الرئيسية / ملف الهايكو / هايكو الحرب، نص الشاعرة السورية هالا الشعار نموذجاً – مصطفى جميل شقرة

هايكو الحرب، نص الشاعرة السورية هالا الشعار نموذجاً – مصطفى جميل شقرة

لولا وشم

رضاكِ يا أمي

لضاعت الجثة المتفحمة

هالا الشعار Hala Shaar

 

 

*مقدمة: يقول مجند سابق: “كأنك هناك في الحرب ولم تبرح مكانك”1.

الهايكو لم يعد مقتصراً على الموسمية والفصلية برؤية كلاسيكية تقليدية، بل تعداه نحو الشمولية والاتساع، لقد تشعب وظهر له أذرع عديدة مدّ كل منها نحو أصقاع الحياة، منتجاً مشاهداً جديدة مع كل تطور يحدث في حياة الانسان، مثله مثل أي صنف أدبي آخر، لم يتقوقع معلناً جموده وتوقفه، بل بات يسرح ويسبح كلّما سنحت له الفرصة ليثبت وجوده بأي مفصل حياتي صغير أو كبير، ما جعله يلازم الزمكان لتخليد أي لحظة عابرة.

مع التطور الرهيب والمتسارع في الحياة والذي أدى لحدوث صراعات دموية للحصول والسيطرة على ثروات العالم عبر حروب مزلزلة تفتك بالبشرية طمعاً بكنوز الشعب دون أي أهمية تذكر للإنسانية، بمقولة أخرى، لقد أصبحت الانسانية تحتضر، لم يقف الهايكو في هذه الفترة صامتاً ومكتوف السطور، بل تدخل بما يملكه من عدسة متحركة طيّارة تتجول في كل معركة وهدنة واستئناف، مخلداً جوانب الحرب المؤلمة بكل ما تحويه من معاناة وحزن وأسى وقهر بقوالب صورية توثيقية، ليكون هايكو الحرب بمثابة ندبة تجثم على جسد مصاب لا تفارقه، بأسلوب المفارقة المدهشة المباغتة المدوية والتي تصيب عقل المتلقي برعشة وجل تنفض بها كيانه الهادئ.

*مشهدية النص:

يقول الشاعر والناقد الكبير الراحل رحمه الله محمد الأسعد في مقالته حول هايكو الحرب: “هايكو الحرب هو وسيلة استثارة إحساس بالمفارقة، ليس لإدانة الحروب كما تفعل التقارير والبيانات، بل بخلق مشاعر وعواطف تأسى وتحزن وتلعن أزمانها”.

-لولا وشم: المشهد الوصفي المرئي بالعين المجردة، لاحظوا استخدام كلمة لولا والتي اعتبرها انطلاقة ذكية ونباهة يحسب للشاعرة في هذا النص، لما لها من فائدة نحوية رهيبة، أثرت تأثيراً كبيراً على النص، كما أن وجود لولا أعطى منحى تكثيفي مناسب، وبالتالي نجحت في إيصال المشهد ببراعة، ولولا كتعريف هي حرف شرط يدلّ على امتناع شيء لوجود غيره، يدخل على جملتين: الأولى اسميّة والأخرى فعليّة لربط امتناع الثانية بوجود الأولى، هذه الكلمة المفتاحية على قصرها قدمت منفعة كبيرة من ناحية الإيجاز عبر الربط بين جمل النص ببلاغة خاطفة، أما الوشم لغوياً يعني شكل من أشكال التعديل الجسدي ويتم بوضع علامة ثابتة في الجسم وذلك بغرز الجلد بالإبرة ثم وضع الصبغ عن طريق هذه الفتحات والجروح ليبقى داخل الجلد ولا يزول. يعتبر الوشم على جسم الإنسان كنوع من التعديل الجسماني والزخرفة.

لقد أمسى للوشم اهتمام كبير عند الانسان، ربما يكون على شكل ذكرى أو علامة حظ أو رجاء أو لوحة فنية مرئية أو رمز أو تخليد للحظة مهمة…فهو رمزياً أكثر من مجرد كونه لوحة فنية جميلة على الجسد، وما يجعله محبباً هو ثبوتيته وديموميته على خلاف الطلاء بالألوان أو الرسم بالأقلام.

-رضاكِ يا أمي: إن جملة الحدث ليست سوى رجاء وتضرع لنيل الرضا، جملة عربية بحتة، خالية من أي شائبة، وقد قال الله عزوجل في كتابه العزيز” وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً”سورة الاسراء، لنعود للسطر الأول قليلاً لنجد أن الوشم هو زخرفة لجملة عربية ذات معنى كبير، وما أجمل رضا الأم، فهي التي ربت وسقت واهتمت ورعت وعطفت حتى نشأنا وتكونا على ما نحن عليه، لقطة درامية أكثر من رائعة في توليد مشهد محسوس ظاهر للمشاهد، يفرض مشاعر من العطف تداعب عواطف القارئ وتجعله يعيش حالة النص كما هي، فالشاعرة هنا لعبت دور المخرج في إيصال الصورة التي التقطتها بكامل الحدث، وبلمسات البساطة والسهولة والتي يتمتع بها نص الهايكو.

-لضاعت الجثة المتفحمة: هنا بهذه الجملة تتضح فائدة كلمة لولا الرهيبة والمهولة، لما قامت به من عملية ربط ناجحة بجملة فعلية عن طريق امتناع مضاد لوجود جملة الوصف الاسمية، هذا من الناحية البنائية للنص، إذا ما عدنا لجملة الربط وما تتضمنه، من مشهد مؤلم، خلفته الحرب وآثار الرصاص على الانسانية، تتضح معالم النص أكثر، ويتضح معها هوية الجثة، من خلال الوشم الذي دلّ بشكل توثيقي على ضحية الحرب، هذه الجثة ومع وجود جثث متراكمة لم تفقد هويتها بفعل الوشم، وكأن الهايكو يوثق الهوية الحقيقية للإنسان ويحافظ على بقائه ولو بمنحه شاهدة قبر بدلاً من نيله لقب المجهول، إن أعلى سمات الانسان الذي يذهب للمعركة تمسكه بأخلاقه قوميته وعائلته وعشقه الدائم لهم، حتى ينحت من جسده شيئاً رمزياً يبقي على تواجدهم هي لحظة من آلاف اللحظات التي تدمر الحرب بها الانسانية.

*رسالة النص: قد نذهب للحرب ونقاتل بالرصاص، ونصبح أشداء صلب كالحديد، وقد نذهب للموت بأقدامنا، ولكن تبقى الروح من الداخل مشتعلة بالفراق واللوعة واللهفة والهيام، لإن الانسانية لا يمكن أن تموت برصاصة عابرة أو قذيفة متهورة، الحرب ممكن أن تقضي على الشجر والحجر ولكنها لن تتغلب على البشر، فهايكو الحرب لا يعتمد على الطبيعة ضمنياً بل ما يؤثر بالإنسان، فالنص هنا بحاجة لهدوء وسكون ووقفات من التأمل لعيش الحدث بمصداقية تامة كما أوضحت الكاتبة إنعام كجة جي حيث قالت: “إن من يصغي إلى الهايكو، لا يطرب ويحتاج إلى الاستعادة، بل يصمت وينسحب إلى داخل نفسه، متأملاً خاشعاً متماهياً مع الكون”.

(كان لا بد من تسليط الضوء على أحد أنواع الهايكو الحديث ألا وهو هايكو الحرب والذي يشمل الحياة اليومية بطابعها الواقعي التراجيدي لما له من أهمية كبيرة وخاصة بهذا الزمن المرير والقاسي، قد لا نعرف بأننا نكتب هايكو حرب ولكننا نفعل ذلك بالفعل، فالحرب تعيش داخلنا متأججة نارها لا تنطفئ مادامت الرصاصات حامية ببيت النار)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1″: من كتاب هايكو الحرب آثار الرصاص من أنحاء العالم… وهو باكورة نصوص هايكو لشعراء من جميع دول العالم، جمعها وترجمها آزاد اسكندر.

 

شاعر من سوريا

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

 ترجمة كتاب الهايبون ” الطريق الضيق إلى أقاصي الشمال” لماتسو باشو  (الجزء الثامن) – حسني التهامي

 ترجمة كتاب الهايبون ” الطريق الضيق إلى أقاصي الشمال” لماتسو باشو  (الجزء الثامن) حسني التهامي   …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *