قراءة في “محكيات.. قفطان الملف”للكاتبة لطيفة غيلان عمرو گناوي
يعد “قفطان الملف” أول عمل إبداعي، تجود به قريحة الكاتبة لطيفة غيلان. وهو عبارة عن سيرة روائية، مثيرة للفضول النقدي على ثلاثة مستويات:
أ – ازدواجية عنوانها: “قفطان الملف”، و”محكيات الدهاليز الحالمة”، إذ لا ندري بالتحديد أصل عتبة الكتاب من فرعها. لكننا سنبيح لأنفسنا اقتراح عكس العنونة، لما يشدنا إليه العنوان الفرعي “محكيات الدهاليز الحالمة” ،كبديل عن “قفطان الملف” الأصلي، الذي يتصدر الغلاف، والذي يعد ثمرة تصور ما اهتدت إليه الكاتبة. فهل يستقيم استبدالنا لموقع العنوان الأصلي بالعنوان الفرعي، بناء على قول الراوي: “انتهى القفطان والحكاية لن تنتهي” (الكتاب. ص: 190)، ليتحول الأصل فرعا والفرع أصلا؟
فإذا سلمنا بهذا الطرح، فإن النبش في العنوانين المذكورين، المشكلين لهوية النص، سيصبح ضرورة ملحة.
ب – تحاشي الكاتبة تجنيس نصها على واجهة الغلاف، كما جرت العادة لدى الكتاب والمبدعين، مكتفية بذكر ملفوظات الحكاية والرواية، المبثوثة على امتداد النصوص. وفي ذلك إخلال بالميثاق التعاقدي المبرم بين المؤلفة والقارئ، الشيء الذي يرمي بالمتلقي في متاهات غير محمودة التقبل. ذلك أن مفهوم الكتاب المشار إليه، يتسع، كما هو معلوم، ليشمل كل الأعمال الأدبية شعرية كانت أم نثرية. فما كانت كل الكتب روايات، وما كانت الروايات إلا نسيجا من الخيال، تحكي عن الواقع من خلال سرد الأحداث، وتأثيث النصوص بشخوص تتحرك في زمن ومكان محددين. ولست أدري كيف لا تميز الكاتبة بالإسم، بين الكتاب والسيرة الروائية، فيصبح لديها المفهوم العام للكتاب مختلطا بالمفهوم الخاص. وما كنا لندرك طبيعة جنس “قفطان الملف”، للطيفة غيلان، لولا وجود مجموعة من المؤشرات الدالة، تم التنصيص عليها داخل الكتاب نفسه، لندرك أخيرا أننا مع فن الرواية السيرية. تقول الكاتبة، ضمن مؤشرات تحديد جنس عمل” قفطان الملف:
- أقلب بشوق صفحتين من روايتي(لطيفة غيلان. قفطان الملف. ص: 41)
- مزقت ثلاث صفحات من روايتي( ص: 190)
- كنت مختلية بالسطح… أتصفح رواية(ص: 152)
- أصعد إلى سطح المنزل، ومعي برتقالة وحكاية.. ووجهي إلى حكايتي أقلب صفحاتها(ص: 152)
- أغلقت دفتي روايتي لأهم بتلبية نداء معدتي (ص: 124)
- انتهى القفطان والحكاية لن تنتهي ص: 124)
- فتحت إحدى رواياتي وتصفحتها لأدفع عني صور الماضي(ص:، 36وأخيرا: وخاطبت نفسي كمن يحلم: هاته الكميمسة سأدفنها أيضا مع روايتي تحت جذع شجرة التوت وارفة الظلال فربما قد تزيدها اخضرارا وظلالا(ص: 187)
ج – أما وأن اعتبار” قفطان الملف” سيرة روائية، فيعود أيضا إلى تقنية توظيف الضمائر، بما فيها ضمير الأنا، كما ورد في الفصل السادس من السيرة الروائية ص :(142/141/140/139/138/137)، كمعبر عن الذات وعن ذوات أخرى ذائبة فيها، وجمعها بين ضمير المتكلم “الذي هو حكي استعادي، ونثر يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة خاصة”(د. بودربالة. فيليب لوجون. السيرة الذاتية. الميثاق والتاريخ الأدبي. ترجمة علي حلي. الطبعة الأولى. 1994. ص: 22)، وبين ضمير الهو أو ضمير الغائب، ممثلا في سرد نثري، مروي من طرف راو، عالم بكل شيء، معتمدا على عناصر الحبكة والشخوص والأحداث والزمكان، في مزج موفق بين الواقعي والمتخيل.
إن تقنية توظيف الضمائر، بما فيها ضمير الأنا، كمعبر عن أنوات مضمرة أخرى، والهو، كنائب عن أصوات الأغيار من الغائبين والغائبات، ليعد مهما في عالم الرواية السيرية على وجه التحديد. كما يتعلق بما تشكله أسلبة النص من تهجين اللغة وتداخل الأجناس، وأبعاد حوارية، وتدافع الضمائر، وتداخل الأصوات أو تباعدها، وتباين الرؤى ومواقف الشخوص، في انضغام تام مع الأنا والهو.
بموجب هذه السمفونية التصادمية، ستتعدد الأحداث، وتزداد المصائر الإنسانية غموضا، فلا تلوح في الأفق أية بارقة أمل في التواصل والانفراج.
بهذه المؤشرات الدالة، تكون الكاتبة قد اعتلت بكتابها هذا جنس الرواية السيرية، فجمعت بين لغة الحكي ولغة الخطاب، ارتباطا بها وبما دار في فلك اطوار حياتها ومتخيلها من محكيات. ولعل هذا من أسباب لجوء المرأة عموما إلى الكتابة.
هنا بالذات، يتأكد سر تمرد الكتابة النسوية، باعثها في ذلك، مطالبتها بحقها في الحلم، ورغبتها في التحرر من غياهب السجون، ودهاليز الحزن، بعيدا عن اللهاث وراء الفراغ. وقد يكون السبب أيضا تحرير الذات من قيود التبعية والمظلومية القاهرة. وهناك من النساء الأخريات من يلجأن إلى الكتابة الفضائحية، كشفا عن المستور، كما فعلت ليلى بعلبكي في روايتها “أنا أحيا”، وغيرها من الكاتبات الثائرات على إكراهات المعيش. بل إننا نستطيع أن نزعم أن كثيرا من كتابات النساء والرجال تلتقي قليلا أو كثيرا في نفس الهموم وفي نفس دوائر الكتابة. يقول نزار قباني، في إحدى قصائده، معللا كتابته:
أكتب..
حتى أنقذ العالم من أضراس هولاكو.
أكتب..
حتى أنقذ النساء من أقبية الطغاة.
أما على مستوى محكيات هذه الرواية السيرية، فيمكن أن نقاربها من زوايا ثلاث:
1- محكيات الدهاليز الحالمة:
في إطار الحديث عن هذا المحكي، وجب التسليم بداءة بأهمية الفضاء في” قفطان الملف”، منذ العنوان، لأن العمل الأدبي عموما يقوم على مظهرين: حكاية وخطاب، حكاية تذكر بواقعيتها، وبالأحداث التي وقعت بالفعل، وبشخصيات عاشت هذه الأحداث وعايشتها. في الوقت الذي يطلق المحكي على الكلام الذي يهيمن عليه القص، شفويا كان أو مكتوبا كالقصة والرواية. أي أن المحكي يطلق على كل خطاب يسرد به الراوي الأحداث والوقائع المختلفة. ففي حوار بين زهرة والأم، تلتقي أحلام النوم مع أحلام اليقظة، وكلا الرؤيتين تساهم في الارتقاء بالمرأة إلى عالم وردي حالم، كما يتجلى في الحوار الذي دار بين الأم وزهرة:
“هل حلمت الليلة؟
حلمت أني كنت اصعد في سلم طويل طويل…”(قفطان الملف.ص: 164)
وارتباطا بالدهاليز الحالمة. فكلا الملفوظين مرتبط بالحكي والخطاب السردي، في تلازم تام مع المكان.
وفي هذه المحكيات أيضا، تتقاذفنا ثلاث مصطلحات: محكيات، الدهاليز، والحالمة. باعتبار ما يوجد بين هذه المصطلحات من تقارب وتباعد. ومن شأن تجاور هذه الألفاظ، أن ترمي بالمتلقي في عالم حالم، تحاصره محكيات فضائية أهمها : فضاء المكان، فضاء الزمان، وفضاء الشخوص.. يؤسس لها جميعها فضاء المكان الجامع المانع. وهي محكيات تجمع بين الشق الواقعي والشق المتخيل، ارتباطا بثنائية الدهاليز/الحلم. المرتبطة أساسا بالمكان، متنقلة فيه ومنه، وعائدة إليه.
إن الحديث عن المحكي في العمل الأدبي، يقوم عموما على مظهرين : حكاية تذكر بواقع ما، وخطاب يعززها، وأحداث تكون قد وقعت بالفعل، وبشخصيات تكون قد عاشت هذه الأحداث وعايشتها. والمحكي هو الذي يطلق على الكلام الذي يهيمن عليه القص، أي على كل خطاب يسرد به الراوي الأحداث والوقائع المتخيلة كما هو الحال في هذه السيرة الروائية. لتبقى عملية النبش في طريقة انبنائه واردة، والكشف عما تخفيه من أبعاد دلالية ورمزية، من خلال التركيز على صيغة الدهاليز الحالمة، باعتبار ما بينهما من تداخل وتعارض. وأول خطوة تذلل مصطلح الدهاليز، ما ارتبط بالحقيقة قبل المجاز. ذلك أن الدهاليز لغة ج. دهليز، وهو عبارة عن مدخل طويل ضيق، ممتد بين الباب ووسط الدار، مثير للخوف، وعاكس لانعدام الأمان. كما يرتبط الدهليز بالبيوت التاريخية، كتراث يتميز داخله بالرائحة والبرودة، والرطوبة والإضاءة، إضاءة تختلف عن البيئة الخارجية والداخلية. وقد ينصرف معنى الدهليز كما يؤشر عليه العنوان، إلى ما يشبه النفق المسدود الذي تتعدد منعرجاته، “وكأنه لا مخرج له ولا منه”(د. عبد الملك مرتاض. قراءة لرواية” الشمعة والدهاليز” للطاهر وطار. مجلة العربي. يونيو. 1996)
وعموما، فإن الدهاليز عادة ما تتعلق بخزان المدخرات المادية الخاصة بالتموين، قبل أن تكون حمالة أحلام وذكريات، لحظة اختلاق الأحداث، بشكل غير متصل مباشرة بالحياة الواقعية، من خلال سردها وإعادة بنائها وتوظيف تقنية الاسترجاع والاستباق فيها، مع مراعاة جمالية اللغة بشكلها الفصيح والمهجن، وكل ما يشعر المتلقي بجمالية الفن. ليبقى المكان جزءا من الفضاء المشكل لجمال النص، تجري فيه الأحداث، وتتحرك الشخوص، فتتولد لديها جراء ذلك شحنات عاطفية لا تقاوم، بغض النظر عما إذا كان المكان بابا أو ممرا أو زنزانة أو ساحة أو مدينة.
2- محكيات قفطان الملف:
أما عن عتبة” قفطان الملف” ومحكياتها، فتعود
إلى ما يحتله القفطان في الثقافة العربية من مكانة أثيرة. فهو من الألبسة التقليدية التي يعود تاريخها إلى زمن بعيد، تلبسه المرأة فضفاضا دونما حاجة إلى حزام. ويعتمد في صنعه على أقمشة فاخرة، يتم تزيينها بالتطريز الرباطي أو الفاسي، مع توشيته بالأحجار الكريمة ليزداد جمالا ورونقا، فتتباهى المرأة بلبسه في الأفراح والمناسبات الخاصة. ومما يزيد القفطان جمالا وجاذبية، تلك الألوان الزاهية التي تتراوح بين الوردي والأبيض والبرتقالي، سواء كانت هذه القفاطين مخيطة، بالأكمام او بدونها. ولكي نتبين المحبب منها لدى النساء، نورد بعض ما جاء في بعض نصوص كتاب “قفطان الملف”:
– جدتي لم تتغير، فحليها الثمينة، لا تفارق صدرها ومعصمها وأصابعها لا في السراء ولا في الضراء، ولا في الفرح ولا في القرح. قفطانها الخفيف الوردي أنيق.(ص: 11/10)
– سحبت منديلها من ثنايا صدر قفطانها الوردي ومسحت شفتيها الرقيقتين(ص: 12)
– فخلال أسبوع تكون جدتي قد تزينت بثلاثة قفاطين بألوان مختلفة(ص: 85)
– صباح الخميس كان مشمش.. وللا غزالي كانت مجردة في قفطان من اللون البرتقالي قفطان خفيف بدون أكمام وبشرة ذراعيها الممتلئتين تلمع. (ص: 99).
– وأخيرا للا زبيدة الخياطة هي التي تعلم النساء والرجال صناعة القفطان التقليدي(ص: 118)
بهذه الإشارات الدالة، تكون القفاطين قد استكملت لدى النساء جمالها وبهاءها، واتخذت مقومات جمال ألوانها، ودلالات رموزها المتراوحة بين الفرح والحزن، الخصوبة والعقم، وبين الرغبة في الإقبال على الحياة أو الإدبار عنها، وبين ترميز للتراث والهوية والأناقة والنبالة.
3-ـ محكيات القفطان بين المذكر والمؤنث:
بناء على ما سبق، نستطيع ن نصنف “قفطان الملف”، ضمن الأدب النسائي، بداية من مؤشر العنوان، مرورا بثنائية “الأنا” و”الهو”، وما يستتبعهما من صراع بين المؤنث والمذكر، حضورا وغيابا. وحتى نتبين مواقع حضورهما في “قفطان الملف”، واستجلاء حقيقة حضور المؤنث من غيابه، نورد الإشارات النصية التالية:
– “قد أكون حين أهملت كلمة “دار”،( ذات الرمز الأنثوي)، اصطفيت كلمة منزل لتكون اسما لهذه البناية منجرفة إلى ما يحمله” منزل ذكر” من معاني القوة والسلطة الذكورية(ص:5).
-“أريد من يأتيني بقطة صيادة وليس بقط”(ص:5)
– تساؤل زهرة عن جنس مولود المدرسة: ” كانت حاملا ولم أعلم هل وضعت ذكرا أم أنثى(ص: 50)
قبل أن يتم التأكيد. أخيرا على دونية المرأة
- “فلوليات. كما تفهم هي.. مقهورات وهن في البطن.. وحين ينزلن منه.. يستقبلن بزغرودة آسفة حزينة. أما الذكور يستقبلون بسبع زغاريد فرحا واعتزازا والرجال يستقوون عليهن(ص: 119)
من شأن هذه النماذج المستقطعة، أن تذكرنا بوضعية الذكور مقارنة بالإناث، وما ينم عنها من مواقف متباينة، سواء تعلق الأمر بموقف الإشادة :”الشمس مؤنثة تتوسط السماء”(ص: 54)، أو بموقف الإبادة الذي أكده تعالى في سورة التكوير حين قال: “وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت”(سورة التكوير. آية 8/9)، في مقابل الاقتصار على الإشادة بالذكور، كما كرسه فخر عمرو بن كلثوم في فخره
فإذا بلغ الفطام لنا صبي تخر له الجبابر ساجدينا
إلا أننا لا نعدم موقفا معتدلا من الإناث والذكور، عبرت عنه الجدة بوضوح، حين تمنت الذكور إلى جانب ما لديها من إناث، قائلة :” لم تكن لدي إلا البنات.. ثلاثة بنات.. الذكور يفارقون الحياة بعد أسبوع من الوضع. كل الذكور فقدتهم في الأسبوع الأول.. كنت عند كل فجر أصلي وأدعو الله أن يأتيني بفرجه.. وأن يمن علي بذكر صلب في أسبوعه الأول بعد الوضع(ص: 32)
محكيات المكان
ترتبط المحكيات هنا بالدهاليز كثيمة أساسية، والدهاليز .ج. دهلي، وهي مجموعة من المداخل الضيقة الممتدة بين الباب والدار. ومنه أبناء الدهاليز أو اللقطاء نتيجة أفعال التسري، حيث “لا تمر ليلة إلا وتدعو فيها من تنتقيه من عشاقها إلى مخدعها…فيغادره قبل الفجر…مذهولا ومسحورا بحضن الأنثى السابعة للملك”( قفطان الملف. ص: 116). وقد تنزاح دلالة الدهليز لتعبر عن الزنزانة كما تدلل على ذلك رواية” دهاليز الحبس القديم” ل(حميد لحمداني). والمكان في الرواية السيرية هذه، لا يقصد به الدلالة الجغرافية بالذات، وإنما يتسع ليشمل دهليز المنزل، والقفاطين، ومدخل المنزل، وقفل الباب والقبة.. والصينية(رمز الأصالة وكرم الاستضافة)، وقبة السوق، والأزقة الملتوية، وساحة الاحتفال، والحمام، ومدخل “الشيخ”(الكامل)، والفرق العيساوية، وعين لالة شافية، وحوض البحر الأبيض المتوسط، وطنجة، وبرشلونة، وسان فرانسيسكو، بكل شخوصه وأحداثه وزمانه وناسه… بل يتسع ليشمل كل مؤثثاته من أحداث ووصف، وشخوص.. إلخ. تحت مسمى فضاء.(أنظر كتابنا: ” الفضاء الروائي في أعمال سحر خليفة”(2011).
ويعد المكان في الإبداع الأدبي، أيا كان نوعه، أهم عنصر من عناصر البناء الفني. كما هو الشأن بالنسبة للدهاليز التي تعد مرادفة للفضاءات، تجمع محكياتها بين الأماكن المنغلقة كالدار ، والمنزل الشبه مهجور، والبيت والصينية، والمطبخ والحمام والباب الموصد الذي لا يفتح أبدا. والأماكن المنفتحة كقبة السوق ومدرسة سيدي عبد الرحمان، ومدرسة سيدي عبد العزيز، وساحة الاحتفال، وطنجة، والبحر الأبيض المتوسط، والقارة الأمريكية.. إلخ. وهي فضاءات مقرونة بالأحداث والأزمنة وحركة الشخوص وغيرها من عناصر البناء السردي.
بهذه المكونات، تكون “قفطان الملف” قد شكلت بتلوينات فضاءاتها، لوحة بديعة، ثرة ثراء مدينة مكناس، إن على مستوى اللغة(يشويني فيه، تفو عليها، القرقبة الكناوية..) أو على مستوى جمال الأغطية والأفرشة، وأنواع الطرز وأدواته(أقلام ملونة، إبرة، عقيق، كبة الخيط)، ومحتويات المطبخ من أوان كالصينية، رمز لم الشمل والكرم وحسن الاستقبال.. هذا فضلا عن استحضار بعض الأطعمة النادرة كأكلة الخليع. وممارسة بعض عادات وتقاليد المدينة، المرتبطة بالمناسبات الدينية كعاشوراء، وموسم الهادي بنعيسى، أو الرغبة في التداوي بزيارة عين للاشافية.
محكيات الشخوص:
ما يميز هذه الرواية السيرية، أنها متعددة الأصوات، يتقاسم أحداثها كل من الذكور والإناث، كما سبق، باختلاف رؤاهم، وتباين مواقفهم، تبعا لاختلاف محكيات كل شخصية على حدة. ويمكن أن نصنف محكيات هذه الشخوص إلى قسمين:
أ – صنف الإناث:
اللواتي تراوحت أهمية وجودهن بين الصالحات والطالحات، كما يتراوح الذكور تماما. ومنهن اللواتي يمارسن عملا شريفا يكسبن منه الرزق الحلال. وربات البيوت غير المتعلمات، اللائي يحافظن على ضمان السير العادي لشؤون البيوت. منهن للارقية التي أخفت حملها، فرزقت بذكر اسباعي. تقول مولدتها للامينة:” هذا رجل يا للارقية… لقد حدست قدومه الليلة… أتى قبل أوانه في شهره السابع… إنه اسباعي.”(قفطان الملف ص:26/25). ولعل في حملها المتستر ما يبرر عدم ظهورها حتى ص10 من الكتاب. ومن الإناث الأخريات من يزاولن حرفة الطرز، ضمانا لدوام النفع الخاص والنفع العام. تتصدرهن “المعلمة” الطاهرة، معلمة الذكور والإناث، و”التي اشترت المنزل النظيف من مدخول الطرز” الحلال.(ص: 69). وطبيعي أن تمارس كل من هؤلاء النسوة دورها في الحياة حسب مؤهلات كل واحدة منهن
ب – وصنف آخر، تمثله الإناث المتعلمات، من قبيل المدرسة معلمة الأجيال، وزهرة الطالبة الجامعية، التي تشبعت بالفكر الاشتراكي، وتأثرت ببعده النقدي على حد قولها: ” اتشي جيفارا ظل أيقونة في ذهني”، (ص: 148). فكان الفكر الثوري درعا وسندا لها في انتقادها لواقع المرأة، وإكسابها جرأة في مساءلة أمها عن حقيقة أبيها، أسوة بما طرحته للامينة عن حقيقة أبيها وأمها. ومما يؤكد هذا هذه النوع من السلوكات اللاخلاقية قول الساردة الأم: “أيقنت أنه هو من لعب برأس جوهرة وحملت منه بي.”(قفطان الملف. ص: 171)
صنف الذكور:
والمتعلق بحكاية ملك “كانت له سبع زوجات من سبعة أجناس، إلا صغراهن للا الحبيبة، التي كانت من جنسه”.(ص: 161/115)
- إدريس، المكلف من طرف رقية بمهمة توزيع الدقيق، وكراء الدكاكين واستخلاص النقود
- الفقيه البصير: شخصية اجتمعت فيه بليتان، ممارسة الشعوذة واغتصاب النساء.
- مصطفى: شخصية متعلمة، طالب جامعي، شخصية واعية متعلمة، صديق زهرة في رحاب الجامعة.
- الأب: صاحب البندقية الصغيرة والكبيرة، صاحب حقول الزيتون.
- ديداي: مطرب المدينة، الذي تتعالى مواويله وأغانيه من مسافات بعيدة.
- مغتصب الأطفال الصغار.
وضمن شخوص الذكور والإناث، تحاول الكاتبة في نقدها، أن تثير حفيظة المتلقي بتقديمها لنماذج اجتماعية رديئة، تتنافى سلوكاتها والقيم الاجتماعية النبيلة، معبرة عن موقف المرأة من محكيات” القفطان”. وبذلك تكون قد عبرت باسم النسوة عن موقف المرأة من محكيات القفطان، لتؤكد عن وجود علاقة بين الكتابة بالحرف والكتابة بالطرز، وأن بالكتابتين معا، تستطيع المرأة أن تثبت موقعها، وتحرر نفسها من التبعية الفكرية والاقتصادية.
وتكفينا الإشارة، في نهاية هذه المقاربة، إلى ضرورة الإشادة بهذا العمل الإبداعي، للأسباب التالية :
تمكن الكاتبة، وباقتكار، من التوفيق بين أسلوب الحكي وأسلوب السرد
اعتبار هذه السيرة الروائية، عبارة عن ورقة توثيقية لما تزخر به مدينة مكناس من تراث إنساني متعدد.
ومن حسناتها النقدية، ما أثارته على لسان الشخوص، بنوعيها الذكور والإناث، من نماذج اجتماعية رديئة، تتنافى سلوكاتها والقيم الاجتماعي النبيلة. معبرة عن جدوى الكتابة النسوية، سواء تعلق الأمر بالكتابة بالحرف أو الكتابة بالطرز، لأن المرأة بالكتابتين معا، تستطيع أن ترفع عنها الاحساس بالغبن، وتعيد الاعتبار لموقعها في السيرورة الاجتماعية، وتحرر نفسها من التبعية الفكرية والاقتصادية.
ناقد من المغرب.