التمهيد
تعد رواية «سرير الجائحة» للكاتب الشاب مصطفى بولهريس باكورته الأولى في اقترافه فعل الكتابة مختارا لا مجبرا، وهي في الوقت نفسه الإصدار الرابع ضمن منشورات «مجالس» بمدينة أولاد برحيل، التي بلغت إلى حدود العام 2022 خمسة إصدارات في مجالات الشعر والرواية والدراسات التربوية والمذكرات. وتقع الرواية موضوع الدرس في 143 صفحة من القطع المتوسط، صممت غلافها ضحى مصطفى من مصر، وضمنها الكاتب الإهداء والشكر، بالإضافة إلى تنويهات.
التقديم
اهتممنا في الآونة الأخيرة بالمكان/الفضاء في الرواية المغربية ، وحاولنا تتبع كيفية تكونه واشتغاله على مستوى علاقته بالحدث، وكذا بالشخوص، بالإضافة إلى شعريته التي يحفل بها، خاصة عندما نلفي الكاتب متنبها إلى قيمة الفضاء، وقدرته على بنائه خطابيا ورمزيا بشكل مكثف.
من هنا استمررنا في تتبع بناء هذا المكون الهام في الرواية المغربية، فلفت انتباهنا معطى جديد يخصه، قد أقول بكل اطمئنان بأنه يكاد يغيب عن المنظرين للفضاء فلسفيا وسريدا، ويتعلق الأمر بالتحول الذي يطال الفضاء في الرواية ارتباطا بموضوعها، أو قصتها، وشخوصها وتفاعل العلاقات البينية بينها.
نستند في كل ذلك إلى تأسيس نظري قوامه الطروحات النقدية التي بلورها غاستون باشلار في كتابه المترجم إلى العربية من قبل الروائي غالب هلسا، «جماليات المكان»، وكذلك تصورات مختلفة خاصة ما يذهب إليه ميشيل ريمون من أن «كل رواية لها نصيب من الاتصال مع الفضاء» حتى الرواية الذهنية. وكذلك شارل كريفل الذي يقول: «المكان هو الذي يؤسس الحكي لأن الحدث في حاجة إلى مكان بقدر حاجته إلى فاعل وزمن، والمكان هو الذي يضفي على التخييل مظاهر الحقيقة» .
وتلك النقاط بالذات هي التي سأحاول تتبعها في رواية «سرير الجائحة» للكاتب الصاعد مصطفى بولهريس، وبيان ذلك ما يلي..
تشكيلات المكان بين الانغلاق والانفتاح
أولا: الأماكن المغلقة
«يمثل المكان المغلق الحيز الذي يحوي حدودا مكانية تعزله عن العالم الخارجي، ويكون محيطه أضيق بكثير بالنسبة للمكان المفتوح، وقد تكون الأماكن المغلقة / الضيقة مرفوضة لأنها صعبة الولوج، وقد تكون مطلوبة لأنها تمثل الملجأ والحماية التي يأوي إليها الإنسان بعيدا عن صخب الحياة».
ومعلوم أن الناقد الغربي غاستون باشلار عد الفضاء المغلق بمثابة فضاء محدود من حيث المساحة والمكونات كالبيت والغرفة والسجن… ، والفضاء المغلق في نظره ينقسم إلى قسمين:
-مغلق اختياري، مثل البيت، يسكنه الإنسان بمحض إرادته، وظيفته حفظ الذكريات؛
-ومغلق إجباري، مثل السجن، يسكنه المرء مجبرا، وظيفته التأديب.
وفي الرواية التي نحدد بصددها جملة من الأماكن المغلقة، أبرزها:
1.البيت:
ويعد عالم الإنسان الأول، قبل أن يقذف به إلى العالم الخارجي، وهو في نظر باشلار فضاء للاطمئنان والسكينة والأمن من أهوال العالم. هو كذلك كوننا الأول، كون حقيقي بكل ما تحمله الكلمة من معنى، نطالعه بألفة فيبدو أبأسُ بيتٍ بيتا جميلا، جسدا وروحا، هو عالم الإنسان الأول، وأهمّ العوالم التي تدمج أفكارنا وذكرياتنا وأحلامنا الإنسانية. ولقد تمكن السارد من إثبات هذه الفكرة بقوله: «هذا البيت ليس لنا، ولكنه جزء منا، وفيه ولدت هي، وفيه قطعتُ الشوط الأخير من طفولتي…
يتكون هذا البيت من غرفتين صغيرتين، وصالون ضيق، ومرحاض، ومطبخ، ويوجد بالطابق السفلي من عمارة تتألف من ثلاث طبقات، يحمل ذكريات ومواقف لا تنسى أبدا»5 .
لكن البيت في الرواية ليس واحدا، فهناك بيوت متعددة، كلها فضاء أحداث عاشها السارد وعائلته الصغيرة. فهناك هذا البيت بالمدينة، وهناك بيت قديم بالقرية، وهناك بيت ثالث سيتحول إليه الجميع بعد إصابة حسن الحلواني الأب بالفيروس، وتوقف عمر الابن الشاب عن العمل. ولا يهمنا الحديث هنا عن بيت البارون مالك «مخبزة المجد» التي عمل بها حسن عجَّانا.
البيت الأول يأوي الزوجين والأسرة جميعا، وهو بيت لا يعلَن فيه الحب، الذي تم إعلانه من قبل الزواج خارج البيت، كما أنه فضاء للتربية على الأخلاق الحميدة، وحفز همة عمر الذي يحلم بالعبور إلى الخارج للعمل هناك، وهو أيضا فضاء لحب من نوع آخر، هو هذا الحب الذي يربط الأب حسن بابنته مريم ذات السنوات العشر.
غير أن مكونات البيت من صالة ومرحاض ومطبخ، وفي ظل الأحداث المتأزمة، تتحول عن وظيفتها الأصلية، فتغدو الصالة المربعة مكانا للتكور والانزواء،وهي ليست معدة لذلك، فهي مكان استقبال الضيوف. وصف السارد أمه وأخته فقال: «انكمشتا كعصفورين مهمومين»6 . كما يتحول المرحاض من مكان للراحة والتطهر إلى فضاء للبكاء والدعاء من أجل الفرج. ويتحول المطبخ بمواعينه إلى شخوص تبثها الأم شكاتها، وتبكي نفسها فيها. لمن سوف يتحدث الإنسان في عز كورونا، وهو محجور عليه في البيت إن لم يتحدث إلى الأشياء من حوله؟ أما السطح فبقيت وظيفته راسخة، وهي اعتباره فسحة لأخذ الهواء المنعش والتحرر من الضغط. إنه فضاء منفتح، متسلسل عن فضاء مغلق. لذلك يتعزز البيت هنا فضاء مغلقا مكانا، ومنغلق على شخوصه نفسيا.
ولكن، وفي ظل اجتياح الفيروس للمدينة، وقرار السلطات حجر الناس في بيوتهم، يتم التخلص من البيت بسهولة، لأنه مكان غير آمن، ولا يمكنه توفير الأمن والسلام والعيش بكرامة عند أسرة حسن العجّان. وقبل التخلص منه يرسمه السارد فضاء للدرس، في ظل اعتماد التعليم عن بعد، وكذلك سجنا، عندما تقرر السلطات فرض الحجر الصحي على المواطنين، إنه فضاء كان اختياريا مغلقا، ولكنه صار فضاء مغلقا إجباريا، لا خروج منه إلا بوجود ورقة الترخيص التي يقدمها المقدم سي بلحاج. قال السارد: «حتى الباب الذي نخرج منه أغلقه المساخيط، ولن تتخطاه قدماك إلا بترخيص من بلحاج» 7.
أما البيت الذي تم الانتقال إليه هربا من الوباء، ومن سوء الوضع بعد توقف الوالد عن العمل بمخبزة المجد، فهو المنزل القديم بالقرية، قرية تمازيرت أوفلا، القرية المعلقة في صدر جبل واقف، منازلها طينية، تحيط بها أشجار اللوز والزيتون والجوز، تثير في السارد شيئا من المغص والتوجس، ولهذا يمكن اعتبارها بمثابة فضاء مشحون بتجربة شخصية، كما أنها فضاء مفتوح، لكونها بلدة ساحرة ومنعزلة، وتعد مكانا مثاليا لقضاء فترة الحجر الصحي، في عزلة بلا وباء ولا جائحة. القرية فضاء مفتوح، ولكنها في ظل الجائحة تغدو منعزلة عن العالم، وكأن الجائحة لن تصل إليها أبدا. يضاف إلى ذلك أنها فضاء طفولة السارد، بمعنى أنها تتشكل هنا في مستوى المكان المفعم بتجربة شخصية، وهي تجربة الطفولة.
أردنا أن نتوقف عند البيت القديم8 بوصفه مقابلا للبيت الجديد بالمدينة، ففي القرية بيت قديم، تحولت عنه الأسرة منذ زمن إلى المدينة، وها هو في ظل الأزمة يصبح الملاذ لها بالرغم من عدم وجود المال الكافي للعيش فيه، ولكنه على الأقل فضاء جديد، يحمي من الوباء، وفي نفس الوقت يقضي فيه الوالد بمعية أسرته زمنا، قبل عودته رفقة ابنه عمر إلى المدينة بحثا عن عمل جديد.
وبين البيتين بوصفهما فضاءين أحدهما مغلق بالمدينة، والآخر مفتوح على العالم بالقرية، طرقات، أعُدُّها فضاءات مفتوحةً، ولكنها تقبل تأويلات متعددة، فقد قال فيها السارد: «الطرقات مغرية بالخيال والتفكير والسهو، إنها ليست مجرد سبل تفصل بين الأمكنة، بل هي مكان ملهم مقصود لذاته، يستلذ المرء خيالاتها، ويتمنى لو تطول وتطول حتى ينسى من أين أتى وإلى أين يسير؟»9 .
هكذا ينتصب البيتان بمقابل بعضهما بعض، وهما على انغلاقهما مختلفان تماما، فالأول مكترى، ومملوك من قبل صاحبه، وضيق، وله تكاليف لا تتوقف، والثاني مملوك للأسرة، وفسيح، وينطوي على ذكريات الطفولة، كما أنه ينتمي إلى عالم مصون من الجائحة. غير أن الأب له موقف آخر، فقد تمكن السارد من سبر غور نفسه، وهو على متن الحافلة، عندما كان ساهيا، فقال عنه: «فيم يفكر؟ في المنزل الذي ودعناه هاربين؟ أم في البيت الذي نسير إليه عائدين لاجئين؟»10 ، وهو تعبير يختزل إحساس الأسرة بكاملها، في كون المنزل القديم بالقرية ملجأ مؤقت فقط. فهو يتحول إذن من فضاء مشحون بتجارب شخصية إلى فضاء مغلق عبارة عن ملجأ من جائحة تجتاح كل شيء، حتى البيوت.
ويكاد يكون بيت الأسرة بالمدينة مكشوفا للقارئ، على عكس بيت المقدم سي بلحاج الذي قدمه السارد بغموض متعمد، الغموض الذي يشبه شخص المقدم نفسه، فوصفه بأنه متوار، يقبع في زقاق من أزقة الأحياء العتيقة، له باب خشبي عتيق، ينفتح بابه على ظلمة ورائحة ثوم، والإنسان بداخله شبح تحفه ظلمات الدهاليز. ولم يتعمق السارد في تبين التحول الذي طال هذا البيت نتيجة انتشار الفيروس وفرض الحجر الصحي، ربما لأن أعوان السلطة في هذه الفترة كانوا بمنآى عن التحولات عدا مكانتهم الاجتماعية التي ارتقت وتعززت.
2.مصنع الكمامات:
في عز الحجر الصحي، يلوذ الوالد وعمر بالمدينة من جديد بحثا عن العمل، ويتوفقان في إيجاد عمل بمساعدة جارهما القديم بإحدى معامل الكمامات، وهنا سوف نجد فضاء مغلقا جديدا. مصنع الكمامات فضاء تديره للا رشيدة بصرامة المرأة العاملة، ولكنه بالرغم من ذلك ينفتح ليس على المدينة وحدها، ولكن على العالم كله، فهو فضاء لصناعة الكمامات الطبية التي يتم تصديرها إلى دول الجوار، التي لم تستطع سد خصاصها من هذه المادةالحيوية خلال الوباء، كما أنه فضاء وصف العمل فيه بالملحمية، لأنه جمع إحساس العمال بجدوى ما يقومون به لصالح وطنهم. قال السارد: «بقيت أنا في مكاني أعد كل عشر كمامات زرقاء ثم أضعها في علبة تحمل علم المغرب وخريطته الكاملة وعبارة «صنع في المغرب»… شعرت ببعض الفخر والاعتزاز بأن أخدم جانبا من صورة المغرب في الخارج.. هذه ملحمة» 11.
ولكنه مع ذلك فضاء للتمويه، بحيث يتم إخفاء العمال نصفِهم عند زيارة وفد صحفي لتسجيل تقارير حول صناعة الكمامات، أو تقديم برنامج إعلامي حول المصنع.
ولم يقتصر حضور المصنع فضاء مغلقا للعمل، بل إنه تحول إلى بؤرة وبائية، التقط فيه حسن الوالد الفيروس، بعد إصابة مجموعة من عمال الليل به، وكانت للإصابة مضاعفات سريعة لأن جسد حسن منهك بالعمل سنوات طويلة بمخبزة المجد في الرطوبة والعفن. يتحول المصنع من مكان لصنع واقيات الوباء إلى مكان لإنتاج الوباء نفسه، وبوتيرة أسرع. قال السارد: «مررت بسلام وبحرارة معتدلة، لكن زئبق الجهاز سجل شيئا على جبهة والدي، فرن رنات الإنذار…لأفهم بعد همسات ثنائية أن حوالي ثلاثين عاملا وعاملة من فوج الليل قد نقلوا إلى المستشفى بعد تأكد إصابتهم بالفيروس» 12.
3.المخبزة:
وتأتي المخبزة فضاء مغلقا كذلك، وهي المكان الذي يعمل فيه حسن الحلواني، ويمتلكها رجل ثري، قدمه السارد على أنه باترون متسلط. تقع المخبزة تحت الأرض، وكأنها قبر، لذلك يصف السارد خروج الأب منها كخروجه من القبر تماما. ولقد اختار لها اسم «المجد» في تهكم ساخر من وضعها التجاري الذي يقتصر على صناعة الحلوى وتزويد الفنادق والمطاعم والمقاهي السياحية بالمدينة، وكذلك بالنظر إلى غياب أي مجد يمكن أن يطال أسرة حسن الحلواني وهو يعمل بها مدة طويلة من الزمن. وبالطبع سيتوقف العمل فيها ويسرح مع بقية العمال هناك، فتضيع حقوقه بسبب الجائحة، وبسبب تفريط مالكها في تأمين ضمان اجتماعي للعاملين بها. قال السارد عن والده: «فهو منخرط في الضمان الاجتماعي منذ سنته الأولى في عمله بمخبزة المجد التي لم نر منها مجدا أبدا»13 .
لقد توقفنا عند بعض الفضاءات المغلقة فقط، دون ذكرها جميعا لكثرتها كثرة مستفيضة في الرواية، وسننتقل إلى الأماكن المفتوحة.
ثانيا: الأماكن المفتوحة
المكان المفتوح ضد المكان المغلق، والمقصود به المكان الذي لا تحده الحدود والقيود التي تشكل عائقا لحرية حركات الإنسان وفعاليته ونشاطه، وانتقاله من مكان إلى آخر. ثم إنه مكان تحكمه من جهة أخرى طبيعة العلاقات مع الآخرين، وانفتاح هذه العلاقات على قوانين وضوابط وشروط مسموح بها وغير مسموح بها تتجاوزها.ومعلوم طبعا، من الناحية الجغرافية، أن هذه الأمكنة ترسم مسارا سرديا مفتوحا، فيما تحتم طبيعتها النفسية نوعا من الانغلاق، فهو إذن انغلاق نفسي وليس انغلاقا جغرافيا،
نستثني من هذا تحول العالم في ظل جائحة كورونا من مكان مفتوح إلى مكان مغلق، تنبهت الرواية إلى الإشارة إليه في مواطن عدة، من ذلك: «العالم كله موبوء ومغلق»14 ، و»ما أصغر العالم» 15.
إن الفضاءات المفتوحة أماكن تتجاوز كل محدد، أو مقيد نحو التحرر والاتساع. تتميز بضمها لأعداد كبيرة من البشر، ويتحقق فيها التواصل، وينتفي فيها الشعور بالوحدة والعزلة. ومن أمثلتها: البحر، والغابة، والصحراء، والجسور… وغيرها من الفضاءات التي تخلق نوعا من الانعتاق والانطلاق والانسجام مع الذات. ومن هذه الفضاءات في الرواية، نجد:
1.العالم:
قدم السارد العالم فضاء عاما، مفتوحا على كل الاحتمالات المخيبة للآمال، فهو يعج بالكوارث من حرائق وسقوط الطائرات المدنية وفيضانات وزلازل وفيروسات… ولكن هذا الانفتاح سرعان ما يقابل بالانغلاق، عندما يجتاح الوباء العالم فيضطر إلى غلق الحدود بين الدول، وقطع السفر عبر الأجواء، قالت الأم بأسى: «إلى أين بالسلامة؟ العالم كله مغلق» 16.
وهكذا يتضمن العالم دولا ذكرت بأسمائها، ومن بينها المغرب، ويقف فضاء مفتوحا في مقابل العالم كله، إنهما يشكلان تقاطبا إيجابيا، فالعالم مفتوح على الكوارث، والمغرب بحكم صلته بهذا العالم مفتوح هو أيضا عليها، ما يجعله غير ذي منأى عما يحدث في العالم، خاصة بظهور فيروس كورونا القاتل. قال السارد: «نعم زينب، المغرب جزء من العالم الذي تحكمه العولمة»17 . وتصور الرواية المغرب بمثابة وطن تغادره أجياله بحثا عن عالم أفضل، وعن المستقبل، ولكن الوباء يحول البلد المفتوح على العالم إلى الانغلاق برا وبحرا وجوا.
ويتضمن العالم كذلك دولا أخرى، أبرزهاويتضمن العالم كذلك دولا أخرى، أبرزها الصين التي انفتحت على العالم وصدرت له فيروسا جبانا يقتل الضعفاء فقط، إنها مبتدأ انتشار الوباء الذي تم تصنيعه في مختبرات ووهان كما تقول الرواية.
وإلى جانب ذلك، تم ذكر بلدان أخرى عرفت الوباء مبكرا كإيطاليا وفرنسا وسويسرا، هذه الأخيرة فضاء متميز في الرواية بوصفه أولا مكانا مجازيا لم يجر فيه أي حدث يخص السارد، عدا ما تعلق بحياة صديقته زوي التي كانت تتواصل معه من هناك، والتي وافتها المنية بأحد مستشفياتها، دون أن يتمكن السارد من العبور إليها بوصفها أملا محلوما به. سويسرا فضاء يحلم به السارد، ويود عبور المحيط والوصول إليها، ولكن ذلك لم يحدث، فتبقى أملا في العمل والحرية. وهذا ما يعكس موقف السارد، أما موقف الأب فمختلف تماما فهو يعدها بلدا للجبناء الذين لا يقدرون على العمل بوطنهم وتحقيق أمانيهم فيه. هكذا يختزل السارد سويسرا بجمالها الطبيعي في الحب والعمل والأمل، يقول موجها خطابه إلى زوي: «أنا أريد أن أكون هناك بجانبك»18 . إنه مكان مجازي بوصفه سبيلا إلى التنفيس عن الأزمة التي يعيشها في المغرب في ظل تفشي الوباء.
وعلى ذكر شخصية زوي، فقد تمكن السارد من التبصر بالمكان، والنفاذ إلى عمقه وكنهه عن طريقها، فقد جعل من شخصية زوي نفسها فضاء يمكن أن يكون حاملا للسارد على الخروج من أزمته النفسية التي خلفتها كورونا والحجر والانتقال إلى القرية والجحيم وقلة المؤونة، فقد قال على لسانها: «واسبحْ في هذه البحيرة الزرقاء حتى تتطهر من كل همومك الصغيرة» 19. ونستخلص من ارتباط السارد عمر بشخصية زوي وبلدها خاصة منه البحيرات ما يلي:
العيون الزرقاء = البحيرة الزرقاء
زوي = البحيرة
زوي = الصفاء والنقاء
زوي = مرآة عمر
عمر = مرآة زوي.
زوي تجد في عمر ما تفتقده في أبناء جنسها من قيم وصدق وإنسانية، وعمر يجد فيها سلامه وأمنه وتحقيق أحلامه كلها.
إنهما وجهان لعملة واحدة.
2.صخرة الريزو:
وفي القرية فضاء مفتوح متميز بناء ووظيفة، إنه صخرة الريزو.
تنتمي صخرة الريزو إلى القمم العالية، وهي مكافئة لكل ما له قيمة في الحياة [التواصل والمساعدات المادية من قبل عادل والتقاء أصدقاء قدامى والقراءة والمطالعة]، يقول السارد: «وجدت في القراءة بين الجبال لذة لا توصف، فأمسي عليها وأصبح عليها حتى صارت ديدني» . نعم، تنتمي صخرة الريزو إلى القرية، وتعد نقطة مفتوحة على العالم، بوصفها المكان الوحيد الذي ينفذ منه الخبر من العالم إلى قلب عمر. فقد وصلته من هناك رسائل زوي، وحمّل الكتب الرقمية، وطلب المعونة من عادل، وتتصل منه الأم لتطمئن على الوالد. بيد أنها تتحول في جريان الأحداث إلى مكان قد يكون قاتلا، خاصة في اللحظة التي فشل فيها الوالد في إقناع رب عمله من أجل الحصول على المال وتعويض فقدان عمله معه، وهو يجري معه اتصالا هاتفيا.
أما المكان المتحول فقد تمت الإشارة إلى مجموعة من الأمثلة حوله، بل يمكن القول إن الرواية حافلة بهذه التحولات المكانية؛ فقد تحولت مجموعة من الفضاءات مما كانت عليه قبل الجائحة إلى شيء آخر بعد الجائحة وخلالها، ما يعني أن كورونا لم تؤثر فقط في الإنسان، ولكن في المكان أيضا. من ذلك تحول البحر من فضاء الرومانس إلى فضاء للموت، وتحول الطبيعة من الجمال إلى القبح، ثم تحول البيت من الأمن والحب إلى الخوف والتوجس والسجن، وتحول المعمل من إنتاج ما يقي من الوباء إلى إنتاج الوباء نفسه، وتحول المستشفى من باب أمل إلى باب قبر يدخله غير الناجين.
الخاتمة:
صحيح أن «سرير الجائحة» للكاتب الصاعد مصطفى بولهريس تعد روايته الأولى، ومع ذلك فهي رواية جديرة بالقراءة، بالنظر إلى جدة الموضوع الذي تناوله فيها، وكذلك قدرته على الجمع بين التأريخ للجائحة من خلال المعطيات الرسمية الصادرة عن الحكومة المغربية أو من خلال قصة حسن الحلواني وأسرته المتخيلة، وهو جمع ليس بهيّن، فأكبر الكتاب تجربة هم الأقدر على صهر التاريخي الواقعي في الأدبي المتخيل.
ولقد توقفنا عند مظاهر كثيرة لقوة هذا النص بناء، خاصة التماسك البنيوي في بدايته ونهايته، وكذلك لحمة القصة وحبكتها المتقنة بالرغم من غلبة التوقع لدى القارئ على جل أحداث الرواية، خاصة ما يتعلق بوفاة الوالد، وعدم تجاوز السارد حدود المغرب. ولكنها مع ذلك رواية نجحت في تشخيص نفوسنا التي عانت من ويلات الحجر والحجز والخوف والموت واليأس والقنوط والتردد والتشرد والأمل والبطء والسرعة والضعف… وذلك لأن الروائي هو نحن جميعا بصيغة الجمع.
هوامش
1 يراجع مقالنا «شعرية الفضاء في رواية بدو على الحافة للروائي عبد العزيز الراشدي: التكون والاشتغال» الذي تم نشره ضمن كتاب جماعي عنوانه «آليات تحليل الخطاب»، صدر عن منشورات أبعاد في طبعته الأولى بتاريخ يناير 2022م. بين الصفحة 201 و213.
2 مجموعة من المؤلفين، الفضاء الروائي، تر عبد الرحيم حزل، منشورات إفريقيا الشرق، يناير 2002.
3 سنرى كيف انقلبت هذه التعريفات في رواية «سرير الجائحة»، بسبب الحالة التي يعيشها السارد في ظل أزمة كوفيد 19.
4 باشلار، غاستون، جماليات المكان، تر. غالب هلسا، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط.2، 1984، ص. 36، 38.
5بولهريس، مصطفى، سرير الجائحة، رواية، منشورات مجالس، الطبعة الأولى 2021م، ص. 36.
6 الرواية نفسها، ص. 12.
7 سرير الجائحة، ص. 34.
8 وصفه السارد بدقة فقال عنه: «بيتنا مطل على الوادي العميق الأخضر، وقبالته جبل شاهق يشكل امتدادا لسلسلة جبال الأطلس الكبير، مبني بالحجارة والطين منذ قرن كبقية منازل القرية بنوافذ صغيرة وسطح بلا درج، ينفتح الباب على بهو مغطى معتم قليلا كباقي منازل الجبال الثلجية، بضع غرف مستطيلة بأبواب أقصر من قامتي ودهليز رطب مغبر بأرضية ترابية، إنه منزل بسيط ملأ خيالاتي وألهمها كثيرا». ص. 50.
9 سرير الجائحة ، ص. ص. 43-44.
10 الرواية، ص. 41.
11 سرير الجائحة، ص. 86.
12 الرواية، ص. 96.
13 الرواية، ص. 63.
14 سرير الجائحة، ص. 119
15 الرواية، ص. 143.
16 الرواية، ص. 68.
17 سرير الجائحة، ص. 8.
18 الرواية، ص. 55.
19 الرواية، ص. 56.
20 سرير الجائحة، ص. 60.
قاص وروائي وناقد من المغرب