يرى الشاعر المغربي رشيد المومني أن تجربة الكاتب والمثقف محمد أبزيكا هي “مسيرة مكابدة ومكابرة لأنها أصلا مشاركة مشفوعة بصدقها وبنائها الدرامي، في إحدى الحالات العصية على الفهم والتي أربكت المشهد الثقافي مع تعاقب الأحقاب الأزمنة في لحظة عدوانية أرغمت ذاتا مفكرة ومبدعة على الانمحاء أمام جموح سلطة قدرية لها فقط يؤول فصل الخطاب وبيانه.” ولئن كانت سطوة القدر وازنة في مسار مثقف استثنائي واستشرافي انسحب إلى مدارات الصمت والسفر في المغارات الداخلية والاكتفاء بقراءة الإشارات والعودة إلى الظلال بعيدا عن الضوء وفضاءات قراءة مؤشرات الحداثة ومؤشرات التحولات والذاكرة والتاريخ والسياسي في مدرجات الجامعة وعلى صفحات الكتب والمجلات العلمية وندوات المعرفة، فإن استدامة ذكرى هذه التجربة المندورة للإعمار المعرفي والوجداني للأمكنة والفضاءات وللبحث في الجذور والملهمة لأجيال من الكتاب والموسيقيين والباحثين، رهينة بوعي يجعل المدينة أفقا للتفكير، إن مثقفا من طينة محمد أبزيكا هو علامة نيرة في مسار مدينة تعاقبت على تدبيرها رؤى سياسية مارست الكثير من المحو وإلغاء الذات وعمقت جذور النسيان، معتقدة أن المجال الترابي طبيعة صماء منفصلة عن الحياة الرمزية ومنفصلة عن المعنى والبناءات السردية التي تمنحه فرادته، وأن الفضاءات منفصلة عن هويتها السردية، التي يشكل فيها محمد أبزيكا أحد شخوصها الكبار وإحدى قاماتها الشامخة وقواها الفاعلة، كما تعاقبت عليها رؤى بقدر ما كانت تتخفى خلف أقنعة الخطاب المؤمن بالتعدد والاختلاف بقدر ما كانت تهوي على إحدى أكثر الأغصان وعدا بالحياة في شجرة العائلة الرمزية في سياق مركب ظلت تحتج فيه بكونها نتاج إرادة شعبية لتمارس سلطتها في محق الاعتراف وتؤبد ما اعتقدته المعنى المطلق ولتجابه المطلب المدني بتسمية المركز الثقافي بأيت ملول باسم محمد أبزيكا بالكثير من الجحود، لقد كان محمد أبزيكا في مخيالها كما لو أنه استلهم من الأعمال التي شكلت وعيه صورتها، وكان شبحا يطوف على المدينة، كانت تتعيش من استعارة ابن رشد، كانت تفعل مع اسمه، ما فعله الفضاء المغاربي مع ذلك الصوت النقدي الذي وشم الذاكرة الإنسانية بترجماته لأرسطو، لتبحث له عن فضاء قصي يستوطنه، بعيدا عن الجذور وعن أمكنة الألفة، ولئن نجحت في ذلك ، فإن الصوت النقدي يظل دوما حالة فكرية عصية على المحو والنسيان صاعدة من رماد الحرائق المضرمة، حالة فكرية استطاعت أن تحتضن ذاكرتها بهذا القدر أو ذاك ، فضاءات مدنية من قبيل جمعية تويزي في التسعينات ومركز مدينتي للتكوين والإعلام ومنظمة تاماينوت فرع أيت ملول والجامعة الصيفية، مقترحة ندوات حول أعماله وندوات حول أسئلته وجوائز باسمه، كانت تحية له واستعادة لقلقه الفكري وليليه المعرفي، مثلما احتضنته الجامعة وعانقت فيه ابنها البار وأكثر أصواتها عمقا ورصانة، ناشرة أعماله ومناقشة أطروحته، وبالمحبة ذاتها شيد لنفسه في وجدان وقلوب مجايليه من طلبته وأساتذته ورفاقه منزلة لم تقفر مأهولة بصوره، وفي قلوب غير مجايليه بيتا رمزيا لكونه قد شق في أرض الفكر والبحث بئرا للارتواء من ماء المعنى وهو يتدفق على المتخيل والتعبيرات الأمازيغية والحكايات وشق في الجدار العنيد للهيمنة كوة لضوء باهر يسربل مراقص إسوياس والهضرت وكناوة وأحواش… إن تسمية المركز الثقافي بأيت ملول باسم هذا المتعدد، قد تكون اعترافا متأخرا ومؤسسيا بأثر خلاق، بذاكرة مكان وسيرة مرحلة، إنها في الواقع من قبيل ما سماه طالبه وتلميذه رشيد أترحوت طلب الصفح من فكر ووعي معاصرين والذين يسمون أنفسهم معاصرين – كما يقول – جورجيو أغامبن – ” هم فقط أولئك الذين لا يسمحون لأنفسهم بأن تعميهم أضواء القرن ويتمكنون بذلك من أن يخطفوا نظرة إلى تلك الضلال وإلى غموضها الجوهري ” الظلال التي أوى إليها محمد ابزيكا لربع قرن من الحياة، والغموض الجوهري الذي ظل يكتنفه حتى يتفرق دمه بين القبائل ويسكن القلوب صريعا لعشقها الهادر، إنه من قبيل الواجب أن تنصت لكل هذه الأصوات وأن تقدر ملح هذا الخبز الرمزي. فهي الطائر المحكي وعلى الآخرين أن يكونوا الصدى.
تسمية المركز الثقافي بأيت ملول باسم المثقف والكاتب الراحل محمد أبزيكا والمصادقة على العريضة المدنية المقدمة من قبل مركز مدينتي للتكوين والإعلام والتفاعل الإيجابي مع أصوات النخب الفكرية والمدنية والثقافية من قبيل واجب الذاكرة في لحظة مشرقة من سيرة ذاتية بأثر خلاق وعلامة دالة على قدرة الفعل المدني على استثمار المتاح والاضطلاع بدور نقدي. سكن محمد ابزيكا الذي وشم الذاكرة بعلامات ومعالم على طريق البحث في مجهولات الذات الإنسانية ولا وعيها ومتخيلها وأسئلتها وفنونها، وبعد أن اقترح على المشهد الثقافي مفاتيح يلج بها خرائط وهوامش جديرة بالانتباه والسؤال، خرائط كان حراسها حريصين على التسييج، وظل أثره يقاوم تلك الرغبة، هذا الإظهار العمومي لهذا الاسم الشخصي الصاعد من رماد الحرائق والمكابر أعطاب الجسد وتراجيدية الشرط الإنساني وسرديات الضدية وأشباح الموتى، ليس مجرد اعتراف، إنه الصفح عينه بما هو حد تعبير بول ريكور قائم على يقظة الذاكرة واشتغالها الحيوي ومجابهتها للنسيان. يذكرني في كل الأحوال هذا الفعل الرمزي ومقاومة هذا الاسم الشخصي للنفي بعيدا عن فضاءات ميلاده واكتشافه العالم بما وقع لجسد ابن رشد ونفي جثمانه بعيدا عن البلاد مما اعتبر لحظة فاصلة لاختيار ثقافة الأذن ومقاومة ثقافة العين القائمة على إعمال النظر والتبصر والتأمل والإدراك، هذا النفي الذي قاومه محمد ابزيكا بالعودة إلى الينابيع الأولى يظل بارقة أمل في هشاشة القول بحتمية عدم القدرة على استعادة الرؤية القادرة على استشراف الممكن وعلى الإنصات لنداءات العالم المعاصر، على تحرير الذاكرة وتحرير إمكانات الفعل والخلق، على عودة ابن رشد الليلي المنشغل بالفلسفة والترجمة والجسور والمعرفة وبالإعمار الرمزي للعالم إلى فضائنا الثقافي والمعرفي .
الفضل كل الفضل للذين حملوا بقايا نار الراحل في يدهم لعقود. بالنسبة لجيلي، الجيل الذي جاء إلى العالم حين استأنف الراحل فصل الصمت في سيرته الذاتية المنكتبة بالجسد والأحوال، الجيل الذي لم يقض له معايشة هذا الإنسان الجنوبي المفرط في إنسانيته، والمتعثر بهذا الاسم الشخصي في الأعداد القديمة لمجلة الثقافة الجديدة أو في أغاني ازنزارن ومنشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة ابن زهر بأكادير ، يظل محمد ابزيكا بالنسبة إلينا حالة فكرية مهجوسة بالبحث في الجذور والتفكير النقدي والحفر بحثا عن امتدادات عملية للمعرفة والتقاط الكونيات الكلية في الممارسات الرمزية والطقوسية للإنسان والاحتفاء بالجمال، وانتظام حركة الإنسان في مسار سؤال شخصي يكون الخيط الناظم لاهتمامات الذات وانشغالاتها في مختلف فضاءات المجتمع.
هذه تحية لروحك في مهاوي الصمت وفي الزمن الماورائي، باقة زهر على قبرك في حيواتك الموازية، هذا صيد الحواس من أثرك الممتد في عالم الشهادة راسخا في السؤال.
كاتب وباحث في الأمازيغية من المغرب