في موضوع الزجل:
يعتبر فن الزجل كل شعر يتم نظمه باللغة العامية لغة التواصل بين السواد الأعظم من الناس، لغة علية القوم مقابل لغة الخواص او لغة النخبة من المثقفين. وقد نشأ عن هذه الازدواجية اللغوية صراعات اجتماعية وسياسة ذات خلفيات ايديولوجية بحتة، ذلك أن اللغة العامية المستعملة في فن الزجل، إنما هي ردة على الفصحى، وثورة على الشعر العربي برمته.
وبموجب هذا الحضور اللغوي، طرحت أسئلة كثيرة غاب طرحها سلفا سواء على مستوى الدرس الأكاديمي او على مستوى النقد الأدبي الذي واكب النصوص بمختلف تيماتها واجناسها، إن تبني اللغة العامية، وانتشار استخداماتها في النصوص الشعرية مشرقا ومغربا، يعود أساسا إلى رغبة الشعراء في تجديد اللغة العربية وانتشالها من براثن الضعف والترهل، وتخليصها من نعوت الاستصغار والدونية اللذين طالها في لحظات تاريخية معينة، ويكفي ان نستحضر قصيدة «اللغة العربية تتحدث عن نفسها» لحافظ ابراهيم، لندرك عمق أزمة هذه اللغة، وفداحة موقف أهلها منها. يقول الشاعر متحدثا بلسانها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي * وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني
عقمت فلم اجزع لقول عداتي
ولدت فلما لم أجد لعرائسي
رجالا وأكفاء وأدت بناتي
إلى أن يقول:
انا البحر في أحشائه الدر كامن *
فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
لهذه الأسباب وغيرها، ذهب شعراء الزجل حديثا كما ذهب سابقوهم في الأندلس ولبنان ومصر، إلى تبني اللغة العامية في قصائدهم، محاولين التخلص من قيود القصيدة العمودية وبالرغم مما واجهوه من معارضات، فقد سعوا جاهدين للبحث عن بناء هوية جديدة للقصيدة وتحريرها من قيد القافية وصرامة الإعراب. يقول أبو بكر بن قزمان، احد أشهر الزجالين بالأندلس، مشيرا إلى هذه العقبات: « والإعراب وهو أقبح ما يكون في الزجل، وأثقل من إقبال الأجل».
وهو نفس النهج الذي سار عليه المتعاقبون من شعراء الزجل في الوطن العربي، والشعراء المغاربة منهم على وجه التحديد، نذكر منهم الشاعر إدريس امغار المساوي واحمد المسيح وغيرهما..
ولعل الشاعر» حسن الحاجبي» من الذين اقتفوا أثرهم فاختار لزجلياته الواردة في ديوان « على بيتك طليت» لغة التداول اليومي، دونما إيغال في الانشغالات الجمالية والفنية والرؤيوية لتهيبه من التجربة الزجلية في أول إصدار له، فجاءت رؤيته للذات والعالم محكومة بالرؤية الاجتماعية والسياسية، وفي ذلك انتصار للغة تغرف من معجم قريب من التناول والتداول. ويمكن ان نقف على مجموعة من المصطلحات اللغوية والتعبيرات المجازية كقوله في قصيدة «تعطلات علي خدوج» : الرادا الرادا الرادا ، وهي دعوة بلغة بدوية موجهة من الشاعر إلى معشوقته خدوج لتبطئ الخطى حتى يتسنى له اللحاق بها، ولغة الرادا بمعنى انتظري لا يمكن أن تفهم في جميع المناطق، وإنما في منطقة تازة تحديدا، ولغة « نحوزك» الواردة في زجلية « هواك زارني « التي تعني الرغبة في احتضان المعشوقة ومعانقتها لإشباع النهم وري العطش، وعبارة «ما قال حشومة» التي يراعى فيها الحياء والانقباض، ومصطلح «الكينة» و» الكوبوي» وعبارة « عضني الوقت» في قصيدة « على بيتك طليت» هذا فضلا عن اللغة المشبعة بالنفحة الدينية من مثل» اقض ما أنت قاض» و»مانتهنا غير ايلا جيت حداك». هذه اللغة وغيرها تروم نقل حرارة الواقع والتقاط نبضات الشعب وملامسة جميع فئاته، وتحرير القصيدة مما يضر بها من قيود.
في شأن بناء الديوان
يعتبر ديوان» على بيتك طليت» الصادر عن مطبعة ووراقة بلال (2018) اول عمل يصدر للشاعر حسن الحاجبي، تؤثثه خمسة عشر قصيدة زجلية، تتوزع أغراضها بين الرثاء والغزل، إلى جانب قصائد أخرى يحاول الشاعر من خلالها نقد الواقع واستجلاء نقائصه ومثبطاته، قصد ترميمه أو تغييره، لذلك وجدناه يجمع بين التعبير عن الهموم الذاتية والهموم الغيرية.
دوائر الهموم الذاتية:
دائرة الفقدان: ويمكن أن نتلمس ملامحها في ثلاث دوائر فرعية، يتصدرها عنوان الديوان»على بيتك طليت» ,الذي بني أساسا على فكرتي الزمان والمكان,ولوحة الغلاف بما تحتويه من عتبة الباب وأفرشتها وأدويتها قبل الرحيل. وبتصدر هاتين العتبتين ندرك منذ البداية أننا أمام نص رثائي ملتهب،ينتظر أن تجتمع فيه وبشكل كثيف مظاهر البكاء والنحيب والتفجع والانفطار، وما يستتبع ذلك من تأبين, إلا أن الانشغال بالألم سرعان ما سينضاف له انشغال آخر واهتمام ــ من الهم ــ إضافي بنساء أخريات، تؤكده التمظهرات النصية التالية:
ــ عتبة الإهداء: حيث الحديث عن الأم الراحلة، جنة الشاعر، والإشادة بأفضالها وما خلفه فقدانها من عميق الأثر في نفسه.
ــ زجلية «أربعة من النسا في حياتي»
اللولا من النسا في لكنان
في دواخل الحشا والوجدان
قضى وراد نعم المنان
تكون في دواح الجنان
ودعتها وهي في اكفان
والقلب يتقطر باحزان
طلبت الرحيم الرحمان
يشملها بواسع غفران
الثانية من النسا ماحلاها
ماحلى زينها وبهاها
عدات الكمرة في ضياها
والنجوم وصيفات وراها
حقق يا كريم رجاها
تدرك فالحياة مناها
وتفرح قلب باها
الثالثة من النسا محضية
فالقلب والحشا مخفية
معها دركت الأمنية
درت الرسام والذرية
الرابعة من النسا في بالي
لالة النسا الغوالي
مولات المقام العالي
ووليدها يقول لي خالي
يا ربي تخليها لي
ــ زجلية «على بيتك طليت « التي تعد أم القصائد وأهمها حضورا في الديوان بأربعة وتسعين سطرا، تليها « أربعة من النسا في حياتي ــ61 سطرا ــ والتي تنسحب دلالاتها على كل قصائد الديوان، الشيء الذي جعل منه مرثية ترتبط بالأم حين رثاها كما ترتبط بالغير رثى لهم.
دائرة العشق والإفتتان
بعد أن اكتملت دائرة المدح والإستحسان كلازمة في حق النساء الثلاث. سينتقل الشاعر في قصيدتين غزليتين اثنتين « تعطلات علي خدوج « و «هواك زارني « يستهلهما بمناداة خدوج الملهمة، علها تصغي لما يفيض به صدره من لواعج الحب والهيام,متلهفا إلى سويعات الاستئناس والاستمتاع بما قد تجود به من لحظات الإسعاد والوصال.
يقول في نبرة حادة عاشقة:
الرادا الرادا الرادا
نارك في صدري وقادة
زينك باهي فوق العادة
فمك خاتم وعيونك صرادة
الحاجب مكرون والخدود ورادة
إلى أن يقول:
آتيني يا زينة البدر
نحوزك حتى للفجر
نقبل الخدود والشفر
ونقطف تفاح الصدر
طال رجايا مابقى صبر
تعطلات علي خدوج
وفي قصيدة « هواك زارني « التي ختم بها ديوانه « على بيتك طليت « يقول:
هواك زارني حل على بابي
مارحمني مادار شوار
سرقتي المنام من عيوني وهدابي
في غيرك ما يحلى تفكار
أنت دوايا وانت مصابي
نرجى الله نعم الحي الوهابي
يبرد علي هاد النار
وبعد هذه الإشارات من الاكتواء العشقي، والتي تتجاوز الغزل العذري،يتساءل المتلقي: كيف استطاع الشاعر أن يزاوج في آن بين مشاعر الحزن والبكاء ومشاعر الفرح والانتشاء ؟؟.
دائرة الهموم الغيرية
وتمثلها في الديوان مجموعة من الزجليات ذات الطابع الاجتماعي والسياسي كقصائد «السلام على ميركان « التي يبدي فيها الشاعر موقفه من سياسة ارتماء العرب في أحضان أمريكا دون وعي بالعواقب إذ يقول ساخرا:
لله الحمد في كل مكان
والسلام على ميريكان
جابت الهنا جابت لامان
لأمريكا ألف قبلة
البيت الأبيض رجع قبلة
مات العربي خاب زمانو
زاد الكوبوي في طغيانو
وقصيدة « خارطة الطريق « التي كان يقضي مقامها إيقاف جميع أنواع العنف وفي مقدمتها ثورة أطفال الحجارة، وتنظيم مؤتمر عالمي لإقامة دولة فلسطينية، والشروع في مفاوضات الأوضاع النهائية لمدينة القدس واللاجئين والمستوطنات، معيبا على الدول العربية سياسة المحاباة والمداهنة إزاء أعداء القضية العربية الأولى.
يقول الشاعر:
كنا نحلمو بالحرية
وبدولة فلسطينية
أمريكا دارت مزية
وجدت حلول للقضية
جابت خارطة الطريق
أما قصيدتا « الجار « و» الغابة « فينتقد فيها الشاعر في الأولى حكام الجارة الجزائر على سياسة انتهاك حرمة الوطن قائلا:
شهدو يا ناس على الجار
ما قال حشومة عيب وعار
ما دار بحق الجورة
وفي الثانية يقف على مأساة الشباب المتمثلة في ظاهرة الهجرة إلى الشمال عبر قوارب الموت نتيجة سياسة الإقصاء وتفشي البطالة، فيقول واصفا أطوار هاته المأساة ومخلفاتها:
في البحر امواج تقذف شبان
تاهو ضاعو وسط ضبابة
في البر لحود وتوابت واكفان
ودموع سايلة ونسا ندابة
ما تكون هادي غير بلادي
بهذا الديوان الزجلي المشوق، يكون الشاعر حسن الحاجبي قد جمع في اتلاف بديع بين مجموعة من الأغراض الشعرية,تحمل في آن واحد بين هموم الذات وهموم الغير,في توق حثيث إلى التخفيف ,بل إلى التخلص من أعبائهما غير المحتملة.
شاهد أيضاً
تجربة الاستنارة في رواية ” الظل الأبيض” لعادل خزام (قراءة عاشقة) – لحسن ملواني
تجربة الاستنارة في رواية ” الظل الأبيض” لعادل خزام (قراءة عاشقة) – لحسن ملواني …