الرئيسية / ابداعات / رجل متشظ وامرأة بلا جذور – أحمد الحاج

رجل متشظ وامرأة بلا جذور – أحمد الحاج

عندما وضع على راحة المهد لأول وهلة، كان يصرخ حتى رغم الحركة المتأرجحة للمهد البدائي المربوط بحبل يمتد بعيدا من باحة الدار إلي المطبخ، فقد كان على الأم ان تعد أوامرها بنفسها، وما أن تنتهي، حتى تبدأ بإرضاعه مجدداً على أمل الخلود الى النوم ولو لفترة وجيزة، لكن صرخاته كانت تنطلق بين فترة وأخرى فتجد صداها على الجدران الحجرية المغطاة بالجبس والنورة.
كانت صرخاته تنطلق معلنة تمردها على المحيط بكل مكوناته الدقيقة/ العتيدة، عندما يضع المرآة بين يديه، ويجد ملامح هذه الصرخات قد انعكست بين جسده النحيف وعظامه المتوترة من جهة، والشعر المجعد بالذيل الطويل من جهة ثانية، يجول ببصره في صورتها التي تنعكس امامه هذه المرة بقوامها الممشوق، وتسريحة شعرها الهادئة، كانت تثير فيه رغبة باعتلاء الخيال السابح بعكس اتجاه مجرى النهر، حتى تدركه ومضة شفافة من نعاس، فلا يشعر بنفسه الاّ وقد تكوم على كوكبة من أوراقه وخيالاته المتراكمة من حوله.
تجلس لوحدها احياناً، تذكر وصية امها الأخيرة: «عندما كنت صغيرة، لم تقبلي الخروج الى المدرسة لوحدك، فكان لزاماً على ابيك ان يوصلك الى هناك على أمل أن تعودي برفقة معلمتك التي تسكن نفس الشارع، ورجائي ان تبقي على شاكلتك …»
سأل زميله الذي يشاركه نفس المعاناة التي يعيشانها سوية:
– هل تنوي السفر قريباً؟
– أتود مرافقتي؟
– إلى اين؟
– أأخبرك؟
جلس منزوياً خلف صحيفة متوهماً قراءتها والعبث بكلماتها، وتقليب أركانها محدثاً زوبعة من حوله متعمداً في إثارتها، سألته مضيفة الطائرة وهي تلاحظ أنه يختلي النظرات إليها وهي تقدم له الشاي عن هويته؟… مدائنه؟ فكان يردّها من خلف نظرات متعانقة/ متعالية، «من ارض الرماد!». وعندما أحست أنه يعاكسها بفوضوية عابرة، أرادت أن تقف على نهايته علها تستطيع النيل منه لترد لها شيء من وجودها واعتبارها، فقد شعرت انه قد أسقطها في حبائله بسذاجة لا تفضلها حتى ولو كانت لرحلة واحدة.
شعرت أن خبرتها قد اغتيلت، فهو ربما يكون

أول تجربة على ارتفاع الاف الأقدام.
– وعند خروجك، أين ستلقي بغبارك؟
– على الأرصفة التي تأويني مباشرة.
– حتى وان كانت مغادرة؟
– سألحق بها.(قالها ثم انزوى في مقعده وكأنها نكأت جرحاً كاد أن يندمل).
كان هناك في المكتبة مثلما توقعت، يجلس مع أوراقه المبعثرة، يتصفح صحراء النافذة العريضة وهي تمتد من يمينه الى شماله، بادلها الابتسامة الخفيفة وقدم لها الكرسي بالقرب منه، فيما راحت زميلتها تغط في جدال عميق بين صفحات أحد الكتب القديمة مع زميل آخر يشاركها نفس الإحساس، كان الجو بالنسبة لها ساخناً بعض الشيء، بينما راح هو يفقد الإحساس بالتكيف حتى تلك اللحظة.
أرادت ان تفرغ عليه ما في جعبتها لكنها شعرت ان زميلتها ما تنفك التجسس عليهما رغم انشغالها المفتعل، كانت ترصد حركاتها وسكناتها من خلف نظارتها العريضة حتى الحرف الواحد، لكن وجهها الممتد كخارطة كان يبعث فيها الطمأنينة مرة، والثورة مرات ومرات، همست في اذنه مذكرةً اياه: «عليك ان تقول/ تفعل شيئاً»، قالتها وأخذت تقلب صفحاتها الماضية، كانت ممتلئة، مشاهد مقعرة تركت آثارها واضحة للعيان على وجنتيها وقوامها النحيف، تركتها تصارع أيامها وحيدة باستثناء كلمات أمها التي كانت ترددها في نفسها كلما تذكرت وحدتها، وتوجسها، وقلقها.
– أشك في انكِ وجدتِ ضالتك.
– حتى أنا.
– اختبري مشاعره.
– بعد أن منحته ثقتي؟
انتظرت منه أن يقول شيئاً، يحرك ساكناً، إلاّ أنه كان يلوذ بصمت رتيب وعينان تائهتان لم تحط رحالهما بعد، تمعن النظر اليها بعد ان تأكد من انشغال الزملاء، فالتقت نظراتهما وجها لوجه لأول/ آخر مرة ! لم ينبس ببنت شفه، لكنها فهمت رده بعد أن استرجعت نظراته الى امد قريب.

«هل ما زلت مصراً على قرارك في السفر؟»، قالتها وهي تنظر إلي أوراقها المبعثرة امامها بطريقة توحي للرائي أنها تقرأ نصاً، شعرت وكأنها قد القت من على كاهلها حملاً ثقيلاً منتظرةً منه أن ينتشل ما تناثر منه في الجوار، أو ما بقي منه على سطح تلك الطاولة التي تفصلهما عمن يشاركهما الحلقة وجهاً لوجه.
كان هذا المشهد المقعر الذي ينعكس بداخله يضاف الى مجموعة لوحاتها السابقة حيث يشاركه عدد من الزملاء في طابور ليس بالطويل، كانت قد ارسلتهم واحداً تلو الآخر بعبارة كانت الكلمة الفصل للمشهد الذي تنتهي عنده كل لوحة، فكانت هذه مدعاة للتمسك بها وحدها رغم سفره وتمرده.
قال لزميله مرة: «تعلم أني أبحث عن امرأة بلا جذور»، ولم يكن يقتنع برأي زميله عندما يرد عليه: «لن تجد مثل هذه المرأة إلاّ على سطح المريخ، وربما التقيت بها في سفرة لك الى كوكب زحل أو المشتري!».
عندما ينام تنتابه موجة من الكوابيس فيصحو مبعثراً تائه العينين، وما أن تهدأ انفاسه حتى يبدأ بإحضارهن في ذهنه عبر سلسلة ليست بالقصيرة، ثم يبدأ بتسريبهن من بوتقة ضيقة واحدة تلو الأخرى، وما يكاد ينتهي من فعلته، حتى يعيد انتشالهن كما فعل أول مرة، عندما يحاول أن يجد التئاماً مع إحداهن، كانت محاولاته تفشل تباعاً، فكان عزائه الوحيد معها وحدها رغم هدوئها، وتجذرها، والتزامها.
كان يكتب قصائده على قصاصات من الورق يبعثرها في الهواء عله يجد من يلتقطها بشيء من الاحترام، لكن زميله يستدرك عليه الأمر: «لماذا لا تنشرها على أسطح الأقمار في رحلتك القادمة حول المجموعة الشمسية؟» لتدور كاسات من الضحك بين الجميع، أما هي فقد كانت ترفض هذا الوجود رفضاً قاطعاً، فقد كانت هذه القهقهات – رغم مجاراتهم– تمزقها من الداخل، تمنت لو تصفعهم جميعاً، أو أن تكنس بهم هذه الأرض، وتلقي بهم في سلة المهملات، حاولت التقرب من عالمه أكثر ولكنه كان في ريب من حقيقة الموقف.
– إنها تتشرب أفكارك مثلما تتشرب ليلى جنون قيسها.
– ولكني لا أعتد حتى بنفسي.
– عليك بها وحدها.
– أشك في ذلك.
وقف على سفح التل وهو يجول ببصره في الوادي الممتد أمامه إلي حد البصر، أحسّ بأن هذا العالم صغير، صغير جداً إلي درجة أنه لن يتسع الى تشظياته المتأرجحة بين عالم العصيان والطاعة، فكان عليه أن يجد عالمه الواسع وهو يبدأ بتشكيله ابتداءً من كلماته وانتهاءً بجلوسه معها، لكنه يشعر دائماً أن لوحته فيها شيء من الغموض، والرتابة، وهما لا وجود لهما في معجمه.
قالت له بنبرة متزنة قليلاً: «اني أشك أنك قد عزمت الرحيل هذه الأيام!» لم يقل/ يفعل شيئاً، فقط اكتفى بالنظر الى كومة الأوراق المبعثرة على الطاولة العريضة، ثم رمقها بنظرة خاطفة تنم عن شيء يجول بناظره.
أرادت ان تقرأ كلماته، تلملم اوراقه، لكنها شعرت أنه يسكن عالماً آخر بعيداً عنها، وأنه يفضل الطرق على ابواب جديده، ناقشت المسألة مع زميلتها نقاشاً طويلاً، لكن الاجتماع اختتم على أمل المناقشة.
حاولت هي تدارك الموقف وأن تعطيه الفرصة الأخيرة، بينما راح هو كعادته يمسح الفضاء من حوله طولاً وعرضاً، كما كان يعيد على نفسه السؤال الأخير في جعبته: «الم يحن الوقت كي ترتدي ملابس الحداد؟» هذه المرة هي التي فضلت السكوت فهي تخشى المواجهة، زميلتها تنبأت لها مسبقاً بآثار هذه المواجهة.
– سيصدق معي.
– لمرة واحدة.
– يكون قد وفي بوعده.
– لأمد قريب.
جاءته بكامل أناقتها واعتدالها، دنت منه حتى شاركته نفس البقعة التي يرتكز عليها، كانت طموحة مبتسمة، جعلته يستشف بانها تتمتع بجرأة لم يألفها الاّ هذه المرة.
– أراك غداً؟
– ربما.
– في نفس المكان؟
– ربما.
أراد ان يصارحها الحقيقة لكنه خشي مما قد جنت يداه، فزميله كان قد حذره من مغبة النتائج، فراح يدور حولها كما تدور اللبوة حول فريستها، كان مستعداً للخروج من المأزق حتى ولو كان المأتم قاسياً ومؤلماً بالنسبة لها، خاصة وأنها لم تقرأ طالعها في ذلك اليوم بعد.
«أعتقد أننا كدنا نتأخر كثيراً هذا اليوم»، كانت نبرتها متزنة على مرأى ومسمع الجميع وكأنها لا تخش من الجمهور لومة لائم، الاّ انه ما أن تأكد من انشغال الجمع عنهما حتى همس في اذنها: «ليس بعد، فربما يكون هذا المشهد الأخير الذي يجمعنا».
انغمس يبحث في أوراق حافظته وكأنه يبحث عن شيء بعينه.
– ستسافر؟
– سأكمل لوحتي.
– بعيد عنى؟
– قريب.
وكأنها تسمع هذه العبارة لأول مرة، اما هو فقد استغل الموقف وتمادى أكثر- وكأنه قد حصل على جرعة منشطة – فأخرج تأشيرة السفر ودسَّها بين يديها لتظهر لها حقيقة الواقعة بأبشع صورها وألوانها التي كانت تتحاشاها طيلة فترتها السابقة.
لم ترُدَ عليه، فقد فضلت السكوت هي هذه المرة. تمنت لو أنها تستطيع تمزيق هذا التصريح مرات ومرات، أو أن تلقي به من على هذه العمارة الشاهقة، أرادت أن تعلن احتجاجها على تلك السمفونية المتهالكة، لكنها فجأة تذكرت انها تجلس وسط مجموعة من المراقبين المتمرسين، فحاولت ان تلملم شتات نفسها، وأن تعدل بهودجها كي لا تبدو بصورة متردية باستدراك الموقف البشع بنبرتها المعهودة.
– ستودعنا؟
– سأفتقدك.
– هذا وعد؟
– أنت جزء منها.
أخذ يشعر بنشوة الانتصار والهزيمة المرة، بينما انزوت هي بجانب المقعد ترسم ابتسامة مفتعلة تصارع في مكامنها آلاماً مبرحة، راحت تلملم شتات نفسها المحطمة على كومة من الأوراق المبعثرة بين يديه… كانت تتشظى.

 

قاص من العراق

عن madarate

شاهد أيضاً

معانٍ مجنّحةٌ – ريما آل كلزلي

معانٍ مجنّحةٌ ريما آل كلزلي   عند الطّيرانِ تهربُ المسافاتُ فيقفزُ الحبلُ والهبوطُ سرابٌ   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *