تأخـذك رواية ( ساعـة سقوط الوردة ) لمـؤلفها البحريني ناجــي جـمعــة والصادرة حديثـًا عن دار أفكار للثقافـة والنشر – البحرين / الطبعة الأولى 2021م ، تأخـذك بعيدًا من بداية صفحاتها الاستهلالية نحو ذروة الحدث مباشرة ، تقذف بقارئها في هــوة مصيبـة الموت ، تعيد تذكيرنا نحن البشر بحتميـة هذه الحقيقـة التي نتغافـل عنها على الصعيد الإنساني ونمارس حياتنا بكل نزواتها وصراعاتها اليومية ، فلا يلتفت المـرء منا بأن ختام رحلة الحياة رحيـل مفاجئ لا بــد منه كما حصل للشخصية ” البطلة / نـــادر ” تغادره زوجته ” ماريه ” إلى العالم الآخـر وتمضي عـنه حيث يحاصره الألــم ولا شيء غير فجيعـة الفقدان تؤطـر عالمـه الكئيب .
إطــار الفكرة ومساءلة مغزى رحيل الإنسان
تسيطر على مجمل أحداث الرواية فكرة واحـدة مهيمنـة وهي حتميـة الموت، ثم نجد شخصية ” نادر ” والتي بدأت تطرح تساؤلاتها حول مغزى الرحيل ولماذا نموت؟! هذه الشخصية عمد ناجي جمعة إلى استنساخ وجعها الإنساني موزعـًا فواتير خسائرها على مجمل شخصيات روايته وهو ما يلفت الانتباه؟! القضية الأساس التي ينطلق نحوها المؤلف ويبني عليها أحداث روايته ذات طبيعة وجوديـة وسؤال أزلي قديم منذ أن نزل آدم على وجه الأرض، لذلك سؤال الموت والحياة لا ينفصل عن حراك بقية الرواية في مختلف محطاتها.
المؤلف كما يتضح قد وضع خبرته الحياتية، توغـل إلى أعماق النفس وأستخرج مكنوناتها المدفونة إنسانيًا، خاطـب الأرواح في فرحها وضعفها وخيباتها، نجح في وضع شخصيات الرواية تحت الحد الأقصى من الضغـط النفسي. خطاب أي عمل روائي كلما حاول قراءة مختلف الأبعاد الإنسانية ومساءلتها من شتى النواحي بتخطي مراحل الصراع وظروفها يكون أقرب إلى وجدان المتلقي.
تيمة الموت في ” ساعة سقوط الوردة ” لم يكن يبالغ فيها كاتبنا، أختار شخصياته ومحور حركتها ضمن إطارها بحيث خلق شخصياتها المتأزمة سلفـًا وتركها تواجه مصيرها أمام
الامتحان الحياتي وهو.. هل يبقى الرجل وحيدا من بعد رحيل شريك حياته؟ وهل عليه الانتظار كيما يفقد زوجـه أو نصفه الآخر دونما أن يكون لديه تعويض؟! في الواقع ثمـة ورطـة غريبة من الناحية الموضوعيـة عـدا الجانب الإنساني البحت الذي حاصرنا به أ. ناجي جمعـة وهو يثير مثل هذه الأسئلة المصيرية المشروعـة في حقيقة الأمر لكننا قد نتحاشاها ونكره مجرد أن نطرحها على ذواتنا، فطبيعة البشر تكـره كل ما يقربها أو يثير نفوسها بمسألة الوجع.
إن الميول والرغبات هي ما يشكل جوهر الإنسان في نهاية المطاف، ” نادر” شخصية شبه مهزوزة وتخشى سؤال المستقبل، لها رغبتها في التملك ولا تريد أن تقاسي الوحدة، ولهذا بلا شك بُعـد سيكولوجي يفرض وجوده، على ذلك نسأل، من هو الإنسان؟
(تفسير الإنسان حسب ” توماس هوبـز ” خاضع لمبدأ الحركة والديناميكا، أي أنه يتأثر بالموضوعات الخارجية من جهـة، والتي تبني تصورات ذهنيـة وتنعكس في سلوك الأفراد من جهـة أخرى). *مجلة العلوم الإنسانية والاجتماعية / مفهوم الطبيعة البشرية وأبعادها المادية والسيكولوجية في فكر توماس هـوبز السياسي – أ. رياض طاهير – أ.د. عريب مختار- العدد 26 / سبتمبر 2016م.
إشكالية الرؤية التي تشوش عـقل ” نادر ” هي ذاتها إشكالية تفكير الرجل الشرقي في بنيته الاجتماعيـة القائمـة على نبـذ الوحدة وكراهتها بالنسبة للرجل المسلم، فالزواج من الممارسات الاجتماعية التي ينهض على أساسها بُنيان المجتمع، وفي حال الفقدان وجدنا أن شخصية ” نادر ” لا يمكن لها الانفصال عن معطيات مجتمعها وثمة قـطـبين يعملان على جـذب الرجل (مكابدة الوحدة أو تجرع كأس الإخلاص للحب الذي كان)؟
كاميرا الوصف عند المؤلف
ننتقل من مكان لآخـر بصحبـة المؤلف، عمـل على وصف جغرافية الأمكنة في روايته بدقة متناهية وهذا ما ترك أثراً في القارئ، أصبحت الأماكـن تضفي من روحها أو هو المؤلف من يعيد تأثيث روح ومعنى المكان؟ ملاحظـة ذلك من خلال الانتقالات ما بين السوق والقهوة وحتى جو الشقـة والمشي في الشارع أو التواجـد في المزرعـة. هي على ذلك وظيفـة المكان حيث يكتسب الحدث مشروعية موضوعـية تقربه من المتلقي أكثر فأكثر فيرى ذاتــه في الرواية، هنا تمامـًا ما أسميه ” وعي حالـة السرد في بُعدها الفني” والتي لا يمكننا إغـفالها كأحـد أعـمدة الكتابة عـند الكاتب الحريص على جودة ما يطرح من منتج أدبي.
منعطف الكتابة يتأثر بدرجـة كبيرة بماهيـة الصورة التي إن نجح الكاتب في وصفها بقلمـه ودخلت وجدان القارئ وتشربها وأتحد إحساسها بها وتحولت إلى ما يمكن أن نصفه بـروح فارقة أعطت أنفاس الحياة للأمكنة والشخوص، هنا يكون الكاتب قد أجتهد في طبخ نصه قصة قصيرة أو عمل روائي على حــدٍ سواء.
كاتبنا ” جمعـة ” لم يكن يجدف في ظلمـة طريقه إنما أستثمـر حساسيته العالية في التقاط أصغـر التفاصيل ووظـفها ضمن مشهدية بصرية متكاملة في دلالاتها، فالوصف يكتسب دفء الحضور محاولا كشف الـلامرئي وهو ما يُحسب لــهُ بوجهة نظري. إن رؤية هؤلاء البشر ومكابدة أوجاعهم تستلزم معايشة يومية، الحركة والتلميح والرائحـة حتى أصغر تفصيل يمكن رصـده بنطاق هذه الدائرة الحياتية المتواصلة الدوران، يضيف إلى واقعيـة المشهـد الروائي، لا نعني هنا أنه على الكاتب نقل الواقع بتلك الصورة الآليـة التقريرية المفرغـة من الروح ابتغاء تمطيط الحدث، إنما اغناء المعنـى كما نتوخاه أن يصل لعموم القراء. هذا الأمر يقودنا إلى معرفة وخبرة حسنة تراكمت لدى ” جمعـة ” في قراءتـه واتصاله بفن الرواية ما قبل كتابة هذا العمل.
الوصف عنصر مهم في الرواية ويحتل أهمية كبيرة كما يشير ” فيليب هامون ” معرفاً إياه.. (الوصف ليس دائمـًا وصفـًا للواقع بل هو ممارسة نصية) حيث استخدامـه في الرواية ينقسم إلى أربعة أقسام:
1 – كرونولوجيا: وهي وصف الزمان.
2 – طوبوغـرافيا: وهي وصف المشاهـد والأماكـن.
3 – برونوغـرافيا: وهي وصف مظهـر الشخصيات.
4 – أيطوبيا: وهي وصف مجازي لكائنات في الخيال.
*موقع إي عـربي الإلكتروني / إلهام العتوم – ماهي طرق الوصف في الرواية؟
ثمة إضافة جمالية تؤثث النص من الداخـل عندما يعرف الكاتب كيف يوجه أشرعـة الوصف في عملـه الروائـي ويحقق ما سبـق وذكرناه في تصور ” فيليب هامون ” بتوغـله العميق في ماهيـة الوصف وهل هو قادر على الارتقاء بتأديـة المهمـة المنوطــة به وموقعها من هيكلية العمـل ككــل؟
مفهـوم التعويض بين الحاجة أو السقوط
إن تتابع أحداث الرواية في مختلف المراحل جاء بترتيب ممنهج وحسب الخطـة التي رسم تفاصيلها ” ناجي جمعـة ” قد وضع القارئ في جـوٍ ذكـوري، تمحورت فيـه قضية الفقد والغربـة النفسية وهيمنت على كـل هؤلاء الرجال شخصيات الرواية من أساسية أو ثانوية، صارت بمثابة مطـب، فكل شخصية تبحث عـن خلاصها الإنساني وتحوم في فلك وجعها تقاسي الوحـدة والصدمـة!
وهل ثمـة وحـدة يقاسيها الرجل الشرقي؟! طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه تمكنه من الحصول على امتيازات جمـة، الرجل الشرقي قادر على الزواج وقتما يشاء ويستطيع أن يعـدد ويطلق ويهجـر ولكن عـندما يفقد زوجـه، يختل ميزان حياتـه وربما لا يتمكن بسهولة من تعويض ما خسره. شخصية إبراهيم وهو صديق نادر / البطـل، لا أعتقد بأنه تم الزج به في وسـط الأحداث، إنما جاء ظهـوره ليكون ” الطرف النقيض «.
أفق الشخصية السلبية في هيكلية الحدث يحتل مكانة حتمية وبالإمكان أن نصفها بلغـة مخرجي السينما ” كومبارس ” لديهم أدوار ثانوية لكن تشحـن طاقـة التأثير في بنيـة العمل ككل وبسلوكياتها تعطـي أو بالأحرى تقدم معطيات ” محموليـة / وظيفيـة ” يتكئ عليها الكاتب في إيصال فكرته الأساس كيما يخبرنا كيف يكون معـدن الإنسان في الشـدائـد؟ إن ظهور شخصية إبراهيم دفعت إلى الواجهـة إشكالية بالغـة الخطورة تمثلت في تعاطـي الرجل الشرقي ” البحريني ” على وجه الخصوص بمفاهيم الارتباط والتعويض العاطفي والجنسي التي تشغـل تفكيره.
هناك بلا أدنى شك خـلل اجتماعـي خطير يضرب بنية المجتمع المحلي وبصمت، هو ما يدفع بالرجال من أمثال ” إبراهيم ” إلى تكبـد عناء السفر إلى شرق آسيا ابتغاء اقتناص شهوات النساء بعيداً عن سلطـة المجتمع، فالتعويض بين الحاجـة أو السقوط لا يشكل عـائقـًا في المسألة برمتها بقدر ما يـدق ناقوس الخطـر بأن ثمـة مشاكل اجتماعية عميقة الغور تدفع بالرجال إلى الهرب من أوطانهم. هل هـو هرب من المرأة المحلية التي فقدت بريق انوثتها؟ هـل هو تعويض جـراء استنكاف الكثير من النساء المحليات عن الزواج من بعد رحيل أزواجهن، يحتم على الرجل المحلي البحث عن حل بديل لإشباع الرغبـة؟
بقدر من المواربـة الموضوعيـة التي لم يؤكـدها ” ناجي جمعـة ” في خطابـه وحسب بل أطلق لها العنان ومن دون خـوف، وجـه أصابع الاتهام إلى موضع الخـلل، قال كلمتـه وبشجاعـة (ثمـة خـلل اجتماعـي متفاقـم في عوالم الرجال، يدفعهم إلى الخطيئـة هرباً من اوطانهم) الخلل هنا ينسحب على اتجاهات كثيرة تخفي في كواليسها مستويات متعددة من الفساد لها شقٌ أخلاقي وآخــر قيمي مرتبك الإيقاع مع السؤال القدري.. كيف يكون الإنسان إنـسـانـًا؟ بماذا يجب أن يحيى؟ هـل عليـه أن يتنسـك أم يقتنص لـذته ويطلـق تلك الحيوانية الكامنة في القوة الشهوية التي تستحوذ على روحــه؟
فالخضوع لسيطرة الرغبـة الجنسية تلبية لحاجات النفس وليس في هذا إثــم ولكن شكل هذا الوعـاء الذي نتموضع فيه يكمن على أساسه المغزى النهائي، هو ما يترجم تلك (الأنا) التي نختارهـا وإلى أين تمضي بنا كلما تركنا لها زمام الأمور؟ تتخنـدق في حفـر الشيطان أم تختار طريق مرضاة الخالق عـزوجل؟
سرعـة الإيقاع في الحدث عند ” جمعة ” برغـم عدد صفحات الرواية التي بلغت 350 صفحة ، نجح في قولبـة توترات حبكـته الفنية وبحشد تجارب متقاربة ومتضاربة في فهمها للعلاقة بالمرأة ما بين الزواج أو الحب أو هاجـس الشهوة والسفر للحصول على بضائع البهجـة والجنس، هي ما يجعـل ( ساعـة سقوط الوردة ) خليـط من الفوضى المدهشة والشظايا المقلقة تلك التي تقذفها الحياة في وجوهنا ، تتركنا على مفترق طـرق حيث لا توجد منطقة وسط ما بين الجنـة والنّار، وهنا يتجلى فيها ذلك الإبـداع ، اوجـد من هذه القصص المتناثرة مضمون حساس ثم بدأ بتقشير علاجي موضعي ومن دون تخدير استباقي، حتى يزيـل ما يتراكم على بشرة المجتمع من أمراض مسكوت عنها أو في أحسن الأحوال ربما نتواطـأ نحن معشر الرجال على القبول بها كأمـر ” شخصي ” واقع ، معها أو بدونها الحياة تمضي على كـل حال.
سلطـة الراوي ومراوغـة الزمـن
نبحث في التفاصيل المفضية إلى سبب اختيار ” جمعـة ” إلباس شخصياته ضمير المتكلم، فهو ظاهريـًا قد يبد لنا متنازلاً عـن سلطــة السرد التقليدية عـند المؤلف ” كخالق افتراضي” ومهيمـن على مفاصل عمله الروائي، لكونه من يعلم مصائر شخصياته وهو من يوجـه أقدارها أو يخلصها من متاعبها ويلبي رغـباتها وأحلامها وينقذها من الخيبـة والحزن، ينتصر لها في الأوقات الحرجـة إلخ من مواقف.
لكننا مع استمـرار تجوالنا في ( ساعـة سقوط الوردة ) أدركنا تقريبـًا بما يشبـه اليقيـن أن تلك التفاصيل التي يُؤسس عليها خطاب كاتبنا تجنـح نحو استثمـار السمات الشخصية في كــل فـرد ، أضحى بمثابـة جزيرة منعـزلة عن ما حـولها، هي فقط اجتمعت وفــق ملابسات وظـروف المدة الزمنيـة ( في المزرعـة / في القهوة / في الشارع / في لحظات حديث عـابر ) مع ذلك لم تكـن هناك ثمـة مؤشرات على أن ” جمعـة ” أستسلـم لرغبـته الجارفة كمؤلف كي يمارس سلطـة ذاك الراوي المتمتع بالأبوية العليا الصارمـة في تحديد شكـل ومضمون شخصياته.
كـل شخصية أظهـرت أفضل وأنبل ما فيها أو على العكس تمامـًا من ذلك، لا شيء ثابت في المعادلـة السردية المرسومة في هذا العمل بشكل جميل، فالحرية كيفما كانت ضمن الإطار المجتمعي مقيدة أو وفق الشريعة الإسلامية وحتى منفلتـة تتكثف حول أي اتجاه أيديولوجي، اتخذت لنفسها وضعيات وظيفيـة حـرة من الحالة النمطـية، فوصلت إلى حـد اعتبار شخصيات كاتبنا، راوغـت زمنها الراهـن وفرضت سلطتها وكسرت عـدسة تلك الكاميرا التليفزيونية التي تراقبها لتؤكـد انفرادها بتصرفاتها المستقلـة.
بهذه الحالـة ” فإنه من الأيسر علينا اعتبار ” التكنيك ” الذي أحسن توظيفـه ” جمعة ” قد أسهم في اتجاهين أساسين، الاتجاه الأول: تخلي واعـي من المؤلف عن سلطته المباشرة في النص بحيث لا يتورط في أي إسقاط موضوعي قد يتوهمـه المتلقي.
الاتجاه الثاني: ترك مجمل شخصيات الرواية تتحمل مسؤولية أخطائها فهي المتصرفة في شؤون حياتها وللمؤلف حـق المشاهـدة الحياديـة التي تقصي ذاتها عن أي وصاية مما يسقط في فخها بعض التجارب الشابة التي لم تعي بعد أبعاد وأسرار تقنيات كتابة الرواية، فتجد نفسها تحوم في جو من الرتابة والتقريرية إن كان على صعيد المضمون أو حبكة الحدث. فالمهم هنا أنت ككاتب.. كيف تقدم عملك الأدبي؟ هل تبحث عن تلك المعيارية المعلبة التي تريدها هيئات تحكيم الجوائز الأدبية المعروفة؟ أم أنك تطمح لكسب ثقـة القراء بعيداً عن فذلكات كليشيهات ” الضجيج الإعلامي من مثل: الأكثر مبيعـًا ” وما يقاس على مثل هذه الأساليب الترويجية التعسـة في سوق معارض الكتاب العربية.
(ساعـة سقوط الوردة) عمل روائي يستحق الاحتفاء، من غير المرجح هنا التوسع في قراءة جـُل تفاصيله ولكن على أقـل تقدير فهو جدير بالقراءة النقدية المتخصصة المفضية إلى نبش كنوزه التي لا تزال متوارية في العمـق.
كاتب من البحرين