راكمت المدونة الشعرية العربية التراثية ما يكفي من الأشعار التي تبين عن نفسية العربي وعن بنية تفكيره وخفايا ضميره، والحاملة، في آن معا، لقسمات وسمات من ثقافة عصرها، فجاءت هذه المدونة وقد أفاضت عليها بيئتُها ألوانا مباينة لغيرها من أشعار الأمم الأخرى أو أشعار زماننا، نذكر من ذلك تداخل أغراض شتى في قصيدة واحدة على غرار ما نظَّرَ له ابن قتيبة في مقدمة سِفره الجليل عن الشعر والشعراء[1] وسيادة الوصف والتشبيه بإقرار صريح من كامل المبرد، وغلبة الطابع الحسي، وهيمنة الأبيات المفردة وغيرها.
وفي غمرة قراءة هذه المدونة وتقويمها استفاضت بنقاد زماننا ـ بدءا من بدايات القرن الماضي ـ التأويلات التي طرح عليها التسرع صدأه، إذ اتخذوا من الأبيات المفردة ركازا لاتهام الشعر العربي القديم بالتفكك، وبإمكانية التقديم والتأخير في مواقع الأبيات ومواضعها، وليس ذلك إلا نتيجة لافتقاد هذه النصوص للنسق الناظم بحسب زعمهم، توهما منهم أن انفراد البيت بقافيته ورويه ومعناه يقطع صلته بالأبيات الأخرى. وزادت مقاييس القدامى من ترسيخ هذا الاعتقاد، وذلك بأن جعلت المعنى الذي يُحوج صاحبَهُ إلى تجاوز البيت الواحد عيبا من عيوب القافية الستة، واصطلحوا عليه بـ “التضمين”.
إن اختيار البيت المفرد أو ما سماه حازم القرطاجني بـ “التمثيل الخطابي”[2] هو قرين الإيمان باستقلالية البيت الشعري، ذلك أن “البيت من الشعر كالبيت من الأخبية”[3]، وإن “بيتا جيدا مقام ألف رديء”[4]. من هنا استحسنوا أن يكون كل بيت قائما بنفسه لا يحتاج إلى ما قبله، ولا إلى ما بعده[5]، على أن هذه الاستقلالية لا تعني أن الوزن والقافية هي الرابطة الوحيدة المُؤَلِّفة بين أبيات القصيدة، كما لا تعني إمكانية التقديم والتأخير في نسقها المنضود دون إخلال بالمقصود، بل لهذا الصنيع امتدادات نفسية عميقة تضمن للقصائد وحدتها الشعورية والسيكولوجية، وتسمها بالانسجام الداخلي على عكس ما يتراءى لنا ظاهريا من تجاور أغراضها وتنائي أبياتها. وهذا الانسجام الداخلي يعكس وحدة النغم ومنطقية اللحن الذي يعزفه المبدع بدخيلته في سياق ما أطلق عليه المرحوم محمد محمود شاكر بتشعيث الأحداث.
والراجح أن مفضى شيوع ظاهرة اختيار الأبيات المفردة إلى :
- اعتماد كل المعارف والعلوم بما فيها التفسير والنحو والبلاغة وفقه اللغة وغيرها على الشاهد الشعري، إذ قال الجاحظ: “مدار العلم على الشاهد والمثل”[6]. ولا يخفى مدى إسهام الشاهد في تنميط اللغة أو تحويلها إلى تعابير مسكوكة.
- موافقة الأبيات المنتقاة لآفاق توقع المتلقين، إذ يرى ياكبسون أن “البيت ليس مفهوما بسيطا، أو وحدة مترابطة وغير قابلة للتجزيء، بل هو نظام من القيم، ينطوي ـ ككل أنظمة القيم ـ على تدرجه الخاص بالقيم العليا والقيم السفلى، من ضمنها قيمة رئيسة هي المهيمنة، التي بدونها، في سياق مرحلة أدبية معطاة واتجاه فني معطى، لا يمكن أن نتقبل البيت أو نحكم عليه كما هو”.[7]
- شفاهية التراث الشعري وسلوك منهج الرواية في تداوله، بمعية الوعي بأشراط الجودة الإبداعية الكامنة فيه، ما جعل النظر إليه يتسم بالجزئية، ولا أدل على ذلك مما تنقله إلينا كتب التراث النقدي ومؤلفات تاريخ النقد من بواكير الآراء الذوقية النازعة من أحاسيس ساذجة ورؤى غير معللة ولا منظور إليها في سياقاتها الشمولية.
- تعدد الأغراض في القصائد المركبة وتنوع موضوعات القول فيها رسخ هذه الاستقلالية.
- تكريس قضية المفاضلات والموازنات لهذا التوجه، إذ كانت المفاضلة بين قصيدتين كثيرا ما تنتهي بتفضيل إحداهما على الأخرى انطلاقا من بيت واحد، ذلك بأن الناقد ينطلق من الجزئي لإطلاق حكم كلي، يتم بسببه إغفال النظرة التكاملية إلى القصيدة، على نحو يسم الممارسة التطبيقية النقدية بالجزئية وضيق الأفق.
- استبداد الحكمة والمثل السائر والكلمة الجامعة جعل الاختيارات تتأسس على الكفاية الإيجازية وبلاغة الإيماء، وتنصرف إلى وحدة البيت واستقلاله معنى ومبنى، حتى إن البعض جعل أقل الشعر بيتين. وظل السؤال عن أشعر بيت أو أهجى بيت أو أصدق بيت أو غيره بمنأى عن الحسم، فلا يكاد ينعقد بشأنه التواطؤ والإجماع، ما حدا ببعضهم إلى القول: “إن الناس أشعر الناس”[8]، وقيل: “أشعر الناس من أنت في شعره”[9].
- اشرئباب الشعراء إلى الآفاق العليا، وتوقهم إلى حيازة الرواج والسيرورة والتداول جعلهم يُخْلِدُونَ إلى هذه الاستقلالية، نظرا إلى سهولة حفظ البيت الواحد، فضلا عن كون الشعر الوسيلة إلى تخليد المآثر،[10] علاوة على أن البيت الواحد كفيل بأن يضع قبيلة برمتها أو يرفعها ويسمها بالمجد على تطاول الأحقاب، وإن كانت هذه الوظيفة قد تجووزت فيما بعد، ولم تعد للشاعر تلك السلطة المطلقة.
- الترخيص بإمكانية أن يناقض البيت الشعري البيتَ الذي يليه أو الذي قبله، في حالة عدم التعلق والاتصال، حتى كأنهما قصيدتين منفصلتين.[11] ولئن كان هذا المنحى لا يسيغه تأويل، فإنه يمكننا أن ننظر إليه من جهة “التشعيث” الذي سلف ذكره، أو من مدخل المفارقة التي تنطوي على التناقض والصراع وحصول اللبس في التصور، بسبب من التضاد أو المبالغة أو الانزياح أو غيرها من الأدوات التي تتفتق في سياقها المفارقة، التي تؤم مقاصد نفعية يمكن التعرف بها كالآتي :
- المفارقة توقع المفاجأة في نفسية المتلقي وتشد اهتمامه.
- المفارقة مدعاة إلى التدبر والتأمل ومحاولة فحص موضوع تلك المفارقة.
- المفارقة هي الجسر إلى متعة المتلقي الانفعالية ولذته الجمالية، حينما تُكَلل بالتوفيق وتدرك مأربها، لأنها تستدرج المتلقي إلى التأمل وإعمال النظر ورشح الجبين، وتهيئه لاستبطان العلاقات المستترة والمعاني التي تُكِنُّهَا طبقات النص.
وفي خاتمة هذا التطواف العابر السريع يمكن أن نضيف أن أشعار القدامى كانت تمثل زمنها وتماثله وتشاكل دهرها، إذ لا فكاك للأبيات المفردة عن روح عصرها وعن الأنساق الثقافية العربية التي تكرس فكرة التفرد والاستقلالية، أو ما تسميه أدبيات النقد الثقافي[12] بالفحل الأوحد والأنا المتفردة المتعالية، سواء أتعلق الأمر بالأنا الفردية مثل قول الفرزدق :
فإني أنا الموت الذي هو ذاهب
بنفسك فانظر كيف أنت محاوله
وقول جرير جوابا عنه :
أنا الدهر يفنى الموت والدهر خالد
فجئني بمثل الدهر شيئا يطاولـه
أو قول المتنبي :
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعـت كلماتي من بـه صمم
الخيل والليل والبيـداء تعرفنـي
والسيف والرمح والقرطاس والقلم
أو قول عمر بن أبي ربيعة:
قالت الكبرى أتعرفن الفتى؟
قالت الوسطى: نعم، هذا عمر
قالت الصغـرى وقد تيمتهـا
قد عرفناه وهل يخفى القمر؟
أو تعلق الأمر بالأنا الجماعية، من قبيل قول عمرو بن كلثوم:
ملأنـا البحـر حتـى ضـاق عنـا
ومــاء البحـر نملـؤه سفينــا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما
تخر له الجبابر ساجدين
ويمكن أن نزعم أن الشعر العربي القديم لم يعدم النزعة الفردانية والنزعة الإقصائية التي كانت الصعلكة والميز اللوني وهيمنة الذكورة من أجلى صورها، فلا جرم أن تُمَثِّلَ الإبداعات الشعرية زمنها وتُمَاثِلَهُ وتَتَمَثَّلَ أنفاسه وأختامه.
هوامش
[1] – الشعر والشعراء أو طبقات الشعراء ـ ابن قتيبة الدينوري ـ حققه وضبط نصه: د. مفيد قميحة ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت ـ لبنان ـ د ط ـ 1981م ـ ص: 18-19. [2] – منهاج البلغاء وسراج الأدباء ـ حازم القرطاجني ـ تقديم وتحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة ـ دار الغرب الإسلامي ـ بيروت ـ لبنان ـ ط 3 ـ 1986م ـ ص: 67. [3] – العمدة في محاسن الشعر وآدابه ـ ابن رشيق القيرواني ـ تحقيق: د. محمد قرقزان ـ دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان ـ ط1 ـ 1988م ـ ج1 ـ ص: 248. [4] – المرجع السابق ـ ص: 356. [5] – المرجع السابق ـ ص: 448. [6] – البيان والتبيين ـ أبو عمرو بن بحر الجاحظ ـ تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون ـ ط3 ـ 1968م ـ ج1 ـ ص: 271. [7] – « Huit questions de poétiques » – Roman Jakobson – éd du seuil – 1977, (collections points) – p : 78. [8] – العمدة ـ ج1 ـ ص: 197. [9] – المرجع السابق ـ ص: 197، ينظر أيضا: الشعر والشعراء ـ ص: 22. [10] -العمدة ـ ج1 ـ ص: 153. [11] – سر الفصاحة ـ ابن سنان الخفاجي ـ صححه وعلق عليه: عبد المتعال الصعيدي ـ مكتبة ومطبعة محمد علي صبيح وأولاده ـ مصر ـ د ط ـ 1953م ـ ص: 282 [12] – النقد الثقافي، قراءة في الأنساق الثقافية العربية ـ عبد الله الغذامي ـ المركز الثقافي العربي ـ الدار البيضاء/المغرب ـ بيروت/لبنان ـ ط 4 ـ 2008م.
كاتب من المغرب