لماذا الشعر…؟؟
صحيح أن بيت جدي له تأثير على كتاباتي، لكن لا يمكن نسيان بيت عمي الذي كنت أزوره من حين لحين، وأقضي فيه أوقاتا طويلة مع الكتابة، هناك كتبت عدة نصوص شعرية، فالبيت عمي يمتاز ببنائه الإسمنتي الحديث، هو أول بيت بني في القرية على هذا الطراز العصري، بالإضافة يوجد وسط مروج خضراء منبسطة، كأنك في ضيعة فلاحية، هناك كان كانت كل الظروف موازية للكتابة أبناء عمي لا زالوا صغارا، والهدوء التام. لكن يبقى بيت جدي مركز كتاباتي في المرحلة الأولى والثانية من تجربتي الشعرية، وكان جدي الضوء الذي ينيره فكلما جالسته إلا ونصا جديدا قابلا للكتابة يلح علي بتأريخه على الورق، إلا أني كنت أحاول أن أهرب من الكتابة إلى جدي لأستمتع بحكاباه التي لا تنتهي، وحكمه الرزينة، وطريقة استهزائه من أحد، فشخصية جدي القوية توحي للذات الكاتبة أن تغوص في عالمه البطولي والإنساني، وأجمل الأوقات التي قضيتها معه حين أختلي به في عزلته في نوالته، إذ جدي له عادات مضبوطة: يستيقظ قبل آذان صلاة الصبح وينام بعد صلاة العشاء، يصلي الصبح في البيت يتناول وجبة فطوره، ثم يتجه إلى الحقول البعيدة ” تيطرة” على متن فرسه، باستثناء يوم الجمعة يبقى في البيت ليذهب إلى المسجد لصلاة الجمعة، وبعد تناول وجبة الغداء يتجه إلى الحقول. هناك يقضي النهار كاملا يحرس الحقول الممتدة على مرآى العين، المغروسة بشجر التين ودوالي العنب، يسقيها من عين جارية جنب نوالته، هناك يتناول وجبة الغذاء حين لا يصوم، قبل آذان العصر أتوجه إليه.
(لا زال جدي في نوالته
معتكفا يقرأ الكون في ثباتٍ
زاهدا لا يبالي بالوقت يمضي
كأنه لا يطرق بابه التعبْ
يجني ما يداهُ قدْ زرعتْ أو غرستْ
ويوزع ما طاب من تين ناذر وعناقيد العنبْ
ومن حين لحين
يناجي ربه في الخلواتِ
ويدعوه في الصلواتِ
مطمئن البالِ
مرتاح السريرة
قلبه ينبض بالحياة
لا لشيء متعصبْ)
كنت أقضي معه ساعات يحكي لي ويحكي ويرويني من تجربته الطويلة في الحياة قرنا تقريبا، إذ كان معمر القرية؛ فينادون عليه “الفقير عبد السلام أو الحاج عبد السلام”، ربما أن وجوده أطفى على كتاباتي صبغة الحكي الشعري، وتوظيف الحكم، لذا كنت أجد ذاتي الكاتبة جنبه، بالإضافة أنه كان حنونا جدا ومسالما ويحاول ما أمكن ألا يؤدي أحدا من قريب أو من بعيد، وكل من يحتاج إلى مشورة يطرق بابه، وكنت أستمتع بالحقول ممتدة أمامي أسمع أصوات الطيور أو أغاني نساء من بعيد لا اراهن ولا أعرفهن، لكن جدي من أصواتهن يعرف كل واحدة:
(لن أكتفي أبدا بما حكيتَ
بل سأطاول عنقي إليك
كي أسمع من جديد
كأنك ما حكيت شيئا من قبلُ
وأنا مستمع إليك في عجبْ
أنت مفتاح هذا الكون أمامي
وأنت ممدد على الأرض
تتأمل فيه كأنه من تلقاء نفسه
يكتب في بوح قصيدة الحياةِ بالذهبْ
أرأيت يا جدي ما حلَّ بي
صرتُ أتبع ظلك في هذا الكونِ
أقتفي خطاك
وأصوغ منهاج الحياةِ على العشبْ؟)
يبقى لبيت جدي نكهة لا مثيل لها، كلما كنت أزره بعد وفاته أتحسس في كل ركن وجوده وذكريات تعبر الذاكرة في تمهل تعيد لي عمق الأرض وطيبوبة الوجه وهو في سلام يمضي أمامي وأنا ألاحقه بين المنحدرات المائلات متأملا في الكون، ومن حين لحين يرسل كلمات أو حكم.
شاعر من المغرب