يعد الأدب الحكائي الأمازيغي من أغزر وأغنى الآداب الحكائية العالمية، أدب قال عنه العلامة ابن خلدون: ” وكثير من أمثال هذه الأخبار لو انصرفت اليها عناية الناقلين لملأت الدواوين”، لكن مع الاسف ضاع الكثير منها بسبب عوادي الزمن.
أدب حكائي يمس أغلب جوانب الحياة الانسان الأمازيغي ويعبرعن رؤاه الى الحياة وإلى الوجود.
رمزية القط في الحكايات الامازيغية:
أهم الشخصيات الحيوانية في الحكايات التربوية الأمازيغية الموجهة للأطفال هي شخصيتا القنفذ والذئب اللتان خصص لهما الأدب الحكائي اكثر من عشرين حلقة حكائية من سلسلة حكائية مشهورة لهما.
في هذه السلسلة، يلعب فيها القنفذ دور الحكيم الداهية الحامل لسمات الدهاء الايجابي يوظفه لتقويم سلوك الذئب وفق الأسس الأخلاقية والاجتماعية المتعارف عليها ، اي انه يمثل هنا دور الحافظ على النظام الاجتماعي وعلى المنظومة الثقافية التي تسير المجتمع، في حين يلعب الذئب دور القوة الخالقة للفوضى أحيانا وفي نفس الوقت يحمل سمات المكروالدهاء السلبي الذي يوظفه لمصلحته ولو على حساب القيم.
شخصيتان متضادتان ومتكاملتان ، يقابلهما في الثقافة العربية وفي بعض الثقافات الأخرى شخصية الثعلب التي ترمز إلى الدهاء والمكر؛ فإذا كان الأدب الحكائي الأمازيغي ميز بين الدهاء والمكر الايجابي وخصص له شخصية القنفذ وبين المكر السلبي وأسندته لشخصية الذئب، فإن الأدب الحكائي العربي وغيره تقوم فيه شخصية الثعلب بكلا المهمتين أي الدهاء والمكر الإيجابي والسلبي (وسنخصص دراسة لشخصيتي القنفذ والذئب).
يحمل القط في الاساطير والحكايات الأمازيغية خاصيتين متضادتين هما: الألفة والتوحش، فطبيعته الأولى المتوحشة هذبتها الألفة التي جمعته مع الانسان آلاف السنوات، ورغم هذا التهذيب فما زال طبيعة التوحش كامنة في الذئب، وتشير إليه بعض الحكايات الأمازيغية.
ففي دراسة للباحث محمد أوسوس في كتابه “كوكرا، في الميثولوجيا الأمازيغية” (1)، أورد فيه أن القط في الحكايات الأسطورية الأمازيغية يعيش هاتين الحالتين المتناقضتين والمتصارعتين
كما أورد الباحث حكايات أمازيعية، تدخل بعضها ضمن الأساطير المفسرة، تفسر سبب العداوة بين القط والفأر. تقول إحدى هذه الحكايات بأن الأفعى كانت تسكن بجوار قط وفأرة، وكانا زوجين سعيدين، فانتابت الغيرة هذه الحية من وفاقهما، فأرادت التفريق بينهما، لذلك أخبرت مرة الفأرة بأن القط يخونها مع احدى القطات، فطلبت منها أن تقص شعيرات من شاربه أثاء نومه لتصنع منها تعويذة لها؛ واتجهت الى القط فأوهمته بأن الفأرة أخبرتها بانها ستقتله تلك الليلة. تظاهر القط بالنوم، وأحس بالفأرة تقترب منه وفي يدها سكين، إذ ذاك تأكد مما أخبرته به الأفعى، فوثب وقتل الفأرة. واسرعت الأفعى الى الفيران فأخبرتها بما فعل القط، فهبت هذه وقتلت القط؛ ونقلت الأفعى ما وقع الى القطط فهبت بدورها تطارد الفئران للانتقام، ومنذ ذلك الحين بقيت العداوة الشديدة بين الطرفين؛ أما الأفعى، فبسبب هذا الجرم الذي أحدثه لسانها، فقد انفلق لسانها الى قسمين.
وفي حكاية أمازيغية أخرى اوردها الباحث في كتابه السابق(2) تفسر العداوة الشديدة بين القط والفأر مفادها ان القط وضع لدى الفأر الخياط قماشا جميلا ليصنع له منه ثوبا، لكن الفأر بدأ يقرض منه كل يوم قطعة، وبدأ يماطل القط، وأمام تهديد القط له، صنع له الفأر مما تبقى من الثوب قطعة وضيعة، فلما رآها القط انقض عليه لالتهامه، فهرب الفأر إلى جحره وتوارى فيه، ومنذ ذلك الحين نشأت هذه العداوة الشديدة بين القط والفأر..
أما التفاسير الدينية الاسطورية فتقول بأن الفأر في سفينة النبي نوح بدأ في قرض حبال السفينة، فخاف نوح من غرقها فشكا إلى الله أفعال الفأر “فأوحى الله إليه أن اضرب بين عيني الأسد، فضرب فخرج من منخره سنور وسنورة، فأقبلا على الفأر!!” (3).
هذه العداوة الطبيعية المستحكمة بين القط والفأر وظفتها بعض الحكايات الأمازيغية ومن بينها حكاية “أزّان يوگين ئمنسي” أي الطفل الذي رفض عشاءه او ” le petit enfant”(4) ، وترجمها أحمد بوكماخ بعنوان “أكلة البطاطس” (5) ، وقد سبق أن تطرقنا إليها في الحلقة الأولى من هذه الدراسة (مجلة مدارات الثقافية العدد 39) كما أشرنا إلى تنويعاتها الأخرى بالمغرب؛ ورأينا كيف بنيت الاحداث في النصف الأول من هذه الحكاية وفق مسار حكائي يخرج الأشياء والظواهرعن قانون الطبيعة القائم على التضاد الى ان وصلت الاحداث الى شخصية القط ليعيد هذه الاحداث -لطبيعته المتوحشة – الى وضعها الطبيعي القائم على صراع الاضداد حين قبل بأكل الفأر.
فالحكايات الأمازيغية التي ترد فيها شخصية القط، تشير إلى ثنائية التوحش والألفة أي الطبع والتطبع لديه، فالقط غالبا أليف، لكن تنتابه أحيانا حالات التوحش حين يغلبه طبعه (والطبع يغلب التطبع)، وهو ما عبر عنه مثل امازيغي يقول” ئغتّ ؤر يوفي أموش ئنا تچا” أي إذا لم يستطع القط الوصول الى قطعة اللحم المعلقة أمامه (غريزة التوحش) قال بأنها نيئة (التبرير الثقافي). ومنها كذلك الفكرة السائدة التي تقول بأن الكلب يبقى دوما وفيا لصاحبه في حين ان القط يمكن ان يتنكر له بمجرد أن يجد مكانا افضل من الأول.
رغم أن مظهر الألفة هو الغالب على القط لكن الحكايات تظهر جانب التوحش فيه في أشكال متعددة، في علاقته بالانسان كما في حكاية موزيا (سنتطرق إليها لاحقا) وغيرها من الحكايات أو في الحكايات التي يرد فيها مع الفأر والتي تجسده في صورته المتوحشة والتي تخضع للقانون الطبيعي في عداوته الطبيعية مع الفأر، حيث تظهر طبيعة التوحش الكامنة فيه رغم طبيعة الألفة التي يبديها؛ وهو ما رايناه في الحكاية الامازيغية موضوع الدراسة الاولى اي حكاية ” أزّان يوگين ئمنسي” أو “أكلة البطاطس”؛ فمسار الحكي فيها سار في خط حكائي أسقط علاقات التضاد التي تحكم العلاقات بين الأشياء المتضادة في الطبيعة (فالنار ترفض أن تحرق العصا، والماء يرفض أن يطفئ النار…) وهكذا اختل القانون الطبيعي لكن حين وصل مسار الحكي إلى القط يوقف القط هذه الفوضى (حين يقبل بأكل الفأر)، وليرجع الاحداث إلى شكلها الطبيعي اي التضاد الذي تقوم عليه الطبيعة، والتضاد هنا يعني أن على القط التهام الفأر، وهو الشخصية الحيوانية الذي سيقوم بهذه المهمة المتعلقة بإرجاع الاحداث في الحكاية الى وضعها الطبيعي.
أما الشكل الثاني من هذه الثانية وهو الألفة، فيرد في بعض الحكايات الأمازيغية لكنه أحيانا تشوبها طبيعة التوحش يحاول القط إخفاءها، ففي حكاية أمازيغية تتحدث عن “توبة ” القط الذي ذهب إلى الحج؛ فبعد رجوعه، اتفقت الفئران على تهنئته، فكلفوا أشجعها على زيارة القط وتقديم التهنئة له؛ رحب القط الحاج بممثل الفئران وسأل عنهم، وأخبر الفأر بتوبته، فلما رجع الفأر إلى الفئران تجمعوا حوله ليعرفوا أخبار القط وحقيقة توبته، فقال لهم الفأر” علامات التوبة تبدو على وجهه، لكن شعرات شوارب فمه المتراقصة فضحته لما وقفت أمامه”.
وترد في حكاية امازيغية أخرى بعنوان “موزيا” (6)، هذا الاضطراب في هذه الثنائية التي يعيشها القط. تتحدث هذه الحكاية التي عن فتاة وقطتها .وتقول الحكاية،إن فتاة واسمها “موزيا”وجدت حبة قمح أو حبة شعير أثناء كنس منزلها، فنادت على قطتها التي تؤنسها لتقاسمها الحبة (للدلالة على الألفة) فوضعت الحبة بين أسنانها لتقسمها( وتفسرهذه الحكاية سبب الفلقة أو التجويف الذي يوجد وسط الحبة الى موضع أسنان ‘موزيا’ عندما ارادت تقسيم الحبة بينها وبين قطتها)، لكن القطة لم تستجب لنداءها رغم سماعها له، لذلك وضعت الفتاة الحبة في فمها وأكلتها، وعندما استفسرتها القطة فيما بعد لماذا نادتها، فأخبرتها الفتاة بالأمر، لذلك انتقمت منها القطة بإطفاء موقد البيت بمائها(غلبة التوحش على القطة، فالنار هنا رمز للمعرفة وللثقافة، وهو ما تحدثت عنه اسطورة بروميتيوس الذي سرق النار من الآلهة وأعطاها للبشر.. )، فاضطرت معه الفتاة للخروج من منزلها (من الثقافة الى التوحش) للبحث عن النار عند الأسد(التوحش/ الطبيعة) الذي عزم على افتراسها بعد ان منحها جذوة النار، ليتتبع خطواتها نحو منزلها… وتنتهي الحكاية الى نجاة الفتاة بعد مجيء اخوتها بعد أن ساعدتها انثى غراب فحملت رسالتها إليهم وهي عبارة عن خاتمها فهبوا الى نجدتها.
إطفاء النار هنا من طرف القطة هو عودة إلى طبيعة التوحش الكامنة فيها، اي اطفاء نار المعرفة والحكمة التي استطاع بها الإنسان ان يمتلك سرا من اسرار الآلهة والذي سرقه برومتيوس ووهبه للبشر حسب الاساطير اليونانية.
في حكاية أمازيغية أخرى من جنوب تونس بمنطقة تامازرات (7)، تتحدث الحكاية عن امرأة أرادت تزويج ابنتها لابن أخيها لكن الرجل أراد تزويج ابنته لابن أخيه، فاقترحت على زوجها أن يرسلهما في تجارة وأعطى لكل واحد منهما مركبا وبضاعة، لمعرفة أنجحهما وأذكاهما . خرج ابن أخ الزوجة بمركبه وببضاعته ووصل إلى مدينة ، وفي مينائها اقترح عليه بعض التجار أن يدخل معهم في رهان وهي أن لديهم قط يستطيع أن يقف ويضع بين قائمتيه شمعة مشتعلة طيلة الليل دون أن تسقط منه، والرهان سيكون على قدرة القط على الثبات، فإذا ثبت القط في مكانه ولم تسقط منه الشمعة يمنحهم قاربه بما فيه، وإذا سقطت الشمعة يمنحونه مائة مركب، فقبل الرهان؛ ومرت تلك الليلة ولم يسقط القط الشمعة المشتعلة، فخسر ابن أخ الزوجة مركبه وماله. وبعد ذلك بأيام وصل ابن أخ الزوج إلى نفس المدينة بحمولة مركبه، واقترح عليه نفس الاشخاص الرهان فقبله، فأوصى أحد الصبية بإدخال فأرين إلى الحجرة ليلة الرهان؛ أدخل الصبي الفأر الاول وقاوم القط الإغراء، ثم أدخل الصبي الفأر فلم يستطع الفأر مقاومة طبعه فانقض على الفأر وأسقط الشمعة فربح ابن أخ الزوج الرهان؛ وتتوالى أحداث القصة بالتقاء المتنافسين في المدينة، ومساعدة الناجح منهما للفاشل ورجوع الأخير إلى بلده موهما أهله بأنه هو الناجح.. لكن الحقيقة ستظهر في آخر الحكاية فيتزوج ابن الاخ ابنة عمه.
ما يهمنا في هذه الحكايات الأمازيغية هي أنها تبين الثنائية التي يعيشها القط (الحيوان بصفة عامة)، فهو من جهة أليف تمت أنسنته من قبل الإنسان فترك طبيعة التوحش وابتعد عنها حين يكون مع الانسان (عالم الانسان: الثقافة والتحضر ) لأن الانسان نزع عنه هذه الطبيعة في علاقته به ، لكنه سرعان ما يعود إلى طبيعة التوحش في علاقته بالحيوانات الأخرى (عالم الحيوان الذي يتحكم فيه قانون البقاء للأقوى والأصلح).
كاتب وباحث من المغرب
الهوامش:
- محمد اوسوس، كوكرا في الميثولوجيا الأمازيغية، منشورات المعهد الملكي للثقافة الامازيغية، 2006، دار المعارف، الدار البيضاء، المغرب.
- نفس المرجع صفحة 283.
- أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي، تفسير البغوي (معالم التنزيل)، ج 4، ص 175، دار طيبة للنشر والتوزيع، الرياض، السنة 1411ه.
- Josèphe Rivière, Recueil de contes populaires de la Kabylie du Djurdjura, Ernest Leroux, Editeur, Paris, 1882.
- الكتاب المدرسي المغربي للسنة الأولى ابتدائي ، سلسلة ” إقرأ ” الذي كان مقررا في المدرسة المغربية في الستينات والسبعينات من القرن الماضي.
- الحسن زهور، موزيا، مطبعة السلام، أكادير- المغرب، 1994.
- Emmanuel Cosquin, Le conte du Chat et de la Chandelle dans l’Europe du moyen âge et en Orient, Romania, tome 40 n°160, 1911.