الرئيسية / دراسات / نظرات نقدية في ديوان ” ترانيم كبرياء” للشاعرة المغربية مريم الشافي.- محمد الزين

نظرات نقدية في ديوان ” ترانيم كبرياء” للشاعرة المغربية مريم الشافي.- محمد الزين

في البدء كانت المغامرة

 قد تبدو المقاربات المتعددة جزرا نائية إلاّ أنّها تُشكّل أرخبيلا تتواشج فيه وتُحرّكه نظرات جمالية ومعرفية نُباشرها بالفهم الدقيق لِأعْطافِ المضامين الفكرية لهذه لتجربة الشعرية، يقول د. علي المتقي: ” فإنّ المنهج، أيّا كان يبقى في مجال تحليل النص الأدبي وسيلة وليس غاية، فهو يُكَيَّفُ لخدمة النص وليس العكس”[1]، ولذلك انصرف اهتمامنا من المِهاد والفرْش النظري القائم على قراءة إبداعية لهذا المتن منْ أراضٍ سيميائية فيحاء تستدعي أنساق العلامات وتقصِّي المخبوء انطلاقا من العتبات النصية وسيميائية الأسماء وبعض الدّوال، ثم إشارات بسيطة من منظور الحجاج العاطفي في الخطاب الشعري، وجماليات التعدد الصوتي؛ هذه العلامات مجتمعةً ستضيء هذه الدراسة لاستنطاقٍ أعمق لقصائد الديوان وتفكيك ما يموج في البوح الأنثوي الشفيف من تمثيلات دالة. وتسعى هذه العملية التركيبية الخلوص إلى نظرة تستقي تصوراتها من جدوى الموضوعية والعلمية.

أولا سيميائية العتبات، العنوان:

لقد بات من المعلوم أنّ العتباتَ تكْشفُ أوْجهَ فرادةِ الديوان باعتبارها نصّا مُوازيًا تنصهر فيه خصوصية وخصوبة الخطاب الشعري، فهو” الخطوة الأولى من خطوات الحوار مع النّص”[2]، في صفحة الغلاف اتخذ شكلا هندسيا بخط واضح، أتى تركيبيا مُكوّنًا من اسمين؛ فكلمة ترانيم في المعجمية اللغوية أنشودة صغيرة خفيفة اللحن، وكلمة كبرياء تعني الترفُّع والتّجبُّر، أَتَتَا إسنادا أكسبهما تخصيصًا بدلالة الإخبار وتحقيق قُوّةِ اقتراح انسجاما مع كمال الذات والوجود الشعري، ومن القمين بالذّكر أنّه اتسم بالحذف؛ حذف اسم إشارة المؤنث لأن تقدير الكلام في نظرنا ” هذه ترانيم كبرياء” والنكرة بعد اسم الإشارة تعرب خبرا، والحذف عند عبد الفتاح كيليطو ليس نقصًا بل إضافةٌ نوعية فالكتابة لا تكونُ إلاّ بالمحو. وَلَنَا حاجةٌ أنْ نستدعي العناوين الفرعية المُعبِّرةِ عن مُحتوى النصوص وأثر الذات الشاعرة التي اختارت هيمنة الجمل الاسمية للدلالة على حالة من الثبوت والدوام لأحاسيسها الإنسانية التي ترغب في إنشاء وتثبيت اعتقادها الرامي إلى ” إدانة ” الرجل والانتصار لقضايا المرأة، فكان لابد من توصيف لحالات ثابتة تنزع نحو ترسيخ رسالتها الشعرية. العنوان إيجازٌ ومجازٌ موسيقي سيميائي اتسم بالرقّة والانسجام الصوتي، فكان من الأجلى والأولى ضرورة وجود الفن كبحث عن كينونة أعمق وكتعبير راقٍ عن إنسانيتنا.

الإهداء:

الإهداء عتبة نصية مؤثرة والعبارة التي تُبلّغ المعنى الذي نُرجّح الأخذ به مفاده: إلى كل امرأة كُسِرت ألف مرة ولملمت شتاتها بنفسها، معناه في قرار مكين أنّ المُهدى إليها كلُّ امرأة واجهت حيواتِ الوجع والتصدّع وتمرّدت على ثقافة الممنوع.

الغلاف:

يعدّ اللّون أحد المفاتيح المهمّة في فهم التّجربة الشّعريّة للوصول إلى المغزى الكامن وراء النّصوص”[3]، كعلامة سيميائية دالة حيث تَصَدَّر اسم الشاعرة في الأعلى بخط أبيض، وفي الخلفية تبدو صورة ملامح امرأة وكأنها في حالة استرخاء، إنّها رياضة النفوس على النبالة، واللون المُختار بعناية يدل على الدفء؛ دفء الذات ودفء الإبداع الشعري للشاعرة مريم الشافي. الغلاف احتوى على اسم الشاعرة وعنوان الديوان والتجنيس إيذان بانتماء المنجز إلى مملكة الشعر، أتى بِخَطٍّ أبيضَ كعلامة سيميائية تدل على الخير والطّهر والجمال والمثاليّة.”

سيمياء الأسماء:

تتناص بشكل كبير مع الشعر الحديث خصوصا مع نزار قباني، فالشعر عنده قنديلٌ أخضر أو رسمٌ بالكلمات، في سياق التماهي مع تجربته الشعرية لكونه علامة تحيل على مرجعية ثقافية تشبعت بها الشاعرة، تقول في قصيدتها الأولى ” من أنت؟ “:”وأنا عاشقة الياسمين ونزارية نزار أنّث لغة الحب حين طفت إلى السطح اللإنسانية التي تلف العالم، استدعت هذا الاسم في سياق تخطيب التجربة الحياتية والإنسانية والقلبية والوجودية للذات، مداراتٌ محورية حول الذات الشاعرة المشحونة بالعلامات الدالة على الانتصار والكبرياء والآخر المُقدّم كصورة وعلامة سلبية.

سيميائية الدوال، الكتابة دالُّ كبرياء ومجابهة:

الكتابة فعل متحرّكٌ في الزمن لقراءة الوجود، تُحوّل الصمت إلى كلمات راسمة لوعي بالكينونة الإنسانية، هي إبداعية النص الشعري الذي يتعين بوصفه بناءً لغويا وفنيا وجماليا، وعندنا في هذا الدّالِّ شاهدٌ صريح في نهاية الديوان قصيدة موسومة ب: “الكتابة” ص76،75، تقول: الكتابة فعلٌ/ولكل فعلٍ دوافعٌ/لا لَفْتُ انتباه/ولا كسْب تعاطف/الكتابة ليست

مطامعَ/هي شيء يقتات/من أعمارنا/يقضُّ المضاجع/ليست كلاما مُنَمَّقا/ولا حرف ساجعا/الكتابة ليست مجردَ/مصطلحاتٍ مُلْغِمَة/تُنْتَقى بعناية من المراجعِ/ليست خطابا يُتلى/ولا معزوفة تُطرب/المسامعَ/ الكتابة وَهْنٌ/ مخاضٌ عسيرٌ/ هي تُغريها المواجعُ/ لا تنافقْ/ لا تجاملْ هي متمردة/وطعمها لاذع/الكتابة صادقة/هي السند والصديق/عند الفواجع/هي سادية/تَسْتلذُّ بعذابنا/نرى عذابها رائعًا/الكتابة نار تَحْرِقُنَا/لكنها تبقى شيئا ماتعا. كتابة من بنات الواقع؛ كلمات كليمة أليمة تتولد عن مخاض عسير من دواخل النفس البشرية تستبين ما حوتْه من مداركِ الفهوم لاكتناه حياةٍ أخرى داخل الحياة. فعل الكتابة ألفيناه عنتًا في المَسك بين زِمام لغة الشعر وذاتٍ شاعرةٍ تتغذى من الذاكرة وما اختزنته من انكسارات وجراحات ومن الرّاهن والمستقبل، يرى أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب د. سعيد العوادي فيما بيانه أنّنا ” نكتُبُ لِنبقى وتبقى المعرفة” مُعلِّقًا على كتاب عنوانه صيغةٌ آمرةٌ “مُتْ فارغًا” للكاتب الأمريكي تُودْ هنري، وجوابا عن سؤال لماذا تَكتُب؟ يقول الروائي والسيميائي الإيطالي أمبرتو إيكو مُجيبا: لأُشاغب الموتَ وأُنْجبَ أطفالاً في هذا العالم”. إنّ العديد من القصائد تَتلبّس بِلَبُوسٍ درامي، حيث تتخذ الشاعرة من فعل الكتابة احتجاجا تُصاول به العالم الذكوري في فجاجته؛ في قصيدة المذكر السالم أو لِنَقُلْ المذكر السالب، ص 47/48/49، تقول: سألوني باحتقار ذكوري / عن ماذا تكتبين/ أجبت ببراءة أنثوية/أكتب عن المحبين والموبيل/ قالوا بعنترية شرقية /هذا عيب ألا تستحين؟ /الحب والكتابة والشعر/ للرجال منذ سنين /اقرئي التاريخ يا امرأة /وستقتنعين /ما أنت إلا مجنونة /ويسكنك شيطان لعين /أجبت أنا لست شاعرة /وليس لي في الشعر تكوين /أنا امرأة أكتب عن الحب /في الزمن الحزين. يَبْدُر دالُّ هذا الحقل الردَّ بالكتابة كسبيلٍ للمقاومة ودليلِ الشموخ وتجاوز كل أشكال الإقصاء والتهميش والاضطهاد الاجتماعي والثقافي والفكري.

دالُّ البعد الصوفي:

وهل الشعر إلّا مرآةُ القلب، هكذا قال المازني، في قصيدة مذهب، ص 51/52، تقول الشاعرة: ” للناس فيما يعشقون مذاهبٌ/ومذهبي في العشق متصوف راهب/أناجي الحبيب في خُلْوَتي/وللشوق أنا أُغالب/محبوبي له روحي/وللفؤاد هو سالب/ له أنا وكلي/ له القلب والقالب/هو المبتغى والنور/هو الكواكب/عشقي له ثابت/لا تشوبه الشوائب/وإن دار الزمان على العشاق/لن يَغْلِبَه مُتكالب/حبيبي أنا واحد أحد/ فرد صمد هو الغالب/ومذهبي في العشق/هو الصائب. غرْفًا من مذهب الشاعرة نستجلي نَفَسًا صوفيا دفينا دون إيغال أو إغراقٍ يوحي بالموسيقى التي تشجها بهذا القُطب عند جفاف الروح ورشْفًا من أخاديد النفس البشرية تترسّم رقة الشخصية الإنسانية وعمقها الروحي والوجداني بما يكفل التوغل في معارجها وأغوارها وامتطاء صهوة فلسفة مغمورة بالذاتية وصدق الحقيقة؛ إنّها ترانيم يرِقُّ لها كلُّ قلبٍ، تمنح دورة الحياة صفاءَ نفسٍ وسعادة وتجعل الحياة مُستحقة للحياة، رحلةٌ تفتح صمّامات القلب من دون استئذان للتوحد مع أجراس قضايا المرأة.

دالُّ الحواس:

ينماز دالّ الحواس بِهيمنة البصر في إحالة على الذاكرة والتجربة التي تُنشِّط المعنى وتُزوّدنا بإدراكات حسية للشعر ورؤيا العالم المعنى الذي انتهى إليه لوسيان غولدمان “جملة مواقف لا يعتقدها فرد بقدر ما تعبر عن مجموعة من الأفراد” الإله الخفي”. في قصيدة غزل، ص43، تقول الشاعرة: ” داري عَينَيْكَ عنّي/ داريهِما إنهما خطرُ/إني أخشاهم، ففيهما/عمري يُختصر/أرى فيهما أمواجا وبرقا/ورعدا ومطرا/أرى بحرا وموجا وزبدا/أرى مَرجانا ودُررا/هما منارةٌ للهائمين/يهرول نحوهما زُمَرٌ/ يا صاحبَ العينين/ أنا ضريرة وأنت كُلُّكَ بصر/لله درُّ أهدابك، أَهزيعٌ هي/أم غيهب أم سحر/لغير عيناك لا أنظر/ففيهما ما فيهما/فيهما وَلَهٌ وشوق/ تراتيل وصور.. ص43/44، رؤية مُكتوية بالألم المُستتر وهي ترى ببصيرتها مظلومية المرأة، لقد بسطتْها كلَّ البسْط كأنثى وفية جريحة موجوعة بِرَشفات الكبرياء المعهود.

الباتوس أو عندما تجسد الإثارة العاطفية حجة إقناعية:

تبدو الإشارة واضحةً في تحديد مفهوم الإقناع عندما يقول حازم القرطاجني في مِنْهاجه ” حمل النفوس على فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده”[4]، ولذلك يتأسس الخطاب الإقناعي على ثنائية العواطف والاستدلال؛ أمران سيان في القدرة على التأثير، ” فالعواطف والأفكار إذا ما استيقظت بنفسها بعبارة جميلة التركيب موسيقية الرنّـة، كـان مـا ننطق به شعرا” كما يراها ميخائيل نعيمة. طافحةٌ انفعالات الخطيب كما يراها أرسطو” مقدماتٍ استدلالية وسبيلا من سبل الإقناع والتأثير أو الإقناع بالتأثير”[5]، لأن الذات المعنية بالخطاب سواء الشاعرة أو المتلقي تُحرّكها أهواء ومعارف وانفعالات، وكلما تمكنا من معرفتها أو معرفة بعضها على الأقل كانت لنا القدرة على الحجاج الجيد”[6]، فالعقل يدبر المعاني التي تسبح في بُحبوحة العاطفة والوجدان، والشاعرة استندت على مقومات مؤثرة في الفعل العاطفي لمُخاطبيها إقناعا وتأثيرا ضمن بنية نصية إبداعية تخييلية تمتح من القيم والأسيقة الفكرية والاجتماعية، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى دراسة قيمة ل “كريستيان بلانتان” موسومة ب:

تتبنى مقترحات تحليل منهجي للباتوس، ولأن الحجاج بالعواطف استراتيجية لإقناع المتلقي، فإنه ينزع إلى إثارة انفعالات المتلقي فتصبح معه اللغة سبيلا إلى تحريك وجدان وهواجس ونوازاع المُخاطب الكامنة فيه للتأثير وحمله التسليم بالدعوى، وبه يمكننا تتبّع هذا التبئير للعاطفة بين خطاب الأنا وخطاب الآخر لِنجِدَ  الشاعرة بالفعل نجحت في إظهار الرسالة وترك انطباع النفور من توصيفات الآخر في قصائد الديوان وجعله مناط إدانة، تبدّى في صورة قناع عابث لاهٍ يبعث على الشفقة، في قصيدة ” كفاك تمثيلا سيدي” تخاطب النزعة الذكورية قائلة: أنت جئتني باحثا/عن المستحيل وأنا واقعية/ أنت تبحث عن وسادة/ لم تُعَطَّر برائحة الدمع/تبحث عن امرأة لم تُلَوَّثْ/ببصماتِ سِواكٍ/تبحث عن المستحيل/ تأخرتَ سيدي/وجئت عشيًّا/…إلى نهاية القصيدة، في ذات السياق تقول: “أنت مجرد ظل تقبع في الظلام/ أفكارك سوداءٌ سلبية / ما أنت إلا مجموعةُ أحزانٍ وأفكارٍ ظلامية/ تَجرُّني للانعزال والوحدة”. ص7/8، وفي قصيدة يا آدم أما هدَّك التعبُ ألا تستريح؟ تقول الشاعرة: يا آدمُ أما هدَّك التعبُ ألا تستريح؟/إلى متى هذا التَّكالب على حواءَ؟/وَلِدَمِها تستبيح/حتى ما حواءُ تقاوم/ وجراحُها نازفاتٍ كالمسيح/آدم يستكثر عليها حتى المديح/يراها جسدا وما دونه قبيح/أمام الملأ هي عورة /ورأيه لا يقبل تصحيح/وسِرًّا يُراودها وللحجاب يُزيح/يريدها جارية عند قدميه/في هذا العالم الفسيح هذا انفصام جنون جريمة/وتجريح/إلى متى هذا الظلم؟/ حتى ما قلبُ حواءَ ذبيح؟/ حتى ما حواءُ مستضعفة/ كريشة في مهب الريح؟/استفيقي يا شهرزاد/فالليل انجلى والديك يصيح/عصر الوأد انقضى/ومضى عصر التَّبريح/ولى زمان شهريار/ولا يصح إلا الصحيح/عنترة قضى نحبه/ ومُهنّدُه في الغمد يستريح/هذا قولي يا آدم/بلسان عربي فصيح/ ص 59/60، ألمعنا آنفًا أنّه نداء إلى مشاعر عموم القراء وفق حجة إبداعية تخييلية تمتح من استراتيجيات ثقافية وتاريخية وفكرية لبلوغ غرضها المنشود. شواهدٌ استوت على الجُوديِّ في إقناع العقل وإمتاع العاطفة وتحريك أوتار الشعور حقيقة وتخييلاً.

التذاوت والتحاور مع المُخاطَب:

في مجال تحليل الخطاب تبرز نظرية تعدد الأصوات لتحيل على أنّ القول المنطوق لا تصنعه ذات واحدة بل تُسهم في إنتاجه ذوات متعددة مما يُكسبها تلوينات وتصاديا صوتيا ينسج تناقضات، واللغة ممارسة تخاطبية/ تفاعلية، يتوزع القول الشعري بين خطاب الأنا الذات الفاعلة والمُخاطب، والشواهد النصية جمة، في قصيدة من أنت؟ تقدم لنا الشاعرة توصيفا عن نفسها: “أنا ابنة النور المشع والسلام/ أنا امرأة تعشق الأحلام الوردية/ أنا امرأة حرة وشعبية”. ص7/8،

إن العلاقة بين الذات الشاعرة والآخر علاقة تنافر، تقول: ” أنا امرأة تتغذى شعرا/ تنام.. تصحو.. تحلم شعرا”. ص12، وقصيدة من أنا؟ ص 27، نواصل التعرف على الشاعرة حين تقول: ” من أكون من أنا؟ / أنا حوريةُ بحرٍ/ اختارتِ المحيط سَكَنًا/ أنا شهابٌ يمرُّ/ مرة في السنة/ ينتظره الناس بأمانيهم/ فيغمُرُهُم ضياءً وسنَا/ أنا.. أنا التفاؤل للكئيب/ إن أبصرني الحزن / استسلم للفرح وانحنى/ أنا لباس العيد للمرتقِب/ والطاقة للمتعب/ وطوق نجاةٍ للغريق والمعذب/ أنا.. أنا الموسيقى والنغم/ أنا العيد والهدايا والكرم/ أنا الأنوثة والعذوبة/ أنا الشعر واللغة والنظم/ أنا ميم المحبة وراء الرضى/ وياء اليمن وميم المنى/ نعم أنا مريم / أنا المطلب والمنى”. ص27/28، خطاب منظم، عبارة عن مجموعة من الجمل تضع الذات المتكلمة المتلقي إلى وضع وجودي وعلى حقيقة الأنا بكل كبرياء على شكل صيغ الإرادة والخير والحق، تتابع: لست من شهيدات الحب/ ولا الذليلات من النساء / سليلة قومٍ يَشهد لهم التاريخ/ أنهم شرفاء أجلاء/ عزة النفس زادي/ وَلْيَمُت القلب وَلْيَحْيَى الكبرياء/لملم قُوَاك وارحل/فأنا معجزة، أنا استثناء” ص 31، في قصيدة لا أغفر:” أنا صديقة الحرية/ وقلبي دوما مبحر/أجازي بالإحسان إحسانا/متصالحة مع ذاتي ولا أَغْدِر/إن جئت فأهلا ومرحبا/وإن رحلت لا دموع لي تنهمر/لا ندم لا سهر/لا خاطر ينكسر/هذا قولي يا سيدي/أنا امرأة لا تغفر” ص 36،” أنا” الشاعرة صرخة قوية استطاعت أن فتدين الرجل ولأنّ المورى هو دفاع الشاعرة عبر قصائدها الحزينة عن الأنثى أينما وجدت، والملاحظ أنّ الآخر اتسم بالغياب وظلّ حنجرة ميتة في الديوان لا يُسمع صوته كما هو الحال في قصيدة هوس، تقول: من أنت؟ أنا لا أعرفك، ص 14، التذاوت هنا بناء درامي أسئلة استنكارية تمور في دواخل النفس وعلى القارئ أن ترتيب نبض تراجيديا النصوص، نورد مقطعا من قصيدة جدال، تقول فيها الشاعرة: ” لِمَ لا تقْبَلْنِي كما أنا/شتاءً كنتُ أم ربيعا؟ / لِمَ لا تُحِبَّنِي كما أنا/ سحابا ممطرا أو صقيعا؟ /فلست أنوي تغيير شكلي/على الطراز الذي يَشُوقُكَ/ولا تنميق وجهي على الشكل/الذي يَرُوقُك/صدقني.. صدقني أنا لا أستطيع/أنا لا أقدر أن أكون لاعبة بفريقك/ وتقودني أنت لا لن أطيع/فذاك يقتل إحساس المحبة/ويُخل بميزان الهوى/ويَصْرَع المشاعر/أليس شيئا مريعا؟ /وكيف كيف يعيش الحب وهو صريع؟ /لِمَ لا تقبلني كما أنا/امرأة وحبا/تكونُ لك شمسا وربيعا/ وتكونَ لها قمرا بديعا/”. إنّ النداء مع المُحاوَرِ يحمل معنى البعد من خلال الأداة يا”، ففي قصيدة خطيئة، ص، تقول الشاعرة: أستحلفك الله يا رجلا/ لماذا أشقيتني؟ اتهام صريح وإدانة للرجل بإعمال النكرة المُبهمة أي غير المقصودة بالنداء والتي لا يراد بها شخص معين، وهي قدرة خطابية تعبيرية على تقريب البعيد الغائر، لجأت إليها الشاعرة من أجل التنبيه بلاغيا على استدعاء مطلوبٍ غير حاصلٍ وقت الطلبِ حقيقةً في اعتقاد الذات الشاعرة المتكلمة بل حاصل على امتداد الزمن.

قصيدة لماذا؟ ص 63-67، اللماذات الكبرى؛ إرشاد من الذات الشاعرة المتسائلة إلى ما هو أساس، الشعر سؤال ينقصه الجواب، واسم الاستفهام يؤتى به لطلب إزالة الإبهام عن تساؤل ما وله الصدارة في الكلام، ولماذا اسم استفهام مركب من لام الجر التي تفيد التعليل وما الاستفهامية وذا الإشارية. إنّها رؤية شاعرة مُستفهِمَةٍ، ضاجٌّ ذهنها بالأسئلة تتغيا الإجابة عن الواقع المخصوص كما هو.

تركيب:

وصفوة القول، إنّ ديوان ” ترانيم كبرياء” للشاعرة المغربية مريم الشافي أزهى من الأزهار أذكى ألمعية وأزكى لوذعية. إنّ أقصى أغراض هذه المقاربات الضافية التي اعتمدناها في فكِّ شِفرات التجربة الشعرية على أساس فهمٍ أدقَّ للوجود الإنساني و مُحيطه وصولا إلى نصوص التي تُبينُ عن المُورّى تِبْيانًا من تربة الواقع إلى حقل اللغة بتخصيب الذاكرة المُتّشِحة بوشاح القلق الحياتي والمعرفي وبالفلي في المُقَنّع و المبطن بين ثنايا جمل شعرية ناطقة بإعادة تشكيل كيانها عبر فعل الكتابة وإثبات وجودها الخاص، بدون ضجّةٍ تحاجج وتُقنع وهي تُنشد ترانيمها في كبرياءٍ انعتاقا من القيود المُتناسلة والمُتوارثة نتيجة الهيمنة الذكورية، ولذلك تجدها شامخة منتصبة لا تكرِّسُ تبعية معطوبة للسلطة الذكورية، بل أثبتت من خلال القصائد امتلاكها القدرة على الإدانة واستطاعت أن تُغيّب الآخر بدل أن تكون هي الغائبة، لِنَقُلْ بأنها أرادتْ وتأتّى لها أن تكون مركزا والذكورية هامشا عبر منجزها الأنيق.

 

كاتب من المغرب

[1]  من كتاب القصيدة العربية المعاصرة بين هاجس التنظير والممارسة النصية، وهي أطروحة جامعية لنيل دكتوراه الدولة في الأدب مرقونة بكلية اللغة العربية بمراكش، السنة الجامعية 1997-1998،ص21

[2]   فوزي عيسى النص الشعري وآليات القراءة، ص13

[3]   فوزي عيسى، جماليات التلقي قراءة نقدية في الشعر العربي المعاصر، ط. دار المعرفة الجامعية، الإسكندرية، ص274

[4]      حازم القرطاجني، منهاج البلغاء وسراج الادباء، تح. محمد الحبيب بن الخولة، دار الغرب الإسلامي، ط2 ص20

[5]     عبد العالي قادا: بلاغة الإقناع دراسة نظرية وتطبيقية، دار كنوز للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، ط1، 2016، ص86

[5]   المرجع نفسه، بلاغة الإقناع ص87

 

 

 

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

ذاكرة الوجع: قراءة في رواية رجل المرايا المهشمة- ربيع عبد العزيز

ذاكرة الوجع: قراءة في رواية رجل المرايا المهشمة- ربيع عبد العزيز   لعل أول ما نلاحظه، في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *