إنه شاعر متعدد الاهتمامات، كتاباته عميقة بقدر ماهي متعددة وغزيرة، منذ زمن بعيد ظل شاعرنا المصطفى ملح يرعى قصائده مُدَارِيا إيَّاها في الظِّل، بعيدا عن اللغط والضوضاء، نَائِيًّا بها عن الأضواء، كتب في القصة ثم الرواية فالقصيدة فالخاطرة فالشذرة، تَعِبَتِ القصيدة بين يده ولم يتعب، وتعبت الكلمة من صوته، ولم يتعب، وظل مخلصًا لحُلمه، حتى امتزجت القصيدة بمِلْحِه، وأصبح مِلْحَ القصيدة، يُغازلها وتُغازله، يشدها وتشده، يحمل همها، وتحمل همه..
من حين فوزه بالجائزة المغربية في صنف الشعر، وقد استأثر هذا الديوان بالنقاد والأدباء، فقَدَّمَ له الشاعر مصطفى الشليح، بمقدمة وَسَمَهَا بشعرية اليومي والأسطوري في ديوان «لا أوبخ أحدا»، جميلة في فكرتها وأسلوبها وروعتها أشادت بالمنجز الشعري لشاعرنا…. ،
ومقدمة للشاعر أحمد بلحاج آية وارهام عَنْوَنَهَا ب» تكلم بلغة الناس ليُتقن لغة الآلهة»، أشاد بأسلوبه وقربه من يوميات الناس، وأنها تجربة انسانية تقوم على معرفة الانسان والوجود.
ثم قال فيه شهادته: «لم يأت الأستاذ الشاعر مصطفى ملح إلى الشعر من باب التطفل، كما فعل ويفعل الكثيرون، وإنما أتى إليه من باب العلم به، ومكابدة مضايقه»….
وإطراء للشاعر عبد اللطيف الوراري، فيشير إلى: « ما عُرِفَ به من شفافية اللغة وأولوية الايقاع إلى إمكانات الحلم والفنتازيا والأليكوريا»…
وعن نفسي كقارئ لهذا الديوان «لا أوبخ أحدا»، اكتشفت شاعرًا عارفاً بحدود امكاناته الإبداعية، مُمْسِكاً بِصِناعة الشعر، يعرف كيف يُرَوِّضُ مَعَانِيه كما يُرَوِّض أساليبه، ما إن أنتهيتُ من قراءتِه حتى عُدتُ وتأملتُ قصائده، وقد استوقفني جمال قصيدة تتوسط الديوان، في الصفحة 50 بالتحديد، في هذا الديوان الذي لا يكاد يتجاوز المائة في عدد صفحاته، لكن معانيه تجاوزت قصائده بكثير إلى آفاق رحبة، فقط الشاعر من يستطيع وصفها والوصول إليه.
بدأت قصيدته ليلى كقصة عن ليلى، وتعلقه بها وطلبه لها وسؤاله الكثيرين عنها، وسرده لمعاناته، وانتهت بنهاية شِعرية لكنها ممتعة فلقد وردة في منتهى الشعرية، جمعت البساطة، بالتعلق بالواحات القديمة، بجمال الطبيعة، وروعة العشق، وحزن الشاعر، وحب ليلى، تَمَاوُج نفسي منقطع النظير، ولقاء للشعر بالقصة، بعمق المعنى، بلحظة الإبداع، ونشوة شعرية، على نهر الغابة، وجذع الشجرة…
يقول في قصيدة ليلي:
«سأدعو الله كي يصل البريد، دَعوْته، وصل البريد، ولم تصل ليلى، سأنتظر القوافل في طريق الشرق، أسأَل باعة الأثواب، والغرباء، والحجاج في الغد، واللصوص، وحاذي الإبل التي تأتي من الواحات، أين تقيم ليلى؟
بادر الحاذي، يقول: تزوجت بمساعد السلطان، قال مروض كهل، لأحصنة البلاط، ؛ تزوجت ليلى الأمير، وقالت امرأة عجوز: «لم تزوج قط، بل خطفت!»
ومنذ بدأت أُوسع المنفى
وادعو الله كي تبقى القوافل في مرابضها،
فلا يصل البريد،
ولا أشم بناقة أخبار ليلى!» 1
في حكاية، في حوار متسارع، في قصة متناهية الدقة، في نشيد محكم الأنغام، تشدو هذه القصيدة مُحَمَّلَة بِمَعَاِني، ودلالات خِصْبَة….
يَتوسَّد الشاعر نجمته، يعتزل الحياة ومُعتركها، يَخْتلي إلى نجمته ينام تحت ضوئها ويتخذ بيته من سمائها، تشُبُّ إذن شِجارات فيحدث التوبيخ بين هذا وذاك، يلوي الهواء غصن كرمة التين، توبخ الأمطار عطش التربة، وتَغْزِل خُيوطها، وموجة تُعاتب المدَّ الذي يكَسِّرُها، ونسر وعقاب يتشاجران، وهو محايد، لا مع هذا ولا مع ذاك، ينام متوسِّدًا نُجومه الليلية:
…….. … ……
تحدث يوميا شجارات
يوبخ الهواء كرمة التين فيلوي غصنها
توبخ الأمطار خيط العطش المقيم في التربة.
………. ……….
وحدي محايد
فإن شب شجار
أتوسد النجوم آمنا ثم أنام. 2
في قصيدة سيرة نملة، يحكي الشاعر سيرة نملة، وسيرة العابر، يُمضِيان في نفس الاتجاه، تراوغ النملة حذاءه، فيمشي في طرق ملتوية، أما النملة فتفكر في سنبلة اخرى، أيحلم الشاعر ألا يمحوه شيء؟!
كنملته التي تنجح في الاختباء في جحرها المحمي، أما العابر فترمى جلد نعله بعد موته، إذن فالشاعر سيختار حياة النملة، على حياة العابر الذي يرمز للحياة، يحاول مَحْوَ الناس، فينمحي هو بذلها..
……. ………..
ويموت العابر
يرمى جلد حذاء العابر
أما النملة في الجحر الملحمي
فلا أحد يمحوها قط.
بمفردها تتعلم كيف تراوغ ظل حذاء!
يحلم في مقطع آخر من قصيدة جميلة بعنوان الحرباء، أن يأخذ شكل الحرباء كي ينام بمقربة نور الله، فهو يلبس ثيابا أخرى كي لا تحبسه امرأة في كوخ، يحلم أن يَتَلَوَّنَ كثيرا، كي يتسنى له أن يختبئ بين جذوع الغابة، إنه حلم بالانسلاخ من الحياة العادية إلى حياة العزلة، الخروج من القوقعة، والهروب إلى مكان أفضل، الفوز بالظِّل ولو لبرهة، الحلم بخلوة مع الله، في غمرة النور الأبدي، ثم إنه قد عمل احتمال لقناص سيبصره فيغير لونه، وإذا نزل الليل يغير جلده، وإذا أبصره الشيطان، ينام قرب الله، يعبر الشاعر عن حلمه في صورة غاية الروعة:
يقول:
حتى لا تحبسني امرأة في كوخ
أصبح حرباء
وأخبئ نفسي بين جذوع الغابة
ثم إذا ما أَبصرني قناص،
ألبس ثوبا آخر ثم أفر إلى الوادي
وإذا نزل الليل السفاح
وكي لا يبصرني الشيطان
أنام بمقربة من نور الله. 3
هوامش
1 ) لا أوبخ أحدا، المصطفى ملح، الطبعة الأولى، مقاربات للنشر ، فاس. .2018 ص 50..
2 )لا أوبخ أحدا، المصطفى ملح، ص 46.
3) ـ المصطفى ملح ، لا أوبخ أحدان ص: 49.