جمالية السخرية الروائية رواية “ثورة الأيام الأربعة” لعبد الكريم جويطي أنموذجا – زكية مجدوب
تكمن أهمية السخرية داخل الخطاب الأدبي عامة، من خلال مستويات تشكيلها، بوصفها ظاهرة فنية، تقوم على العلاقات والعلامات والأقوال اللغوية المرتبطة بالكتابة الإبداعية، بوصفها ممارسة فنية تسهم في إنتاج دلالة النص، من هذا المنطلق فإن السخرية قد تظهر في الخطاب معتمدة على كلمات مكررة أو أقوال أو إشارات. وأساليب ساخرة. تهدف إلى جمالية فنية خفية لذلك سنحاول إجلاء الآليات والأساليب المستعملة والأحداث الساخرة وكيفية تسخيرها في رواية” ثورة الأيام الأربعة” للكاتب عبد الكريم جويطي وتصويرها في قالب جمالي ساخر من خلال التلاعب بالألفاظ والمراوغة في الأساليب التعبيرية المتعددة، واللغة المجازية، وتصوير حقيقة ثورة مزعمة وتنظيما ساخرا بأسلحة وأدوات بدائية،
كيف جسدت جمالية السخرية في رواية ثورة الأيام لكاتب جويطي؟
ما دور المفارقة اللغوية والأسلوب الساخر في هذه الجمالية؟
- ضبط المفاهيم الأساسية: (السخرية، المفارقة، السرد.)
يرتكز كل عمل أدبي على مفهوم أساسي تمثل في السرد باعتباره “العملية الإجرائية التي تنتج عنها القصة، حيث يصير كل شيء من وصف وحوار وتعليق مرويا أو محكيا أي مسرودا”[1]، والسرد أداة الخطاب الروائي، إذ إنه يشمل المستوى التعبيري في العمل الروائي بما في ذلك الحوار والوصف، وهو بهذا المفهوم يقابل الحكي ويشكل معه حلقة تستوعب النص كله[2] بذلك فالسرد عنصر أصيل في الرواية، يتميز بالرحابة والشمولية وبالقدرة على تسريد مكونات العمل الإبداعي معتمدا على آليات فنية وأدبية متعددة، كالسخرية والمفارقة، والتعدد اللغوي وغيرها من الآليات الفنية والجمالية التي يعتمد عليها الكاتب في إبداعه.
لقد عرف مفهوم السخرية صعوبة في إيجاد مفهوم جامع للسخرية، ذلك راجع لتداخل هذا المصطلح مع باقي المفاهيم، فقد جاء في لسان العرب: “سخر منه وبه سخرا وسخرا ومسخرا، بالضم، وسخرة وسخريا وسخرية: هزئ به، (….) قال الأخفش: سخرت منه وسخرت به، وضحكت منه، وضحكت به، وهزئت منه وهزئت به، كل يقال (..،) والسخرة: الضحكة، ورجل سخرة: يسخر بالناس” [3]،
السخرية تعد بمثابة” توليفة درامية من النقد والهجاء والتهكم والدعابة وذلك بهدف التعريض بشخص أو مبدأ أو أي شيء وتعريفه بإلقاء الأضواء على الثغرات والسلبيات وأوجه القصور فيه”[4]، وقد ذهب محمد أمين طه على أن السخرية،” طريقة من طرق التعبير، يستعمل فيها الشخص ألفاظا تقلب المعنى ّإلى عكس ما يقصده المتكلم، وهي صورة من صور الفكاهة “[5]، كما أنها تعني ” فن إبراز الحقائق المتناقضة والأفكار السلبية في صورة تغري بمقاومتها والرد عليها وإيقاف مفعولها، “[6]
بذلك تعد السخرية وسيلة من الوسائل التي اتخذها الأديب للتعبير عن مشاعره، بطريقة غير مباشرة، فهي طريقة متميزة أو حيلة يعتمدها الكاتب لتمرير رسائل متعددة للقارئ، وعلى هذا الأخير أن يعمل على تقبل رسائله ومحاولة فك شفراتها ورهانها، كما أنها تعتمد على لغة بسيطة واضحة لأنها موجهة لعامة الناس فهي ” نوعا من الضحك الإعلامي أو التصوير الذي يعتمد على العبارة البسيطة أو على الصورة الإعلامية “[7]
فالسخرية فن يتسم بليونة اللغة ومراوغتها، ويتميز بالتمويه، حيث يس
عى الكاتب إلى إبراز معنى لا يقصده، وإخفاء معنى أخر هو المقصود، مما يصعب الأمر على المتلقي فيكون أمامه تحدي فك شفرات النص وتتبع رموزها ومحاولة معرفة ما ورائها من معاني. كما يمكن لنا القول بتعدد مفهوم السخرية بحسب متغيرات متعددة فقد اعتبرها سعيد علوش بكونها:” تتمثل في منهج جدلي، يعتمد على الاستفهام بمفهومه البلاغي، إذ تعتبر طريقة في توليد الثنائيات والتعليم على البعد البلاغي، ويربط (لوكاتش) و(كولدمان)، السخرية بوضعية الروائي بالنسبة للعالم الذي أبدعه، حيث يتجاوز بطريقة تجريدية الوعي الممكن لبطله”[8]
ولعل من آليات التي تعتمدها السخرية نجد المفارقة، باعتبارها عنصرا أساسي في النص الأدبي، إذ عدها البعض علامة على الأدب الجيد :” إن الأدب الجيد جميعا يجب أن يتصف بالمفارقة”[9] ، فهي تعد عنصرا ضروريا في الحياة عامة ، من ثم تعد عنصرا أصيلا من عناصر التشكل الفني للأدب، فينتج عن شكل المفارقة في العمل الأدبي صراع وتوتر في النص وهي حالة وليدة عن صراع بين نقيضين أو ضدين بشكل صريح مباشر أو خفي غير مباشر، ذلك ما يعطي للنص حيويته ونشاطه الفني فيزوده بشروطه الفنية الجمالية ،بذلك فإنه يمكن القول بأن” انعدام المفارقة أو الاختلاف يؤدي إلى انعدام الصراع أو التشابك وذلك يؤدي بدوره إلى انعدام أو ضعف الحركة”[10]،
كما أن المفارقة تقوم على فكرة في أساسها تتركز على التضاد، لأنها تطرح الشيء ونقيده مما يخلق نوعا من التوتر والصراع يؤدي إلى تصاعد وثيرة الأحداث وتعقدها داخل النص السردي، ” فأهمية التضاد تتأكد في الإبداع الفني عبر التاريخ”[11].
- مفارقة العنوان في رواية “ثورة الأيام الأربعة” لعبد الكريم جويطي:
يشكل غلاف الرواية عتبة أساسية إلى جانب العنوان في الرواية يمثلان مدخلان رئيسين للقراءة جاءت صورة الغلاف وهي بلون الأزرق السماوي في أعلى العنوان نجد “ثورة الأيام الأربع” بخط كبير مضغوط وفوقه مباشرة اسم الكاتب “عبد الكريم جويطي”، كما يظهر الغلاف جبلا يغطي فضاء الغلاف وهي لوحة تشكيلية أهم مكونات العمل ومجال تحرك شخصياته، بل تلخص بإيجاز كبير عمق فكرة كاتب الرواية وذلك من خلال العلاقة بين مختلف تلك المكونات، بالجانب نجد نسوة فوق ربوة منه، بلحاف أبيض وهن يتطلعن في الأفق ويستشرفن القادم منه، وخلفهن نجد مساكن وبيوت بالحجارة ، و صور رجال بعمامات بيضاء اللون مرتبة، وعلى الأغلب هم رجال القرية ، وأمام النسوة نجد وجوه أشباح تغلب علها الدهشة والتيه والضياع ، وأمام كل هذا تنتصب سلحفاة مكتوب عليها اسم (سرمد) وهو الاسم الذي أطلقه الكاتب على السلحفاة وسط حقول فسيحة وهي متجهة في طريقها نحو الأعلى باعتبارها شخصية رمزية تحمل في المخيال الثقافي يحيل على الدوام والاستمرارية والبطء في الحركة ،
ولعل حضور سرمد في الرواية لم يكن اعتباطيا إذ يحبل بدلالات عميقة تشير إلى البطء والاحتراز من الخطر عند الشعور باقترابه وعودته إلى بيته الداخلي، كما أنه يتميز بالاكتفاء الذاتي وحماية ذاته بنفسه، فقد اتخذت السلحفاة (سمرقد) كشخصية شاهدة ومترقبة لأحداث الثورة وتعقيداتها منذ البداية إلى أخرها وإصرارها الشديد في مرافقة صاحبها والتمسك به رغم المحاولة الكثيرة في إبعادها وإرجاعها. أما الصفحة الثانية للغلاف فكتب على ظهرها مقتطف من الرواية ويغلب عليها اللون الأبيض مع احتلال اللون الأزرق حيزا صغير، وبالعودة إلى الألوان الموظفة نلاحظ هيمنة اللون الأزرق إلى جانب اللون الأسود وقد تم تكسيرها باللون الأبيض.
أما بالنسبة للعنوان يعد أول بوابة لولوج عوالم الرواية، يحمل عنوان الرواية بمفارقة نحس بالدهشة وتدفعنا إلى الاستغراب والتعجب ،” فعنوان رواية “ثورة الأيام الأربعة” ، يحيل على وجود ثورة معينة ضد شيء ما مبهم لدى القارئ، لكن ما يزيد من شدة التوتر والاستغراب من العنوان هو تحديد زمن الثورة في أربعة أيام تلخص فترة انبعاث الثورة في رواية ضخمة أبطالها ليس بأبطال وتمردهم ليس بتمرد الثوار ، مما يستفز القارئ لولوج عوالمه باعتبار العنوان جزء من العملية الإبداعية وذلك نظرا للإيحاءات والدلالات التي يحملها،
لو تأملنا في كلمة ثورة نجدها تحيل على وجود تمرد على السائد وعدم الخضوع، بذلك تحيل على وجود أحداث متعددة تنشب عن هذه الثورة المنبثة في إطار زمني محدد سلفا في أربعة أيام، العنوان طويل نوعا ما ويدعو القارئ بإلحاح شديد إلى التعرف على موضوعه وخباياه، فيصور عالم روائي زاخر بالأحداث المشوقة والغريبة، ذلك أن من طبيعة الرواية أن تصور عالما حافلا بالاضطراب والانفعالات المتناقضة تارة والمنسجمة تارة أخرى، ممتلئة بعواطف الأمل واليأس واللقاء والإبعاد والتحرر والسخرية المرة،
فهذا الرصيد المتعدد يولد مفارقات متعددة، فالثورة بطبيعتها تتأسس على عدم الخضوع لظلم الظالم والذل والتطلع للتغير وتحقيق مكاسب جماعية، فتحتاج إل قائد مخطط لها وتابعة ينفذون الخطة بحذافيرها كما أنها تحتاج إلى أدوات ووسائل وعدة حديثة وليست بدائية وهذا ما يحقق مفارقة في الثورة المزعمة تنظيمها ، حيث يقوم لوجيستيك وطاقم الثورة على الاستعانة بالبغال التي تؤدي واجبها الطبيعي في حمل الأثقال لكن ما يدعو للسخرية والتهكم هو الخوض في سيرة البغال وصفاتها وعوالمها بدل اعتمادها فقط وسيلة لصعود الجبال الوعرة، خاصة لدى الأستاذ الفيكيكي، ” بغالون يسوسون البغال ولا يعرفون ما يحدث وما هم فيه، جهاز اتصال ، معطوب، كناية عن فقر تكنولوجي ثوري فادح، بضع مسدسات زاد من خبز وعلب سردين ووسادة الأستاذ الناعمة وكأنه ذاهب إلى نزهة للراحة والتمدد..، “[12]
تتحدد ثورة الجبل في إطار زمني ومكاني معين وشخصيات لها حس ثوري تؤمن بدوافع هذه الثورة ومكاسبها وتطلعاتها وليست ملقى بها في أحداث الثورة ثائرة ضد شيء يدعى تحقيق مغرب الغد الأفضل. وهذا ما يحقق مفارقة وسخرية لشخوص تابعة لا إرادة لها في تنفيذ ما تريد، بل عل المتأمل في الإيحاءات والدلالية التي يحملها العنوان بين طياته المثيرة إلى حد السخرية اللاذعة من حدث وشخوص وجدوا أنفسهم في ثورة مزعمة أو بشكل أدق مزحة ثورة بتعبير السارد:” هنا فوق بغل يتسلق جبلا في الليل تركب مزحة ثورية ولدها اختلاط غبي لأسباب ومسببات ومد لا يصدق من الصدف الساخرة التي على أنا وحدي أن أخذها مأخذ الجد”[13]
3-مفارقة اللغة والأسلوب الساخر في رواية “ثورة الأيام الأربعة” لعبد الكريم جويطي :
توظف رواية “ثورة الأيام الأربعة” كثيرا من الأساليب السردية الحديثة التي تصل فيها إلى حدود المفارقة والرمز، والتداعي الحر الذي يتجسد من خلال التوتر الناتج عن التضاد بين الواقع الخارجي وما يجول داخل النفس من هواجس ومفارقات ، كما ينبني النسيج اللغوي للرواية على مفارقات لفظية ولغوية متعددة ، يعد الأسلوب الساخر هو المهيمن على الرواية منذ البداية وحتى النهاية وحتى ذروة هذه المفارقات إذ من خلاله تدمج المأساة بالملهاة ويحدث انقلاب وسخرية في الدلالة ، فتؤدي هذه المفارقات دورا بالغ الأهمية على صعيد جمالية التلقي ، كما أن الكاتب نجده ينحت الألفاظ، يلجأ إلى لأسلوب الساخر الذي يعتمد على المبالغة في التصوير والدهشة الجذابة والمفارقات المضحكة، فهو يدمج الجد بالهزل بطريقة ساخرة، كما يستثمر المستويات المتعددة للغة، فأحيانا تأتي الكلمة رصينة متماسكة، وأحيانا تأتي متفجرة صلبة تدو لأخذ الحيطة والاستعداد للقيام بثورة لا مثيل لها في قالب من السخرية والتهكم من وجنودها ووسائلها،
نجد السارد يسخر من نفسه عند انضمامه كعضو من أعضاء الثورة: “حين تحركنا وبدأنا صعود الجبل، لم أكن أشترك معهم في تفاصيل وأسرار ومخططات ما نحن مقدمون عليه، كنت تماما في وضعية البغالين الثلاثة “[14]، يذكر في موضع أخر بسخرية تامة، الدور الذي أعطي له في ثورة حاسمة ضد المجهول تطلعا لاستشراف المستقبل:” روعت لمرأى هذه الكمية من السلاح، منح الأستاذ كل واحد من المجموعة بدله ومعطفا وزوجي حذاء وبندقية كلاشينكوف وكمية من الرصاص وقربة ماء، إلا أنا أعطاني مصباحا كشافا وقربة ماء وبدلته عسكرية ومعطفا وزوجي حذاء فقط، حتى في هذا العطاء كنت نشازا،”[15]
من أسخف الأمور والمواقف التي جرت في هذا التنظيم السري الثوري هو الحديث عن صفات البغال وطباعها في مسير الثوار ” تذكرت ما جاء في كتاب البغال للجاحظ، في باب طباعها قال: إن البغل كثير التلون، وإن كنت تركب بغلا على أنه عدو فاركبهيا إلهي، هل نحن خارجون لإسقاط نظام أم للتفقه في صفات البغال وطبائعها؟ ما هذه البداية الغريبة؟ جهاز إرسال لا يشتغل وثاني الاثنين اللذين أنا بسببها هنا مستغرق في تأملات عن البغال، لا شك أن وجهه الذي لا أراه شاحب وعينيه زائغتان وهي طريقة التحايل على مخاوفه وفي تصغير الخطر بعدم التفكير فيه”[16]،
لا يجد جوابا شافيا لما هو عليه كيف لأغنية لا تناسب العيد الوطني أن تزج به في هذه المتاهة التي لا نهاية لها:” ألاعب الرصاصات وفي الحق ألاعب البيض الذي باضته أغنية مشؤومة. من يصدق أنني أخرج في ثورة ضد النظام، وألبس زيا عسكريا مضحكا، وأحمل مسدسا وخمس رصاصات بسبب أغنية، من؟ ولأن العاطفة تبنى دوما بالأفعال التي نقوم بها كما يقول الوجوديون، فقد أحدث هذا التماس، يا للغرابة، مع المسدس ما يشبه الطمأنينة والثبات المحتشم، “[17]
إن أخفق الأمر فالمخزن لن يغفر لكل من كانت له صلة بما حدث، حتى البغال البكماء التي تحملنا الآن لن تنجو من بطشه الوحشي، حتى البغال البريئة ستنزع حوافرها وتسحق ضلوعها، ويخنق انتحابها وحشرجتها في الماء الآسن، (…) الليل البهيم لا يغفر لأحد”[18]
في موضع أخر تحضر المفارقة جلية واضحة في عين السارد كيف لمسيرة ثورة يصبح موضوع أبطالها الحديث عن البغال وأوصافها “نتظاهر بأننا نسمع ونحن لا نسمع، نرى ونحن لا نرى، نبتهل وقلوبنا بباب، نخوض ثورة نحن نتحدث عن البغال، هناك شرارة احتجاج ما تلقيها دوما دواتنا في وجه ليل الجماعة المطبق”[19]
سخرية لاذعة أمر القائد الأستاذ بالتخلي عن لباس الأناقة الذي كان يرتديه وإعطائه لباسا عسكريا غريبا عنه وإحساسه بالمتاهة وسط عالم لم يعرف كيف قذف فيه وكيف رسمت الأقدار له هذا حتى أصبح ثوريا مناضلا ضد شيء لا يعرف ما هو وكيف انخرط فيه مما يحقق مفارقة كبيرة بين واقع الشخصية وما يحس به في متاهة هذه الثورة التي أصبحت تشكل بالنسبة إليه قدرا أسود سيق إليه يقول في حديثه عن حدة ودهشة الموقف: ” بقيت في بلاهة هذا اليتم الثوري، جامدا أحمل ما أعطاني كما يحمل طفل شقي أمام أب غاضب دليل إدانته، أمرني الأستاذ بأن أترر من ثياب التنزه التي أرتدي، وبعد تردد ارتديت البنطال العسكري فوق بنطالي، وكان علي أن أشد جيدا ليوائم خصري، كما أنني طويت البنطان من تحت ليناسب طولي، خلعت حذائي ولبست الحذاء العسكري بصعوبة بالغة، لم أنتعل في حياتي شيئا معقدا شبيها بهذا، وفيه كل هذه الخيوط والعقد المعدنية، والجلد الصلد، كان مقاسه أكبر من مقاس رجلي وحين استوت قدماي بداخل فردتيه تحركت بإحساس وضع جبيرتين في قدمين مكسورتين، طويت السترة التي كنت أرتديها ووضعتها تحت إبطي وحملت الحذاء، انتبه الأستاذ لما أفعل وقال لي ناهرا:
- لسنا في حمام سي سالم، يا أستاذ، لا حاجة لك بهما ألق ما بيدك
وما زاد من غرابة هذه الثورة المزعمة تنظيمها قادة لا يملكون تصورا عن أهل الجبل وظروفه إضافة إلى الاعتماد على وسائل بدائية، في متاهة ثورة باردة باهتة تفتقد للحماس ولا تتوفر أغلب أعضاها على القدر الكافي من التجارب وقد برز الأمر بجلاء من العطب الذي أصاب جهاز الإرسال والاستقبال والذي سيتبين فيما بعد أن الأمر لا يعدو أن يكون جهلا فادحا بطريقة تشغيله.
- المفارقة من خلال الشخصية في رواية ثورة الأيام الأربعة لعبد الكريم جويطي.
ينظر للمفارقة هنا من زاوية من يقع ضحيتها، ولعل شخصية الأستاذ الشاب زيد السارد خير من مثل هذه المفارقة، حين قذفت به الأقذار من أستاذ مشارك في إحدى الأنشطة المدرسية في عيد وطني باعتباره مسؤولا عن الفرقة الغنائية للتلاميذ إلى أن يجد نفسه في متاهة الاتهام والتحقيق داخل مخفر الشرطة، يقول عن نفسه وهو يصف أحداث العيد الوطني: ” أعطي لي الإذن لنبدأ الوصلة الغنائية قبل أن تتحرك عاصفة التصفيق، أحسست بوخز في القلب وأنا أعطي بدوري إشارة للجوق لنبدأ عزف أغنية “ياناسي العهد” ، لنبدأ في الواقع ببناء المفارقة بحديث كلمات الأغنية عن نسيان وخيانة العهد، كأننا نلقي سطرا باردا على نار الوطنية التي أيقظتها كلمة المدير الحماسية، لم أكن أعي الأمور بالوضوح الذي أحكيه اليوم،.، ولم أدرك أن سوء اختيار الأغنية تحول بعد خاتمة المدير من رعونة اختيار إلى فضيحة كارثية، …كانت أغنية “يا ناسي العهد” هي تلك الحركة الساهية التي ندلق بها كأس الشاي ساخن على من نجالس، هي تلك الخطوة الزائدة التي نخرج بها إلى هوة، كيف لم أعرف أن أغنية فيها حديث عن أوجاع نسيان العهد والخيانة لا تناسب مقام عيد وطني، هناك شيء ساخر فيما جرى شيء ينبغي أن يقابل بقهقهة مجلجلة ، لكن البلد استوى ومنذ أمد طويل على كآبة ثقيلة تستولي على المباهج القليلة في حياتنا، حتى أننا نستغفر الله بعد كل ضحكة صغيرة ونقول:” الله يخرجها على خير” كأننا نعتذر للكآبة الراسخة على المس بذاتها المقدسة، …. يوم الاثنين وفي الصباح الباكر توصلت بورقة زرقاء قميئة بحجم الكف، فيها استدعاء للمثول أمام مفوضة الشرطة بحي سي سالم لأمر يهمني “[20]
يمكن اعتبار شخصية زياد شخصية مفارقة في الرواية، باعتباره شخصية محورية، إذ بتسليمه فعل السرد في مواضيع عديدة، هو الذي لا يعرف كيف وصل إلى الجبل وأي ذنب ألقى به في هذه الثورة سوى أنه أكل “من فاكهة المعرفة اللعينة “[21]، فوزه بلقب الجنرال الذي يقود ثورة الجبل بخفة تسمية من الأستاذ مختالة عند تسليمه سلاحه الذي سيقود به الثورة، فيثير السخرية والبلاهة ، يقف على أرض لا يدرك الكثير من المفارقات التي تعصف بها ،يقول عن نفسه :” لا أعر ف إلى أين نحن متجهون، أعرف بأن حرب العصابات تخاض من الهوامش وأقاصي الأوطان وحدودها، من المكان الذي يكون فيه وجود العدو ضعيفا وهشا ويسهل القضاء عليه، هناك حيث يوجد حلفاء محتملون وتضاريس وغابات تسهل الاختفاء والمناورة، يبتعد رجل حرب العصابات لكي يقترب وهو أكثر قوة وتجربة، يبدو أن العالم بكل شيء ومن معه في المنافي يعرفون هذا وقد خططوا لكل شيء بدقة تامة، وهنا نحن ننفذ ما رسموه. ولكن مهما كانت الطريق التي سنقطعها طويلة، حتى لو كنا نسير نحو تومبوكتوا أو في طريق الحج أو الحرير، فإنها لن تكفي لأقنع نفسي بأنني صرت ثوريا وأنني طليعة مسلحة لشيء اسمه الشعب، هل سيصدق هذا الشعب بأنني هنا أخاطر بحياتي بسبب أغنية عاطفية ولدت انهيارا غبيا من سوء الفهم جرفني في دوامة؟ من في هذا العالم الشاسع سيقنعه هذا؟ هنا فوق بغل يتسلق جبلا في الليل تركب مزحة ثورية ولدها اختلاط غبي لأسباب ومسببات ومد لا يصدق من الصدف الساخرة التي على أنا وحدي أن أخذها مأخذ الجد”[22]
ما لبث أن تقذف به الأقدار ويجد نفسه ضمن مجموعة الثوار والتنظيم المزعم اتخاذه بين جبال الوعرة يصرح في عملية إقحامه في ثورة لا يعلم عنها شيئا بطريقة ساخرة: “لا أقيم في أي شيء يوحدني بهم، لا أقيم إلا في الحيز المظلم لمأساة أني طرف في انطلاق ثورة مسلحة ضد النظام، ولم يسبق لي أن ضربت عصفورا بحجر… من بإمكانه أن يصدق أنني هنا في قلب ثورة مسلحة على الحكم بسبب أغنية عاطفية”[23]، يعبر ببلاهة مرة أخرى عن سخرية الدور الذي اتخذه في تنظيم الثورة:”هم تدربوا على استعمال السلاح وعلى تكتيكات حروب العصابات، وكل شيء مضبوط ومخطط له بدقة، وما عليهم إلا التطبيق الحرفي لخطوات محددة، وأنا الارتجال الوحيد في آلة الثورة التي تتحرك، والهزل الواضح في جد مفتوح على الحديد والنار، لذا فضل الأستاذ أن يحدثني عن خصال وطبائع البغال كأنهم أتوا بي للتسلية”[24]
فعبرت بذلك شخصية زياد عن هواجسها الداخلية عن قلقها الذي يلتهما داخليا ويطرح عشرات الأسئلة المتدافعة فيما بينها ويصف بسخرية موقف تسليم السلاح له وضحك كل من حوله على تسليمه لمسدس واحد وصراعه الداخلي في لحظة زمنية حرجة يقول السارد: “وضع في يدي مسدسا باردا، وأخرج خمس رصاصات وضعها هذه المرة في جيب معطفي، وقال ضاحكا وهو يربت على كتفي مرة أخرى:
- هذا هو سلاح القادة، يكتفون بمسدس فقط، أرأيت جنرالا يحمل رشاشا؟ هذا شأن الجنود فقط.
ابتسمت ابتسامة يائسة وغارقة في المذلة وأنا أتلقى مبالغته بما يشبه التعرض للرفس، سمعت الآخرين يضحكون أيضا أو خيل ذلك، جنرال التهريج والقسمة ايزى يوزع جنوده تحت العتاد العسكري ويعطونه لعبة ورتبة عسكرية مضحكة ليتلهى بهما. كنت أشبه في الواقع بأولئك الفتيان الأسرى الذين نراهم في الأشرطة الوثائقية للحرب العالمية الثانية، الذين يروعهم عدم الفهم أكثر مما تروعهم القذائف والنيران وضحكات وانتشاء المنتصرين من حولهم. ما علاقتهم بكل هذا؟ ما الفائدة من السلاح في أيديهم والأزياء الموحدة التي يلبسونها؟ ولماذا عليهم أن يقتلوا أو يقتلوا؟ ومن أي قار صنعت هذه العجلة السوداء الهائلة المجنونة التي تسحق كل شيء أمامها؟”[25]
ولكن الأغرب من ذلك كم كانت هذه الثورة سخية معه لترتقي به من جنرال من خشب، إلى مؤرخ الثورة وموثق أحداثها في واد إريس،” أريدك يا أستاذ أن تكون مؤرخ هذه الثورة، سجل كل ما تراه، كل ما يحدث أمامك ستحتاجه الأجيال القادمة، قلت لك في أحاديثنا الطويلة إن تذكرت، إن المخزن وحده في هذه البلاد يوثق لا ينسى، وحده يمتلك أرشيفا ويحكم بذاكرة قوية تتذكر كل شيء علينا أن نفعل الأمر نفسه، تاريخ مغرب جديد يبدأ اليوم
- خذ هذا المنظار لتنظر أبعد مما ينظر الآخرين، وسجل في المفكرة كل ما تراه جديرا بالتسجيل…- كن على أبهة الاستعداد، ننتظر تعليمات من القيادة وأخبارا، قد نغادر الوادي في أي لحظة، وحتى ذلك الحين أنت مكلف بشؤون الوادي وما يحدث فيه، وزير داخلية جمهوريتنا الفتية يا أستاذ. وضحك بطلاقة من يطلق مزحة، ثم تبعه الأستاذ بتلك الضحكة الحادة والمقتضبة”[26]
كما أنه من أغرب ما يعلق ببال السارد نصيحة الفقيه للأمة بوضع سكينا تحت الوسادة تجنبا للكاوبس ونوم الهادئ وهذا ما فعله لتجنب الخوف والهلع الذي كان يحيط به بسخرية كبيرة يقول السارد:” جربت تلك النعمة في الليلة نفسها وفي الليلة الموالية، وإمعانا في الاستكثار من ملذات النعيم، وضعت كل السكاكين المطبخ تحت وسادتي، ….”[27]واستعدادا لطول رحلة الثوار استعانوا بمؤونة وزاد، فأمر القائد الأستاذ بوضع الكيس في الحقيبة لكنه صدم بكونه لا يستطيع حملها لأن حقيبته ممتلئة لكن المفاجئة كانت بحمله لسلحفاة معه في ثورة مزعمة وهذا نص الحوار الساخر :” _ حقيبتي ممتلئة، لا مكان فيها لشيء أخر .
فقال بنبرة أمر
- أفرغها
غمغمت بصوت خفيض، لكنه لا يخلو من تصميم:
- لا يمكنني فعل ذلك، فرد بنفاد صبر
- ماذا فيها؟
- بعض حاجياتي، وسلحفاة ذكر، غليم، سرمد اسمه سرمد
- غليم، غليم…. ما هذا الفأر السيء؟
ثم فطن للهزل الكبير الكامن في فكرة ثورة تخرج برفقة سلحفاة، فضحك ذلك الضحك المنطلق المجلجل الصافي الذي يأخذ تفويضا من السياق الذي ولده، بل يتعالى عليه ويحرر الجسد من كل توتراته، ضحك بل قهقه وارتج جسده كله وخبط كفا بكف، فوجئ الركب الذي بدأ يتحرك لهذا الحبور المدهش الذي تملك الأستاذ فأوقفوا بغالهم ليتبينوا سببه، مسح الأستاذ وجهه بيده وسمعته يستغفر الله.”[28]
حاولنا من خلال هذا المقال مقاربة السخرية الروائية في رواية ثورة الأيام الأربعة، لعبد الكريم جويطي، والوقوف عند تحققاتها، وذلك من خلال ما تسخره الرواية من إمكانات خطابية وصيغ لفظية، سواء في شكل تعليقات السارد أو تدخلاته الميتاسردية. ولم يكن اهتمامنا مركزا بكيفية أساسية على نظام التعاقب أو التناوب بين مجمل الأشكال الصيغية، ما دام هناك استحواذ لصيغة الخطاب المسرود على سائر مناحي النص الحكائي. لذلك تعقبنا انتظامات أثار السخرية وأشكال حضورها وفق ما يتيحه النص ذاته، من توالد وتناسل وضعياتها ومواقفها وصورها، وهذا ما أتيح للرواية خلق مجرى هادر من النقد والتهكم كما لاح واقع الرواية متناقضاته ومفارقاته، ومن ثم كان مشروع الرواية وأطروحتها أن تكشف أوهاما وسرابات ظلت الشخصيات تلهث وراءها، ولم تنل سوى مزيد من الانهيار والتأزم في نمط حياتها، وبصورة عامة.
نافدة من المغرب
لائحة المصادر والمراجع
- المصادر
عبد الكريم جويطي، رواية ثورة الأيام الأربعة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2021
- المراجع:
- جيراد برنس، قاموس السرديات، ترسيد إمام، مريت للنشر والمعلومات القاهرة، 2003
- حامد عبده الهوال، السخرية في أدب المازني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، دط، 1987،
- رشاد رشدي، مقالات في النقد الأدبي، دار الجيل للطباعة، القاهرة، ط1، 1962، –
- س يدي ميويك، المفارقة وصفاتها، تر د عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي، دار الرشد، بغداد، 1982،
- سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1985،
- عبد الحميد شاكر، الفكاهة والضحك، رؤية جديدة، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، د ط، 2003،
- عبد الرحيم الكردي، السرد في الرواية العربية المعاصرة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2006، –
- كما أبو ديب، في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1987
- لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار المعارف، القاهرة، ط<1، ج3،
- نبيل راغب، موسوعة الإبداع الأدبي، مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، ط1، 1977،
- نعمان محمد أمين طه، السخرية في الأدب العربي حتى نهايبة القرن الرابع هجري، دار التوفيقية للطباعة، القاهرة، ط1، 1978،
إحالات
[1] – جيراد برنس، قاموس السرديات، ترسيد إمام، مريت للنشر والمعلومات القاهرة، 2003، ص48
[2] – عبد الرحيم الكردي، السرد في الرواية العربية المعاصرة، مكتبة الآداب، القاهرة، ط1، 2006، ص103
[3] – لسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار المعارف، القاهرة، ط<1، ج3، ص 1923
[4] – نبيل راغب، موسوعة الإبداع الأدبي، مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، ط1، 1977، ص179
[5] – نعمان محمد أمين طه، السخرية في الأدب العربي حتى نهايبة القرن الرابع هجري، دار التوفيقية للطباعة، القاهرة، ط1، 1978، ص15
[6] – حامد عبده الهوال، السخرية في أدب المازني، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، دط، 1987، ص 35
[7] – عبد الحميد شاكر، الفكاهة والضحك، رؤية جديدة، منشورات عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، دط، 2003، ص 51
[8] – سعيد علوش، معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط1، 1985، ص 62
[9] – س يدي ميويك، المفارقة وصفاتها، تر د عبد الواحد لؤلؤة، موسوعة المصطلح النقدي، دار الرشد، بغداد، 1982، ص6
[10] – رشاد رشدي، مقالات في النقد الأدبي، دار الجيل للطباعة، القاهرة، ط1، 1962، ص108
[11] – كما أبو ديب، في الشعرية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1987، ص49
[12] – ثورة الأيام الأربعة، 66
[13] – ثورة الأيام الأربعة، ص 19
[14] – ثورة الأيام ص 16
[15] – ثورة الأيام الأربعة ص 27
[16] – ثورة الأيام الأربعة، ص 21
[17] – ثورة الأيام الأربعة ص 31
[18] – عبد الكريم جويطي، ثورة الأيام الأربعة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1، 2021
[19] – ثورة الأيام الأربعة، ص 26
[20] – ثورة الأيام الأربعة، ص 140، 141
[21] ، ثورة الأيام الأربعة، ص 17
[22] -، ثورة الأيام الأربعة ص 19
[23]– ثورة الأيام الأربعة، ص 13
[24] – ثورة الأيام الأربع، ص 33
[25] – ثورة الأيام الأربعة، ص 29
[26] – ثورة الأيام الأربعة، ص 168
[27] – ثورة الأيام الأربعة، ص 32
[28] – ثورة الأيام الأربعة، ص 41