ذاكرة الوجع: قراءة في رواية رجل المرايا المهشمة- ربيع عبد العزيز
لعل أول ما نلاحظه، في هذه الرواية، هو عتبة العنوان؛ فالتركيب اللغوي للعنوان:” رجل المرايا المهشمة ” إما أن يكون جملة الخبر للمبتدأ المحذوف، وإما أن يكون مبتدأ بلا خبر، وسواء أكان المحذوف مبتدأ أم خبرا، فإن الحذف يستثير عقل المتلقي ويبعثه على تقدير المحذوف ليسد الثغرة التي تركها الحذف. كما أن إضافة الرجل إلى المرايا، ونعت المرايا بكونها مهشمة، يمنحان المتلقي إحساسا بالخوف والغواية؛ الخوف من رجل مضاف إلى مرايا مهشمة لن تعكس إلا صورة نفس خائرة، ممزقة، مرتجفة الأوصال. والخوف- أيضا- على الرجل نفسه من آلام الجراح التي تباغته متى رأى صورته في تلك المرايا.
بل إن ” المرايا ” بوصفها دالا مجموعا، يحمل إدانة مضمرة لشخصيات عديدة لابد أنها تحيط بهذا الرجل، ويرى صورته في عيونهم تارة، وفيما يرتسم على وجوههم من أمارات الشفقة أو الاشمئزار أو الشماتة أو الازدراء تارة أخرى .
أما الغواية فمرجعها إلى ما يبعثه العنوان في نفس المتلقي من فضول البحث عن سر تهشم تلك المرايا، وفك شفرة العلاقة التي تربطها بالرجل وتربط الرجل بها، والتوق إلى معرفة مصير هذا الرجل المعذب بتلك المرايا، وهو توق يفتح أمام المتلقي آفاقا من التوقعات؛ فقد يكون الرجل من أصحاب المزاج السوداوي؛ الذين لا يرون أنفسهم إلا مهشمين في عيون ووجوه من حولهم. وقد يكون نزيلا لإحدى المصحات النفسية، وقد يكون مختل الأعصاب؛ كل هذه احتمالات تطرحها عتبة العنوان، وكلها يثير شغف المتلقي، ويضع البذور الأولى لتوقعاته.
ويغلب الفقر والبؤس على معظم البيئة المكانية التي تخيرتها لبنى ياسين مسرحا لأحداث روايتها؛ فقد اتخذت من إحدى حواري دمشق الشعبية منطلقا للأحداث، وتخيرت من تلك الحارة شقة ضيقة لا تتجاوز غرفتين ومطبخا وحماما لتكون مكانا رئيسا، ومن برادة الموتى والسجن مكانين فرعيين تجري فيهما أحداث بالغة الحسم في مسار الرواية بصفة عامة، وفي حياة بطلها : (صطوف) بصفة خاصة.
وأخذت الكاتبة تصف تلك الأمكنة وصفا تعبيريا لا وصفا تصنيفيا؛ فمناط اهتمامها هو وقع الموصوفات على الرائي، وقدرة الوصف على إيهام المتلقي بأنه يقرأ وصفا لأمكنة يعرفها، أو يراها فيما حوله، أو يمكن أن يراها ويسمع عنها؛ فهي تصف بيوت الحارة بأنها تتكاتف وتساند بعضها بعضا في مواجهة فقر يتربص بكل بيت منها([1])، وتصف غرفة من الشقة التي تقيم فيها دلال، فتقول: ” تتبعثر على أطراف تلك الغرفة…قطع أثاث قديمة تشي بفقر أصحابها…على جدرانها المصفرة الملونة بطلاء متآكل تحتفي الرطوبة برائحتها وبزحفها الذي لا ينتهي، تاركة بقعا قبيحة تَقَشَّرَ من فوقها الطلاء الذي فقد لونه بسبب شيخوخة لم تكن مبكرة على الإطلاق. تلك الجدران المتآكلة تذكرها بقلب يصدأ كل يوم دون أن تتمكن من أن تفعل له شيئا واحدا يعفيها من طعم الانكسار المر ورائحته الواخزة “.([2])
إننا نجد في وصف الغرفة بوادر ميل إلى تفسير البؤس؛ فقطع الأثاث “تشي بفقر أصحابها”. ونجد فيه بوادر شقاء متوقع: ” قطع الأثاث القديمة/ الجدران المصفرة / الطلاء المتآكل/ البُقَع القبيحة”. كما نجد بوادر ميل إلى أنسنة الأشياء؛ فالرطوبة (تحتفي برائحتها)، والطلاء أدركته (الشيخوخة) . بدهي أن الرطوبة ليست كائنا بشريا حتى تحتفي برائحتها، وليس الطلاء مما تدركه الشيخوخة، ولكن لبنى ياسين تطلق لخيال السارد العنان؛ ليؤنسن الرطوبة والطلاء، ويبث فيهما الحياة كما يقعان على نفس دلال. وأخيرا نجد ما يستدعيه المكان الموصوف في نفس دلال من ذكرى بغيضة ؛ فهو يذكرها بما أصاب قلبها من صدأ لم تستطع أن تتخلص منه.
ما يهمني تأكيده هو أن وصف الغرفة ومحتوياتها، كشف عن جانب من الأبعاد الداخلية لشخصية دلال؛ إذ أظهرنا على استكانتها أمام واقع مفعم بالبؤس، واستسلامها لما أصاب قلبها من صدأ، وعجزها عن التخلص من مرارة الانكسار ورائحته الوخازة.
أما الزمن فقد عمدت لبنى ياسين إلى ضغطه في جمل قصار؛ مثل : ” مرَّ عليها اليوم التالي طاحنا ضلوعها “([3])، و ” لم يمض وقت طويل حتى تحقق أسوأ كوابيس دلال…عندما أعلن كائن كرهته قبل أن تراه انغراسه في رحمها “([4])، و ” مضت الشهور رويدا رويدا دون أن يعرف الفرح طريقه إلى قلبها ” ([5])، و “مضى أسبوع والرضيع مرمي عند الجارة، لا يسأل عنه أحد، ولا اسم له ” ([6]) ، و” مَرَّ على مرض دلال هذا قرابة ثلاثة شهور، لا أنينها ينقطع، ولا مرضها يشفى، ولا رعبها يتلاشى من عينيها ” ([7])، و” تجاوز صطوف الرابعة من العمر وحيدا لا أنيس له” ([8])، و” تجاوز صطوف التاسعة عشرة ، وهو يعيش على هامش العمر حياةً لا طعم لها ولا لون”.. ([9])
ومعالجة الزمن على هذا النحو تعزز إحساسنا بأننا أمام زمن رمزي أكثر من كونه زمنا واقعيا يمكن أن نلمس تطوره بعد فراغنا من قراءة الرواية؛ وتأويل ذلك أن الكاتبة تستهدف- ومعها الحق- أن تعظم فينا الإحساس بما تضطرب به نفوس الشخصيات من مشاعر البؤس والشقاء؛ لذلك يقترن الزمن بمكوناته من الأيام والأسابيع والشهور والسنين، بعاطفة ما؛ عاطفة تسيطر على هذه الشخصية أو تلك في هذا التوقيت أو ذاك، وتزيح- في الوقت نفسه- الغطاء عن مخاوف الشخصية وأوجاعها، وتكشف عن جانب من مشاعرها نحو غيرها من الشخصيات؛ فاليوم يمر بدقائقه وساعاته(طاحنا أضلاع) دلال، والوقت غير الطويل يمضي معلنا أن كائنا (تكرهه) دلال ينغرس في رحمها، والأسبوع يمضي والطفل الوليد مرمي عند الجارة (لا يسأل عنه أحد)، وبعد مضي قرابة ثلاثة شهور على مرض دلال لم ينقطع (أنينها) ولم يتلاش (الرعب) الساكن عينيها، ويتجاوز صطوف عامه الرابع وهو(لا أنيس له)، ويمضي من عمره تسعة عشر عاما وهو يعيش حياة (لا طعم لها ولا لون).
في هذا السياق الزمكاني تقدم لبنى ياسين شخصيات روايتها، لكننا معنيون بالشخصيات المسكونة بالخوف والتعاسة، وبالطريقة التي تُقَدَّمُ بها تلك الشخصيات، وبتعقب مظاهر الخوف وآثاره لا في نفوسها فحسب، بل في بناء الرواية.
لقد قدمت الكاتبة في روايتها شخصيات عديدة تتفاوت أبعادا وأعمارا، ذكورة وأنوثة؛ فهناك شخصيات يغلب عليها الشقاء والخوف:(دياب/ دلال/ صطوف/ سحر)، وهناك من يجمع بين السمعة الطيبة ويخفي فجوره: (أبو نعيم)، وهناك الأب الأكثر فجورا:(أبو رفيق)الذي يجرد ابنته :(سحر)من بكارتها ! هناك أيضا المثقف المفعم أنانية:(ناجي)، والمثقف الإيجابي:(سالم)، والقابلة: (أم هاشم)، وذات الخدين الورديين: (مها)، والصديق الأكثر من وفِيِّ:(القط الأعور)، والشيخ الدرويش:(أبو طوق).
واستأثرت ملامح وأبعاد دياب ودلال وصطوف وسحر بالقدر الأكبر من اهتمام الكاتبة؛ ومرد ذلك إلى أنهم أكثر شخصيات الرواية بؤسا وشقاء، فضلا عن أن ديابا ودلالا يمثلان الشرارة الأولى في الحدث الروائي. أما صطوف فهو قاطرة الحدث، وأكثر شخصيات الرواية تركيبا وغرابة، وأقواها تأثيرا في المتلقي؛ فإن شخصية في الرواية كلها لم تشق ولم تبتل بمثل ما رأى من صنوف الشقاء والبلاء : الحرمان من دفء الأبوين، اضطراب النفس خوفا من مواجهة الناس، جحود الأخ الأكبر:(ناجي)، الزواج من فتاة:(سحر)فض أبوها بكارتها، اغتصاب امرأة في برادة الموتى، دخول السجن، ثم – وهذا هو الأهم- اكتشافه بعد فوات الأوان أن الهالة الحمراء التي ولد بها، والتي شوهت وجهه وجعلته لا يطيق النظر إلى المرايا الزجاجية، زالت بفعل الزمن.
إن أكثر ملامح وأبعاد تلك الشخصيات الأربع يأتينا من منظور السارد، بينما يأتينا أقل القليل من ملامحها في جمل حوارية أو عبر المناجاة (المونولوج)؛ لذلك كثر الوصف، وقل الكلام؛ فدياب لم نسمع له طوال الرواية إلا قوله: “على بركة الله “ ([10])، ولم نسمع لدلال صوتا إلا مرتين؛ الأولى قولها في أعقاب مولد طفلها صطوف: ” اقتلوه..إنه ابن الشيطان، هذا ليس ابني، أرجوكم أبعدوه عني”([11])، والأخرى قولها عندما سألها دياب عن الاسم الذي ترغب في إطلاقه على مولودها : “سَمِّهِ ما شئت.. سَمِّهِ “إبليسا” إن أردت”.([12])
أما صطوف فلم نسمع له صوتا لا في الشقة، ولا في المدرسة، ولا في ورشة أبي نعيم؛ لأنه بحكم ملامحه الخارجية وتكوينه النفسي لم يكن يقوى لا على التحدث مع أحد ولا على مجرد النظر إلى أحد؛ لذلك استعانت الكاتبة على إبراز عالمه الداخلي بتقنية المناجاة (المونولوج)، فكان يناجي نفسه أو صديقه القط الأعور في الشقة، ويناجي الموتى في برادة المشفى الذي ألحقه للعمل به أخوه سالم. والمرات القليلة التي تكلم فيها مع غيره كانت مع زوجه سحر عندما علم منها أنها ليست عذراء، ثم مع السجناء والحارس عندما أنكر أن تكون صورة المجرم؛ التي نشرتها الجريدة لمغتصب العروس الميتة في برادة المستشفى، هي صورته، ودعا الحارس والسجناء للنظر إلى خده ذي الهالة الحمراء، وإلى صورة المجرم في الجريدة؛ التي لا أثر فيها لتلك الهالة.
وفي الغالب تقدم لبنى ياسين شخصية دياب من منظور السارد، وتقدمه لمرة واحدة من منظور زوجه دلال؛ فمن منظور السارد نرى رجلا هادئا إلى حد الموت، لا يتكلم إلا بالكاد، وإلى الانكسار تميل نبرات صوته حتى كأنه يهمس بصراخه. يستيقظ من نومه بوجه بارد، ويغلف وجهه بجليد الصمت. ليس له أصدقاء ولا أعداء. لا يزور أحدا ولا يزوره أحد، وإذا زاره أحد- وهذا نادر- استقبله بوجه ممتعض، وانصرف عنه إلى غرفة أخرى.([13]) أما من منظور دلال فكان دياب شيئا لا يًذْكَرُ في الحياة.([14]) وما يهمنا من هذه الملامح هو أنها ستكون ذات أثر بالغ في زيادة شقاء دلال، مع ما ترتب على شقائها من مخاوف وأوجاع دفع صطوف الجزء الأكبر من ثمنها.
وأما دلال فقد قدمتها لبنى ياسين عبر منظور السارد في أكثر الأحيان، كما قدمتها مرة من منظور أبي نعيم حين انقض عليها، وثانية من منظور القابلة أم هاشم، وثالثة من خلال جملتين قصيرتين تلفظت بهما في أثناء- وبُعَيْدِ- مولد صطوف. وعبر هذا التقديم المتعدد القنوات نرى دلالا من الخارج والداخل، ونرى- وهذا هو المهم- ما بينها وبين زوجها من تفاوت يصل-أحيانا- إلى حد التناقض؛ فهي امرأة فيها ما يسعد أي رجل ويشبع حاجته الطبيعية إلى الجمال الأنثوي؛ إنها رقيقة الوجه، ندية الملامح ، بيضاء الجبين، لها عينان واسعتان جميلتان، أما زوجها فكان عابس الوجه يغطي عينيه بالصقيع. وهي تنبض بالحيوية، ويتمايل عودها الغضٍّ بغنج غير مقصود، وينسدل شعرها الأسود على كتفيها. أما زوجها فالشَّيب يغزو رأسه بقوة، وهو يتثاءب الحياة أو يكاد. وبينما كانت دلال بركانا ثائرا ، كان زوجها هادئا إلى حد الموت. وهي تحب الناس والزحمة، ودياب يدمن الصمت، ولا يحب الناس، بل يهرب من ضيوفه.([15])
ومن المحتمل أن تكون مهنة النجارة؛ التي احترفها دياب، عززت من نزوعه إلى الصمت وجفاف العواطف؛ فهو في الورشة كثيرا ما يُمزق الأخشاب بالمنشار أو يدق فيها المسامير أو ينزعها منها. وفي ظل الضوضاء، المنبعثة من آلات النجارة، بدهي أن يكثر الصمت ويقل الكلام؛ لذلك لا تسمع من دياب، طوال الرواية، جملة واحدة يغازل بها امرأة تملك الكثير مما يغري بالتغزل فيها، ” كأنه وَطَّنَ نفسه على ألا يحس بشيء”([16])، وكأن مَنْ في البيت ألواحا خشبية ومسامير حديدية مجردة من الحس. وليس غريبا في رجل هذه ملامحه أن تصبح حياته مع دلال كتلة من الجليد؛ فلا جديد فيها ولا قديم، إنما هي عادات ألفا فعلها كل يوم، في صمت قَتَّال.
نعم هناك مشترك من القواسم بين دياب ودلال ولكنها نادرة، وأهمها على الإطلاق انتماء كليهما إلى طبقة اجتماعية واحدة هي طبقة الفقراء، واستسلامهما للواقع التعس كما لو كان قدرا ليس بوسعهما أن يحلما- مجرد حلم- بتغييره والانعتاق من قبضته؛ فقد ظل دياب يعمل طوال الرواية نجارا في ورشة أبي نعيم، ولم يحلم يوما بأن يكون صاحب ورشة. أما دلال فقد وأدت حلمها في أن تصبح مهندسة(ديكور) منذ أن مات أبوها وهي في العام الرابع عشر من عمرها، ورضيت أن تكون زوجا لرجل لم تختره، وأن تعيش معه دون أن تحبه أو تكرهه، وأن تنسله ولدين) : ناجي/ سالم) برغم أن الظروف لم تكن أبدا لتشجعها على البقاء معه.
وعلى أية حال فقد عاش دياب ودلال في مكان ضيق: (الشقة) يلائم ضيق الحياة في نظرهما، وأخذ الحدث الروائي يتطور، كما أخذت شخصيات الرواية تنمو تباعا وتتضح أمامنا معالمها؛ فرأينا دلالا تشعر بالارتياح حين أخبرها دياب بأنه مسافر إلى القرية لرؤية أمه المريضة، إلا أن ارتياحها يمازجه شيء من الخوف؛ ومرجع ارتياحها إلى أن الفرصة تواتيها لأول مرة كي تساهر ذاتها، وتتفقد خرائط أحزانها، مع أنها كانت تستطيع أن تتفقد خرائط أحزانها في الساعات التي يغادر فيها دياب الشقة إلى ورشة أبي نعيم. وبينما كانت تتفقد خرائط أحزانها تناهت إلى سمعها طرقات على باب الشقة، ولم تفكر لحظة في أن الطارق يمكن أن يكون شخصا آخر غير زوجها، وكأن لسان حالها يقول: من ذا الذي يطرق باب أسرة لا تزور أحدا ولا يزورها أحد؟
وإذ تبادر إلى فتح باب الشقة تفاجأ بأبي نعيم يسألها عن دياب، فتخبره أنه مسافر لزيارة أمه المريضة. وللوهلة الأولى تسرب إليها إحساس بأنه غير واثق من أن زوجها مسافر، وأنه يريد أن يضبطه متلبسا بالغياب عن العمل بالورشة، لكن هذا الإحساس سرعان ما تلاشى ليحل محله إحساس بالخوف، وخاصة حين سألها عن ابنيها، وأخبرته- بسذاجة لا تتناسب مع خوفها- أنهما نائمان. وما هي إلا لحيظات حتى انقض عليها وهو يقول: ” امرأة مثلك حرام أن تكون لرجل مثل ديبو..والله حرام”([17])، ولم يزل منقضا عليها- وهي تقاوم بكل ما تملك من قوة – فلم يدعها إلا بعد أن أفرغ سائله في رحمها.
حقا كان بوسعها أن تطلق صرخاتها لتنجو من العار، ولكنها آثرت أن تحترق بنار العار في صمت، على أن تفضح نفسها بين جيران لن يصدقوا أن رجلا طيب السمعة كأبي نعيم يمكن أن ينزلق إلى هذا المستوى من الدناءة والخسة، لكن السارد يلفتنا إلى أن استسلامها كان ممزوجا بمشاعر بالغة التناقض؛ فهي تشعر بالغثيان والاشمئزاز، وهذه مشاعر طبيعية في الحرائر اللائي يتعرضن لمثل ما تعرضت له، وهي تشعر-أيضا- بالشماتة والانتقام، وهو شعور يبعث المتلقي على التساؤل: فيمن كانت تشمت دلال؟ وممن كانت تنتقم؟
وعن هذين السؤالين تأتينا الإجابة في تقرير سردي مؤداه أنها كانت تنتقم من كل شيء فرضته عليها الظروف: تنتقم من أحلامها المؤجلة إلى آخر العمر. تنتقم من رجل لا تعرف لماذا وكيف تزوجته؟ تنتقم من الفضيلة التي بسببها بترت أحلامها. تنتقم من نفسها، ومن أمها التي زوجتها هذا الرجل، ومن أبيها الذي مات فجأة فوقعت الدنيا على رأسها.([18])
حقا تفصح هذه التبريرات عن نفس غائرة الأعماق، بالغة التناقض، لكنها لا تساعد على النظر إلى دلال بوصفها معادلا فنيا للواقع، بقدر ما تساعد على النظر إليها بوصفها رمزا يكشف عن تناقضاتنا من خلال تناقضاتها؛ فبينما كانت تشعر بالشماتة ، وتنتقم من ذاتها وكل ما حولها، كانت- أيضا- تلوم نفسها لأنها فتحت باب الشقة في وقت متأخر من الليل، دون أن تتأكد من شخصية الطارق. وإذا كان عذرها أن أحدا من الجيران لم يكن يزورهم، فلا عذر لها حين نسيت أن جمالها يُطْمِعُ فيها. إنه لمن العبث أن تنتقم دلال من أبيها لأنه مات وأجهض بموته أحلامها؛ فإن الموت لم يستفت أباها حتى تنتقم من موته فجأة! وحتى إذا وافقنا على أنها كانت تنتقم من الفضيلة التي بسببها بترت أحلامها، فمن الصعب أن نوافقها على أن الرذيلة وسيلة مثلى للانتقام من الفضيلة! إن شعورها بالشماتة والانتقام يفصلها عن الواقع تماما؛ فلسنا نجد فيمن حولنا من يشمت في نفسه، وربما نصادف مثل هذه الشخصية أو نسمع عنها بين السكارى ومختلي الأعصاب وأصحاب العاهات. وإذا كنا نُقَدِّرُ أن الفقر المادي والنفسي وراء الكثير من إحباطاتها، فما أكثر أبناء الطبقة الفقيرة الذين يجعلهم الفقر أصلب عودا، وأكثر قدرة على فهم الحياة ومواجهة مشكلاتها والتغلب عليها. دلال امرأة بائسة، يائسة، ساذجة، رعناء، وإلى هذه الخصال كلها ترجع مآسيها.
وإذ تدب الحياة في رحمها، تتفاقم مخاوفها وتتسع جراحها على الرتق، ولاسيما أنها حاولت بشتى الطرق أن تجهض هذا الجنين الذي سيظل يذكرها بالعار, وإن باءت محاولاتها كلها بالفشل، لتلد – في النهاية- طفلا:(صطوف) تشوه خده الأيمن بقع حمراء من جراء محاولاتها المتكررة للتخلص منه.
وقد اتخذت لبنى ياسين من مولد صطوف مرآة نرى فيها ما طرأ على شخصية دلال من تحولات حاسمة لا في حياتها وحياة وليدها فحسب، بل في تطور الحدث الروائي، وتشابك خيوطه، وظهور شخصيات وكائنات أخرى؛ كالشيخ أبي طوق والقرينات والأقزام المخيفة؛ فقد تحولت من ضحية للفقر وخِسَّةِ أبي نعيم، إلى جلاد لا يرحم طفلا بريئا: (صطوف). وتحول قلبها الذي كان ينبض بحب الناس إلى قلب ينبض بالكراهية لوليدها؛ فهي تكره أن تراه أو تسمع له صوتا، وظلت حريصة على أن تعزله، وتبقي عليه قابعا في ركن قصي من الشقة، وترفع بجواره ستارة داكنة تحجبه عن ناظريها. ولم تشأ لرعونتها وتمزقها النفسي أن تسأل نفسها: أكان صطوف جانيا؟ وإذا كان الخوف والبؤس يمنعانها الانتقام من الجاني :(أبو نعيم)، فما ذنب الضحية:(صطوف) حتى تنتقم منها؟
وإذا كانت دلال تنفصل عن الواقع حين تشعر بالشماتة والانتقام حال استسلامها لأبي نعيم، فقد كانت أكثر إيهاما بالواقع ، وأدعى إلى تعاطف المتلقي معها ، حين قررت البحث عن خلاص من عذاباتها. ولما لم يفلح الطب في خلاصها لجأت إلى الشيخ أبي طوق، حيث عالم التهاويل والبخور ودقات الطبول وتمايل أجساد المعذبات بالسحر والوهم وذهاب الطمأنينة، ولكن هذا العالم لم يفلح في أن يُذهب عنها المعاناة أو يخفف من وطأتها عليها، بل لقد زادها شقاء فوق شقائها. وها هو الخوف والفزع يطبقان على ما تبقى من روحها. ها هي ترى في بيتها أقزاما بوجوه مخيفة، وأرجل نحيفة، وعيون حمراء. تارة تخرج الأقزام من جدران البيت، وأخرى تهبط من السقف. وإذا خلدت للنوم سمعت صوت ضحكة جهنمية تتعالى فتطير النوم من عينيها. ها هي ترى قرينة تتجول في الشقة الضيقة وتتناسل كل يوم حتى أصبحت خمس قرينات أو ستًا يركضن وراء ابنيها:(ناجي/سالم) ولا يركضن وراء(صطوف). وظلت المخاوف والأشباح والقرينات تذيقها العذاب ألوانا، ولم تزل تُطبِقُ عليها حتى لفظتها الحياة.
ومهما يكن من أمر، فإن شعور دلال بالشماتة في النفس، والانتقام من النفس والغير بما فيهم الموتى، وكراهيتها لوليدها، ودعوتها إلى قتله، والصمت الذي لم يفارقها إلا في نادر الأحيان؛ كل أولئك أقوى في الدلالة على كونها رمزا لواقع عربي بالغ التمزق والتناقض؛ واقع يجعل العربي يكره العربي، وينتقم منه، ويشمت في عذاباته، ويدفعه قسرا إلى الهجرة نحو المجهول.
أما صطوف فكان أغنى شخصيات الرواية وأكثرها خوفا وغرابة وتناقضا؛ فالهالة الحمراء التي كانت تشوه خده الأيمن طالما أشعرته بالخجل والخوف من شفقة الآخرين، وبعثته على العزوف عن رؤية وجهه في المرآة. وهي التي طالما جعلته يهتز، كلما رأى امرأة ، في حركة بندولية يتأرجح فيها نصفه العلوي، وكأنما أصابه مس من الشيطان، أو كما يقول السارد: ” أصبح الخوف امرأة، والقلق امرأة. صار يشعر بقلق شديد واضطراب أشد عندما تقترب إحداهن ولو دون قصد من الهالة التي تحيط به”([19])، فإذا اقتربت منه امرأة كان يهرب منها، و” يتكوم بجوار أقرب جدار أو سيارة أو حاوية قمامة”([20]). ولا عجب؛ فقد أذاقته أمه من صنوف العذاب ما جعله يخشى كل النساء ويكرههن.
وقد وجد في القط الأعور صديقا وفيا. ولدى النظرة العجلى يبدو هذا النوع من الصداقة أمرا غريبا، لكن النظرة المتأنية لا تجد فيه ثمة غرابة؛ فصطوف المحاصر بالقطيعة في الشقة لا يجد من يبثه همومه، ولكنه وجد ضالته في القط الأعور فاتخذه صديقا، وسمَّاه رفيقا، ولكن هذه الصداقة تنطوي على هجاء مضمر لكل أفراد الأسرة، وهي مرآة كاشفة عن تجردهم من أبسط المشاعر الإنسانية.
على أن الغريب حقا هو أن صطوفا الذي يكره النساء، كان يتطلع إلى حب مها ابنة أخت زوج أبيه، ويهيم شوقا إلى يوم الثلاثاء الذي تأتي فيه مها لزيارة خالتها. إنه يرث قدرا من رعونة أمه؛ فكما دفعت الرعونة أمه إلى فتح باب الشقة دون أن تتثبت من شخصية الطارق، تدفعه الرعونة لكي يفتح نوافذ قلبه لحب مها، ولم يشأ أن يتساءل: أية فتاة تلك التي ترضى به زوجا وهو قبيح الوجه، مضطرب الأعصاب، ضعيف البنيان؟ لقد جلب على نفسه خيبة لم تكن تنقصه، وأورثته الرعونة جراحا فوق جراحه، ولا سيما عندما اكتشف أن قلب مها مشغول بحب أخيه سالم، وأن عليه لا أن يعرف قدر نفسه فحسب ، بل عليه – وهذا من سخريات القدر- أن يشاطر أخاه فرحته بالزواج ممن كان يهيم شوقا إلى رؤيتها كل ثلاثاء، ويشتعل حزنا إذا أخلفت موعدها ولم تأت لزيارة خالتها.
ولأن الخوف يحاصره من جميع الجهات؛ فقد وظفت لبنى ياسين تقنية المنولوج لحمل صطوف على الإفصاح عن جانب من عالمه الداخلي بمثل قوله: ” كنت مشغولا حتى الثمالة بخوفي حتى نسيت أن أشعر بشيء آخر”([21])، كما وظفت القط الأعور في مكاشفة صطوف بما لم يستطع أحد أن يكاشفه به، وهو أنه إنسان لا يصلح أن يكون حبيبا: ” بالله عليك هل هذا وجه يصلح للحب؟”([22])
وأما سحر فقد وظفت لبنى ياسين تقنية الحوار في تقديمها والكشف عن عالمها الداخلي ورؤيتها لأبيها . وقد احتالت الكاتبة فنيا حتى هيأت ظروفا تصبح معها سحر زوجا لرجل :(صطوف) يخشى كل النساء، ويدرك أنه ” يكفي أن تقبل به امرأة واحدة في العالم ليتصالح مع خوفه”([23]) ؛ بحيث لم تجد سحر مفرا من أن تكاشفه – في الليلة بعد العاشرة من زواجهما- بمأساتها، وبأنها ليست عذراء، ولكنها لم تفرط في بكارتها لأحد، وإنما استغل أبوها موت أمها ليعبث بجسدها، وما زال كذلك حتى إذا كبرت واستوى عودها أخذ يعاشرها كما يعاشر الزوج زوجه، وأغلق عليها باب البيت حين يخرج وحين ينام؛ حتى لا تفلت من براثنه، ليكتشف صطوف سخرية الأقدار ومفارقاتها؛ فسحر التي تخشى الرجال تتزوج من رجل يخشى النساء. وإذا كانت أمه سببا قويا في خوفه من النساء، فإن أبا سحر هو السبب الأوحد في تعاسة ابنته وخوفها من الرجال. لنقرأ الحوار التالي الذي يعبر عن مأساة سحر، ويطلق لسان صطوف من عقاله:
“- هل تعرف ما معنى أن تكون يتيما ، وحيدا معلقا كسؤال غبي على لهاة الحياة، والشخص الوحيد المعني بأمر حمايتك ورعايتك، هو الذي يقوم بقتلك كل يوم ألف مرة؟
امتقع وجه صطوف وجحظت عيناه وصرخ وهو غير مصدق: ماذا؟
-نعم، هذه هي الحقيقة. أبي لم يتزوج بعد أمي إلا لأنه اعتبر أن جسدي ملكية خاصة به، بإمكانه أن يفرغ فيه قذارته كيفما شاء.
……
-لا أصدق ..هذا غير معقول..أبوك؟
– نعم أبي..هل تصدق ذلك؟ هل هناك على الأرض من يصدق؟”.([24])
حقا ليس على الأرض عاقل يصدق مأساة سحر، ولكن مادام رب البيت خبيثا قاتلا كأبي رفيق، فلن تكون نفوس أهل البيت إلا بالخوف والقهر مسكونة. وكما قتلت دلال ابنها حيًّا حتى جعلته يرتدي الخوف ثوبا، قتل أبو رفيق ابنته سحر، فجعل الموت أشهى إليها من حياة لا تأمن فيها لأبيها.
ومهما يكن من أمر فقد حَمَّلَتْ لبنى ياسين شخصية دلال وصطوف وسحر وأبي رفيق بملامح رمزية نرى من خلالها واقعا عربيا تشوهه الأيادي التي كان يجب أن تحفظه، وتبث في إنسانه الطمأنينة والثقة بالنفس والاطمئنان إلى ملكاتها.
. أستاذ النقد الأدبي، كلية دار العلوم، جامعة الفيوم مصر
[1] – لبنى ياسين، رجل المرايا المهشمة، ص 6، ط: مركز فضاء الشرق الثقافي، سويسرا، د- ت.
2 – السابق ، ص7.
[3] – الرواية، ص 26.
[4] – السابق، ص 37.
[5] – نفسه ، ص40.
[6] – نفسه ، ص48.
[7] – نفسه، ص84.
[8] – نفسه ، ص61
[9] – نفسه،، ص131
[10] – المصدر نفسه، ص120
[11] – المصدر نفسه، ص45
[12] – نفسه ، ص49
[13] – المصدر نفسه ، ص9 : 10.
[14] – نفسه ، ص 9 .
[15] – نفسه ، ص11 .
[16] -نفسه ، ص 10.
[17] – المصدر نفسه، ص21.
[18] – نفسه، ص 22
[19] – المصدر نفسه، ص97 .
[20] – نفسه، ص99 .
[21] – المصدر السابق، ص245
[22] – نفسه، ص149.
[23] – نفسه ، ص 223.
[24] – السابق، ص 235 : 237.