٍ مجنّحةٌ – ريما آل كلزلي

معانٍ مجنّحةٌ ريما آل كلزلي   عند الطّيرانِ تهربُ المسافاتُ فيقفزُ الحبلُ والهبوطُ سرابٌ   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *