ملخص البحث:
إذا كانت السخرية عنصرا ملازما للتراث الإبداعي لجميع شعوب العالم عبر كل الفنون، فإن التراث الامازيغي كجزء من التراث العالمي ليس استثناء؛ فبعض الأشعار الشفاهية والقصص والحكايات الخرافية وشبه الواقعية مثلا تحمل السُّخريةَ مما يصدر عن الإنسان من قيم وتصرفات أو مواقف غير لائقة، تحتاج إلى إصلاح.
وتهدف هذه الدراسة إلى الوقوف عند جانب من جوانب السخرية في الشعر الأمازيغي المغنى، وبالتحديد في شعر محمد الدمسيري، هو الجانب الهوياتي، إذ بالإضافة إلى طرقه في شعره الساخر لهموم فئات الشعب بمختلف طبقاته، نجده يتناول بكثير من الحزن قضية الهوية الأمازيغية المغربية بأبعادها المختلفة؛ فالسخرية لديه لا تقف عند حدود كونها صورة بلاغية أو تنميقا أسلوبيا، وإنما هي في الحقيقة عكس لموقف الشاعر من مجتمعه ونظرته إلى لعالم.
الكلمات المفتاحية: السخرية، الشعر الأمازيغي، الهوية، محمد الدمسيري.
تقديم:
من الصعوبة تحديد مصطلح السخرية تحديدا جامعا مانعا والسبب في ذلك يعزى إلى حيوية هذا المصطلح وقابليته للتجديد والتطور، وارتباطه بمصطلحات أخرى قريبة منه كالضحك والفكاهة والاستهزاء والتهكم والهجاء وغيرها ‹‹ ارتباط المفَسَّرِ بِالمُفَسِّر›› (1)، ولعل الرجوع الى معاجم اللغة للوقوف عند هذه الكلمات التي تصير مرادفات لبعضها البعض لا يسعف في رسم الحدود الدقيقة بينها.
غير أن أبـرز المعاني التي يـدور في فلكها مفهوم السخرية هـي: الهـزء والاستخفاف والتحقير والاستذلال، إما استكبارًا وبطرًا، أو إذاية للمسخور منه وقهره، أو إثارة لمشاعر الانتقام لديه أو غيرها من الأهداف التي سنعرض لها لاحقا.
وقد استرعى هذا المفهوم اهتمام الفلاسفة والبلاغيين والأدباء واللسانيين، وتوقفوا كثيرا عند
أسباب صعوبة الإمساك بحدوده الدلالية، و كذا الغموض و الاضطراب الذي يكتنفــه، و في هذا الصدد يقول ميوك: « لأسباب مختلفة بقي مفهوم السخرية مفهوما غير مستقر، مطاطا و غامضا فهو لا يعني اليوم ما كان يعنيه في القرون السابقة و لا يعني نفس الشيء من بلد إلى آخر، و هو في الشارع غيره في المكتبة، و غيره عند المؤرخ و الناقد الأدبي، فيمكن أن يتفق ناقدان أدبيان اتفاقا كاملا في تقديرهما للعمل الأدبي، غير أن أحدهما قد يدعوه عملا ساخرا، في حين يدعوه الثاني عملا هجائيا أو هزليا أو فكاهيا أو مفارقا أو غامضا(2).
ومع ذلك فإن صعوبة تعريف السخرية تعريفًا دقيقا وتعدد معانيها لا تعني استحالة المقاربة؛ إذ إن جميع المحاولات كانت وستبقى تلامس حدودها المختلفة دون أن تتمكن من الاستيعاب الكامل والنهائي لدلالتها.
وقد اعتبرت كيربرات اركشيوني C. Kerbrat Orecchioniأن السخرية بوصفها صورة جمالية (مجازًا) تتكون من بنيتين: بنية دلالية، وأخرى تداولية. تتمثل الأولى (البنية الدلالية) في ثنائية المعنى داخل الجملة الساخرة، فالجملة الساخرة تحمل معنيين، ظاهرًا وباطنًا، ولكنهما معنيان متضادان تمامًا (وليسا مختلفين وإلا صارت تورية) من هنا يأتي التباس الجملة الساخرة وغموضها، وما يكسبها طابع المفارقة paradoxe.
في حين تتمثل الثانية (البنية التداولية) في عامل القصدية، أي قصد الساخر ونيته من جملته الساخرة، فالساخر حين يسخر هو يقصد فضح شيء ما، بالتهكم منه والهزء به. من خلال هاتين البنيتين يمكن تعريف السخرية بأنها التعارض بين ما يقوله المرء وما يريد إسماعه (3).
أما الباحث أحمد شايب فقد عَدَّ السخرية ظاهرةً وأسلوبا بديعيا واستراتيجية خطابية (4)، إنهـا «أسلوب من أسالـيب الهزل الـــذي يتجـاوز النقـد إلــى الفضـح وإزالــة أقنعــة الزيــف(…)، ويستهدف الفرد والجماعة والمؤسسات الرسمية، والمعتقدات والأفكار، ويرمي إلى فضح التجبر والتسلط والقهــر والحذلقــة والتقنع والادعــاء، وغيرها من الآفات الاجتماعية. ويعتبر ضحك الجمهور في مثل هذه الحالات تجاوبا مع أفكار الهازل ومشاركة له في قناعاته» (5).
المجتمع الأمازيغي والسخرية.
عرف المجتمع الأمازيغي السخرية كغيره من المجتمعات الإنسانية باعتبارها التعبير الأقدم الذي وجده الإنسان لمواجهة الحياة منذ أن عرف أن الموت هو نهايته المحتمة، فاستخدمها وسيلة للدفاع عن النفس، وسلاحًــا يحمي به ذاته من ضعفها أمام كل غــاٍز أو متسلط، ويمنحهـا الشعــور بالأمــن والاطمئنان، كما عدها وسيلة للمحافظة على كيان الجماعة، وصون تماسكها وتعديل سلوكها، والتقريب بين أفرادها إن تباعدوا.
فالسخرية في المجتمع الأمازيغي تهدف الى إصلاح المجتمع وتطويره عبر إصلاح الذات، من خلال إثارة الضحك أو الابتسام في أبسط الأحوال لتعرية الرذائل الاجتماعية. وكثيرًا ما يتم في السخرية الإسقاط والغمز والتلميح لتناول الموضوعات اليومية وخصوصًا السياسية منها كانتقاد ومهاجمة شخصيات انتهازية واستغلالية حقيرة وصلت الى مآربها بطرق ملتوية أو رخيصة غالبًا.
لذلك سيجد الباحث فيما بقي من التراث الأمازيغي هذه السخرية مبثوثة في ثنايا قصص الحيوانات والأمثال والنوادر والأشعار وغيرها من وسائل التعبير الشفهي، وسيلاحظ أيضا امتدادها في الإبداعات الحديثة التي قدر لها أن تدون.
وقد برزت في كل منطقة من المناطق الأمازيغية أصوات ساخرة ذاع صيتها، وتناقل الناس أخبارها، كما أن العديد من الفنون كانت تستخدم السخرية بوصفها مداخل أو مقدمات لجذب الجمهور وإثارة انتباههم، وتعلن بها عن نفسها في القبائل والقرى، وتهيئ بها الأجواء والفضاءات، كأحواش وفن الحلقة، والغناء والرقص، وغيرها.
ولعل استمرار التقاليد الشفهية في الحضور داخل السياقات الثقافية الشعبية، وفي إنتاج المعرفة وتداولها ساهم في الحضور اللافت للسخرية والفكاهة في الأدب والفن الأمازيغيين؛ لأن السخرية والفكاهة من أهم الوسائل والأدوات التي تيسر من اقبال الناس على الإبداع وتقبله، وعلى تناقله ونشره في حالته الشفهية. فحتى في الحالة التي تخص الأدب الأمازيغي الحديث/المكتوب والفنون الفرجوية والفنية الحديثة، فبالإضافة إلى احتفاظها بالعديد من خصائص الإبداع الشفهي التقليدي، تزامن ظهورها مع ازدهار فن السخرية والفكاهة في المغرب، لاسيما في مجال الإنتاج السمعي البصري (المسابقات الفكاهية ومهرجانات الضحك…) وفي مجال المعلوميات التي تزخر بالمواقع والبرامج والمنتديات التي تنتج أنواعا متعددة من الآداب الساخرة القريبة من الآداب الشعبية.
إن السخرية في المجتمع الأمازيغي «قديما وحديثا، – كما في كل المجتمعات الإنسانية – ترد على متطلبات الحياة المشتركة كما قال برغسون، وتشكل عقابا اجتماعيا ضد كل تصلب أو انحراف يريد المجتمع استبعاده ” لكي يحصل من أعضائه على أكبر قدر من المرونة، وعلى أكبر قدر ممكن من اللطافة والألفة”، فتكثف حضورها في كل الأجناس الإبداعية الأدبية والفنية، وأضحت ظاهرة أو (قيمة) مهيمنة وبارزة فيها» (6).
إذا كان التغيير للواقع مما تسعى كل الفنون إلى إحداثه بحثا عن البدائل الإيجابية، فإن المجتمع الأمازيغي أدرك كغيره من المجتمعات أن الاستناد إلى السخرية بما تحمله من انفعالات وتناقضات، بإمكانها خلخلة وضعيات وصفات متعششة في المجتمع احترازا من الوقوع فيها واستفحالها. ويتم ذلك فنيا انطلاقا من تقديمها تقديما مُغَلَّفا بالتهكم والسخرية من كل ما لا ينبغي في المجتمع من قيم وسلوكات تسيء إلى الإنسان وتحوله إلى سلبي يضر أكثر مما ينفع وقد يضر ولا ينفع بتاتا.
فالساخر، أديبا، أو فنانا، أو غيرهما إنما يلفت انتباه المجتمع إلى ظاهرة شائنة يخشى أن تعم أو أن تنتشر فيحذر من مغبتها، أو أنه يكون صاحب رؤية مستقبلية فيسبق قومه، أو وقته، فيحذرهم من خطر قد يداهمهم إن هم غفلوا عن بعض قيمهم أو مبادئهم أو أخلاقهم أو دينهم.
شكلت السخرية أحد عوامل تماسك المجتمع الأمازيغي والحفاظ على قيمه وتقاليده، على مر الزمن، إنها تنتقد مظاهر البعد عن القيم التقليدية الراسخة: الشجاعة، الكرم، الصدق.. إلخ، وهدفها أن تعيد الإنسان إلى نفسه، إلى نسقه الأخلاقي والاجتماعي كلما ابتعد عنه.
كما كانت إبان الاحتلال وسيلة لجلد الذات، بهدف استنهاضها للعمل على تحرير الوطن من ربقة الطغيان والتحكم، وإبعاد الخانعين اللذين رضوا بحكم الظالمين. فأينما كان الظلم تكون السخرية وسيلة موضوعية وفنية للقضاء عليه، وبالتالي ينتج عن التناقض بين الفنان والبيئة ذلك الفن الراقي الذي يتصف بالديمومة والاستمرارية.
فبعض الشعراء يلجؤون إلى السخرية للحصول على حقوقه المستلبة، وبعضهم يرى فيها طريقاً مناسبة لتنبيه الظالمين والأشرار دون المخاطرة بأنفسهم، وآخرون يرون فيها أسلوباً لتعويض ما فقده من الجمال أو الفقر المادي أو المكانة الاجتماعية..
وهم يستمدون صورهم الساخرة من واقع مجتمعهم؛ فصوروه في شتى مجالاته؛ فصوروا الفقر والحرمان والجوع، وانتقدوا الساسة والحكام في صراحة جريئة وعنيفة لا يبالون بشيء ولا بأحد، كما عبروا عن مجريات الأحداث في بلدهم، ونفّسوا من خلال الشعر عما يسري بأنفسهم من مشاعر بأسلوب متهكم ساخر يهدف إلى التخلص من الخصال السلبية في مجتمعهم.
السخرية في شعر الروايس.
تميز شعر “أسايس” بحفظه للذاكرة الجماعية، مستمدا قدسيته من المتخيل الثقافي والحضاري، وهذا ما جعله شعرا مميزا، ومَعِينًا لبقية أنواع الشعر الأمازيغي كشعر “الروايس” الذي يشكل امتدادا لشعر “أسايس” خاصة لدى الرواد من الروايس كالحاج بلعيد والحسين جانطي ومحمد الدمسيري، وغيرهم ممن استمر ارتباطهم بهذا الشعر رغم تكوينهم مجموعات غنائية مستقلة من الناحية الشكلية. يقول الدمسيري في قصيدته “ربي رارد لعاقل” معبرا عن هذا الارتباط الذي يمثل رأسماله:
ربي رارد لعاقل دار ونات ءور ءيلين
ءايغ ءور ءيك لعيب ءاحواش ءاغ مقوراغ
ءيكا راسمال ءينو كين تاحانوت ناغ (7).
كان الروايس والرايسات في زمن غير بعيد هم الفئة التي كانت تنتج «الخطاب» الموجه إلى الشعب/المستمع، وكانت أشعار الروايس والرايسات تنهل من معين الثقافة الأمازيغية، وتستعمل اللغة الأمازيغية من أجل إيصال ذلك الخطاب، وكان تأثيرهم قويا لا تنافسه إلا سلطة الفقيه المبنية على الخطاب الديني، وكان نوع من التوافق والاحترام يسودان بين الفقيه والرايس، توازن يحفظ لكل واحد حقوقه ومجال اشتغاله.
وتحيل قصائد فن تيرويسا على قيم المجتمع الذي يحتضن الرايس أو الرايسة، وتتأثر بمحيطها العام، فقد كانت إبداعات هذا الفن، خلال فترة الحماية تركز على موضوع مقاومة المستعمر، ثم انتقلت بعد ذلك إلى مقاربة شؤون المجتمع الأمازيغي، وصارت منذ منتصف التسعينيات من القرن الماضي تتناول المسألة الهوياتية وقضايا الثقافة واللغة الأمازيغيتين، كأغاني محمد الدمسيري، فاطمة تاباعمرانت، حماد أوطالب لمزوضي… وآخرون.
ولعل مكانة محمد الدمسيري في هذا الباب، وشهرته التي جعلت البعض يعده مدرسة من مدارس فن الروايس وُسِمَتْ بالواقعية، تدفعنا إلى اتخاذ شعره نموذجا لرصد أثر السخرية في شعر الروايس كأحد أنواع الشعر الأمازيغي المغنى.
ولد الدمسيري بالأطلس الكبير بقرية تام سولت قبيلة دمسيرة (إلبنسيرن) جنوب إيمنتانوت بإقليم شيشاوة سنة 1937، ترك الكتاب صغيرا لشغفه بالشعر المغنى، فمضى المهووس نحو عالم الشعر متحديا الفقر، حاملا آلته الموسيقية يطوف رفقة بعض أصدقائه القرى المجاورة كبداية لرحلة طويلة قادته إلى الشهرة. وبعد أن اكتسب تجربة لا بأس بها من خلال احتكاكه بشعراء المنطقة احترف الغناء، ليلتحق سنة 1958 بمجموعة عمر واهروش والرايس أحمد أمنتاك،
لم يترك محمد الدمسيري كبيرة ولا صغيرة إلا ودونها وعلق عليها بفكر نزيه، وحرص على كتابة قصائد طويلة بنفسه، كما كان يقرأ بعضها على جمهوره أو يضمنها تسجيلاته الصوتية، قبل أن ينظمها باستعمال ربابه الذي يتقن العزف عليه مثل إتقانه لنظم الشعر الأمازيغي.
تغنى الشاعر بالعلاقات الإنسانية الحميمة التي تربط الأفراد فيما بينهم و التي تترجم انفعالات و انكسارات جيل بأكمله، و اتخذ الحب تيمة تحضر في العديد من قصائده فضلا عن حديثه فيها عن الأمور الدينية الصرفة، إذ كان يناقشها بحكمة و تبصر كبيرين، و لو في خضم تناوله مواضيع حساسة ذات طابع رومانسي/غزلي، دون أن يغفل الجانب الأخلاقي و العقائدي، و ذلك بسلاسة في التعبير و واقعية في التصور و قوة في استعمال الرمزية و الدلالة بصدق و جرأة و بدون تصنع على خلاف ما نجده عند بعض معاصريه من الروايس، أو عند من جاؤوا بعده ممن يخضعون لمنطق السوق و هاجس استقطاب جمهور من أي نوع و بأية وسيلة كانت سعيا خلف الربح المادي على حساب الفن الأصيل.
وانخرط الدمسيري بشكل واضح وبدون تردد منذ الستينيات من القرن الماضي في تسجيل الأغاني ذات المنحى السياسي والاجتماعي بنبرة الاحتجاج والتمرد، وبجرأة عز نظيرها آنئذ، فهو ليس من النوع الذي اتخذ الأغنية وسيلة للترفيه فقط، بل كان شاعرا ومبدعا وملحنا، وما الأشرطة التي بين أيدينا اليوم والمحملة بروائعه سوى دواوين ناطقة. وكان غيورا على الثقافة والأغنية الأمازيغيتين، ففي عدد من قصائده صور معاناة الأمازيغ، وأكد على أنه يدافع عنهم من منطلق دفاعه عن ذاته وفنه الذي يحس أنه مهمش بشكل مقصود وسافر، وبواسطة آليات إقصاء اجتماعية وسياسية، ارتأى أن ينبري لفضحها، والتشهير بها حتى يعلم الجميع بأمرها، وأنه حتى وإن مات في سبيل قضيته فإنه سيموت وهو قرير العين لأنه، مات في سبيل إعزاز الامازيغ، وفي سبيل السعي لنيل الحقوق واسترداد الكرامة. يقول:
ءَايْنَّا زْرِيغْ يَاكْ نْضْمْغْ فْلاَّسْنْ
ءُورَاكْ نْكْصُودْ كْرَا ءَادَاغْ سُولْ ءِينْغْ
نُوفَادْ نِيتْ ءَانُوضْ نْكْشْمْ سْرْسْنْ
ءَا غَارْ تَاكَاتْ دْ وُوزَّالْ ءَاكِّيسْنْ ءِيلاَّنْ
وَلاَيْنِّي ذْلْ ءِيكُّوتْ فْلاَّغْ
ءَا ضُوفَاغْ نِيتْ لْبَاضْلْ سْ طِيطْ ءِينْوْ
مَا مْنْكْ رَادَاغْ ءِيكْ ءَادْ فِيسَّاغْ
ءَا يَاكْ نْفْلْدْ لْعِيزْ ءِيشْلْحِينْ (8).
عانى الدمسيري من الاعتقال و المضايقات بسبب شعره الذي كرسه للتنديد بالرشوة والمحسوبية، وغلاء المعيشة والاحتكار والمضاربات، واستنكر الظلم والاعتقال السياسي والشطط في استعمال السلطة، كما انتقد ابتزاز المواطن البسيط، ، و انفجاره في قصيدة الدقيق “أگرن” ما هو إلا تعبير صادق عن معاناة الجماهير ضد غلاء المعيشة الذي مس الفئة المحرومة من الطبقة الشعبية في بداية الثمانينات ، وتعرض بعدها للمضايقات ومختلف الاستفزازات، كما ثار على إقصاء الثقافة واللغة والفن الأمازيغي من الحق في الإعلام العمومي، منددا في المحافل والأفراح والمناسبات بسيادة ثقافة وفن ولغة واحدة، لا ينازعها في الحظوة غيرُها، متخذا الكلمة وسيلته، وقول الحق شعاره، مهما كان الثمن في وقت كان الناس يخشون أن يُساءَلوا عن أحلامهم.
موضوعات السخرية في شعر محمد الدمسيري.
أمتع الشاعر محمد الدمسيري الجماهير التي رأت في أغانيه خير تعبير عن همومها ومعاناتها، غنى عن الحب فحرك الوجدان، وعن الوطن بحس واقتناع، وأنشد قصائد دينية هادفة، كما غنى عن الوضع السياسي والاجتماعي فألهب حماس الطبقات الفقيرة، غنى عن كل القضايا التي تشغل بال البسطاء والمستضعفين، ولم يدع موضوعا أو حدثا إلا وتناوله في أغانيه بشجاعة وجرأة نادرة، وكان يعتمد في أحيان كثيرة أسلوبا ساخرا يتخلل معظم قصائده التي عرت الواقع الاجتماعي للشعب في وقت كانت فيه حرية التعبير شبه مستحيلة.
وإذا كان: «كل شيء يمكن أن يغدو ساخرا، بأقل مؤونة وكلفة» (9)، فإنه يمكن إجمال موضوعات السخرية الموزعة في ثنايا قصائد محمد الدمسيري فيما يلي:
السخرية الاجتماعية والسخرية الدينية والسخرية السياسية والسخرية مما آل إليه الفن وأهله ثم السخرية من وضعية الأمازيغية وتفريط البعض في هويته، وهذا اللون الأخير هو ما سنتناوله من خلال قراءة تحليلية لبعض قصائده.
السخرية من وضعية الأمازيغية وتفريط البعض في هويته.
إن تجاهل الجهات المعنية للشاعر محمد الدمسيري وعطاءاته وحبه لوطنه، والجحود الذي قوبل به في العديد من المناسبات، أيقظ الوعي لديه بالوضع الهامشي السائد للامازيغ ولثقافتهم في وطنهم، وجعله ينتقل إلى وضع المحتج، وينخرط بشكل واضح وبدون تردد منذ الستينيات من القرن الماضي في تسجيل الأغاني ذات المنحى السياسي والاجتماعي بنبرة الاحتجاج والتمرد، وبأسلوب لا يخلو، في الكثير من الأحيان، من السخرية. ففي قصيدته:” نكا زوند أمجوض” يصور وضع التهميش ذاك بطريقة ساخرة حين شبه نفسه ومجتمعه بالأقرع الذي لن يتخلى عن طاقيته أبدا، في إشارة إلى الخنوع والاستسلام، والرضى بالأمر الواقع، ملمحا إلى مناورة السلطة، واستغلالها، ووقوفها في وجه المطالبة بالحقوق، فصارت كل مطالبة كمن يلعب لعبة الشطرنج بالخنافس؛ فما أن يحرك أحدها إلا ويفوز من لم يكن في الحسبان. يقول الدمسيري:
نْكَا زُونْدْ ءَامْجُّوضْ ءُورْ سَارْ نْفْلْ شِّيشِيتْ
“هَا ضَامَا نْ ءِيكْلْكِيزْنْ حْرَاتْ ءُوكَانْ نْمَّاغْ
وَانَّا سْمُوسَّاغْ ءِيضِيمْ وَانَّانْ ءُورْ نْتَامْ”(10).
ويسترسل الدمسيري في السخرية من قيمة الذات الجماعية واصفا إياها تارة بالسذاجة، وهي توهم نفسها بالنباهة، حتى غدا كل من ساقته إليها الأقدار يهزأ بها لتفكر في الرحيل، ويترسخ في الأذهان أن هذا زمن القنبرة لا زمن الدجاج:
ءَاحْ ءِينُو نكَا شْكْنَا دَا تْغَالاَغْ ءِيسْ نْحْرْشْ
وَانَّادْ كَا تِيوِي زْنْقْتْ ءار ءاَغْ ءِيتْنْفَاخْ
ءَازْمْزْ نْ تْمِيلاَّ ءَايَادْ ءَايْفُولُّوسْنْ رُوحَاغْ (11).
وتارة ينعتها بسهولة الانقياد كالنعاج يتحسسها الناس بأيديهم، ومن كانت سمينة باعوها وجزوا صوفها، أما الهزيلة فتظل في الغابة ولن يسأل عنها أحد حتى لو قضت الليل كله هناك أو اختفت:
نْكَا تِيهْرَايْ مْدْنْ كَانْ فْلاَّتْنْغْ ءَافُوسْ
تَانَّا ءِيصْحَانْ زْنْزْنْتْ لاَسْنْ تَاضُوطْ نْسْ
تَانَّا ءِيضْعَافْنْ تَاكَانْتْ ءَاغَا تْمْيُورْنْتْ
ءِيغْنْ ءَاكْ تْنْسَا غَابْنْتْ مَاسْتْ ءِيسَالاَنْ (12).
وتارة أخرى بسهولة الاستغلال، حيث شبهها باليقطينة التي تعددت المدى في قطعها حتى شقت وسطها طريقا:
نْكَا تَاخْسَايْتْ كَادَا لْمُوسْ ءَاغْ ءِيتَّارْمْنْ
كُولُّو سْكْرْنْ غْ تُوزُّومْتْ نَّاغْ ءَاغَارَاسْ (13).
وليضع الشاعر يده على موطن الضعف، يشير إلى الانقسام وتعدد الآراء بين لهجات الأمازيغية الأربع، إذ شبهها بغياب الاتفاق في تصويب الضربة نحو المكان المرغوب حين تتعدد المطارق بتعدد الحدادين:
كَانْ ءِيمْزِيلْنْ كُّوزْ ءُورْ تْلِّيتْ ءَاتِّيفَاقْ
وَانَّانْ يُوتْنْ سْ ءِيكِيلْمْ ءُورَاتْ ءِيصْرْصَاوْ
غِيلِّي ءُورْ ءِيكِينْ ءِي ضْرْبْتْ ءَاسَاتِي تَّاوِينْ (14).
لكن الشاعر، من خلال الأوصاف السابقة وغيرها، إنما يريد أن ينتقد رؤية المتنفذين والمستغلين والجلادين عن طريق بسطها وتشريحها، كما أن ما في هذا النوع من الشعر من التوعية والإيقاظ، عبر السخرية، أهم وأقوى مما فيه من جلد الذات وتأنيبها. إن في وصف الذات بالصمت والسبات وسهولة الانقياد هو في الواقع دعوة إلى النقيض من أجل التغيير، دعوة إلى التفكير والوعي واليقظة والتمرد، وعدم الانسياق وراء الخطاب السائد، يقول:
نْكَا رَّادْيُو مَاشْ رْزَانْتَاكْ تْسُورَا نَّاغْ
ءَا وَاخَّا ءُوكَانْ تْخْرْبَاقْغْ ءُورْ نْسِّيحْلْ يَانْ
نْكَا زُودْ بُوسْكَّا ضْرْنْ فْلاَّتِي وَامَانْ
مْقَّارْ نْرَا ءَانْصْفُو ضْرْبْتْ ءِينُو غْ-ءُونْوَّاشْ
يُوتَانْغْ ءُوصْمِّيضْ ءِيكْشْمْ سْرْغْ ءُوكْرَّامْ (15).
فإذا تساوى صوت المواطن وصَمته، وكان حضوره كغيابه، تأكد تهميش المسؤولين له وإهمالهم لما أنيط بهم من رعاية مصالحه، في مقابل انهماكهم في مصالحهم الذاتية، وهذه دعوة إلى إذكاء الوعي السياسي والاجتماعي، وإلى الكلام والنضال ومواجهة الاستغلال والتهميش والإقصاء، أي مواجهة ما يُراد له أن يكون مصيرا اجتماعيا حتميا للطبقات المقهورة.
ولم ينس الشاعر أن يتوجه إلى الله بالدعاء في كل مرة لينير طريق الأمازيغ، بعدما صارت الجبال لهم أشواكا، وصار الحذاء معيقا لهم على المشي، كما يسأله تعالى ألا يمكن غيرهم من رقابهم فيُتَّخَذُوا حميرا تجر المحراث؛ لأن الأنذال أرادوا أن يحرثوا بهم في الصخر، وهو كشاعر مدافع عنهم يظل وحيدا في الساحة، وحزمة الحطب تحتاج جهدا ومساعدة، لعل الله يستجيب دعاءه فيسوق إليه السند والعون. يقول:
ءِيمْرْبِّي ءَاشْلُوحْ ءَادْ ءِيبَايْنْ ءَاغَارَاسْ نَّاغْ
ءِيمَّا كَّانْدْ ءَاكْ ءِيمُودَالْ سِيتنْغْ ءَاسْنَّانْ
ءِيسْ نْضَالْبْ ءِي رْبِّي ءَادُورْ نِيلِي تَاوُّولُّوتْ
ءِيمَّا رَانْ سِيغْ كّْرْزْنْ شْمَايْتْ غْ- ءُوسُولِيلْ
نْكَا وَاحْدُويِّي تَاكَّاتْ تْرَا نِيتْ لْيَاقِّينْ
ءُولاَّهْ ءَامْكْ ءِيلِّي مَادْ نْتْمُونَا غْ- ءُوغَارَاسْ
ءَادْ ءٍيبَايْنْ رْبِّي مَادْ نْتْمُونَا غْ-ءُوغَارَاسْ (16).
إن هذا الإحساس وما يكرسه الإعلام العمومي من تهميش وإقصاء وتقزيم هو ما جعل الدمسيري يشبه نصيب الأمازيغية من هذا الإعلام بنصيب الدراجة الهوائية من الطرق العمومية.
على أن ما يثير الحسرة أكثر في نفس الشاعر، تفريط البعض في هويته الأمازيغية؛ فمن كان يأمل فيهم خيرا لم يأبهوا له، وإنما انشغلوا بالحسابات وجمع الأموال، ويضيف ساخرا بأن كيلوغراما من الفول لدى هؤلاء أفضل قيمة من لغته الأم (تاشلحيت)، أما المهمومون مثله بوضعية التهميش للغة والإنسان، فحالهم كحال الفأر الذي كثرت حوله القطط، ما إن يتجه إلى وجهة يرى فيها خلاصه إلا وحاموا حوله. إن هذا الهم بمثابة بردعة تأبى أن تزاح من على ظهر الشاعر وغيره من الأمازيغ، ما بَلِيَتْ قط ولا تمزقت وهي لا تزال فوق ظهورهم، فبسببها زج به في غياهب السجن، وتساءل يومئذ هل من مَخْرَج، أم أنه سيموت بداخله؟، لكنه سرعان ما اكتشف عند خروجه أنه يحمل البردعة من جديد. يقول:
وِيلِّيغْ نْرْجَا ءُورْيِّي سَالاَنْ
غَارْ لْحْسُوبَاتْ دْ لْبَانْكَاتْ ءَاتْنْ يِيِوينْ
يُوفَاسْ كِيلُو نْ ءِيبَاوْنْ نْتَّا تَاشْلْحِيتْ
نْكْا زُونْدْ ءَاغْرْدَا كُّوتْنْ ءِيمُوشَّا فْلاَّغْ
ءِنَّاغْ هْلِّي دُّؤكِيغْ سِيغْ ءِييِّي سُّوتْلْنْ
هَانْ ءَاحْلاَسْ ءَادْ ءِكُّومِّي ءَافْلاَّغْ ءِتْرْسْ
ءُرْجُّو قْدْمْنْ ءُولاَ بِّينْ غَارْ ءِلاَّ فْلاَّغْ
نُكَّاتِّينْ يَانْ ءُوزْمْرْ نْكْشْمْ سِيسْ ءَافْرَّانْ
نِّيغْ عْلاَّهْ ءَادْ نْفْغْ نْغْنْ ءَاكْ نْمُّوتْ
لِّيغْدْ نْفُّوغْ ءَادَّاغْ فْلاَّتْنْغْ ءِتْرْسْ (17).
وفي قصيدة “لعيز ئتشلحيت” يدعو الشاعر الله أن يزيد لغته الأم عزا، راثيا لحالها وحال أصحابها بعدما كثر حولها المتآمرون، مصورا وضعها بطريقة كاريكاتورية قائلا: الله أكبر حملتك أيتها الذلة، فقد التقت الريح بالضباب الآتي من البحر فتعاركا، عج السوق بالناس والكل تائه؛ المشترون يرتعدون من الخوف، بل إن الباعة أنفسهم غادروه، لأن الذئب صار مسعورا، ترك الغابة واقتحم المنازل ليطرد منها النعاج، وحتى السلوقي الذي ربيته ليدافع عنها تخلى عني وشاركه الطعام. أما كل ما استلفته فقد اتفق القط والفأر على واقتسامه بينهما، ليذهب مجهودنا سدى، ونصبح كمن حرث محصوله في البحر:
رْبِّي زَايْدَاتْ لْعِيزْ نْكْ ءِيتْشْلْحِيتْ
نْتَّاتْ ءَاسْ لِيغْ ءَاتِيكْ ءِينَّاغْ كَا مُّوسْغْ
لاَّهْ ءُكْبَارْ ءَاتَادَالِّيتْ نُوسِيكْمْ
ءِينْمَاقَّارْ وَاضُو دْ تَاكُوتْ لّْبْحْرْ مَّاغْنْ
سُّوقْ ءِينْدْرْ سْ مْدْنْ كُولْشِي تْلْفْنْ
تُوسِيمْتْ ءَاتَرْكَاكَايْتْ ءِيشْرَّايْنْ
ءُولاَ يَانْ كِيسْ ءِيزْنْزَانْ ءِيسْتْنْ فَّاغْنْ
هَانْ ءُوشْنْ ءَارْ ءِيصَّاضْ ءِيكِّيسْ تَاكَانْتْ
ءَامَّاسْ نْ تْكْمَّا ءَاغَادْ ءِيطَّايْ تِيغَاطْنْ
رْبَّاغْ ءُوصْكَايْ ءِيدْرُو دِيسْنْ فْلاَنَانْغَ
ءَامُوشْ دْ ءُوغْرْدَا هَاتِي مْشَاوَّارْنْ
ءَايْنَّا رْطْلْغْ ءْيخْتْنِدْ ءُوكْرْنْ شْرْكْنْتْنْ
ءَافْلاَّنْخْ ءِيخْلْفْ رْبِّي تَاكْرَّايْتْ (18).
إنه الجراد وقد فغر فاه ليلتهم نبتة النعناع، وها هو يتهيأ لالتهام الحجر والشوك، لذا يتساءل الشاعر قائلا: أيها المسلمون أليست هناك عقوبة حتى تسلل الكوز إلى داخل المصحف فأتلفه، وقدم من داخل المحراب نحو اللوح؟
لكنه الخوف الذي أخفى عن الجميع ضوء القمر بشكل جعل الشاعر يبدي تحسرا واستغرابا، وخشية من أن يصيب العيب نفسه الشمس فتغيب عن الأنظار ويختفي نورها.
ءَاتَامُّورْغِي تْرْزْمْدْ ءِيمِي سْ لِيقَامْتْ
هَانْ ءَازْرُو دْء ءِيفْرِكْ ءَاسْنْ شْوْرْنْتْ
ءِيزْدْ ءِيسْ ءُورْ تْلِّي تَاكَاتْ ءَايْمُوسْلْمْنْ؟
لِّيغْ ءِيكْشْمْ وَاكُوزْ لْمُوصْحَافْ ءِيشْتْ
ءَاكْنْسْ نْ تْلِيمَامْتْ ءَادْ ءِيكَّا سْ تَالُّوحْتْ
ءَاحْ ءَا تَاوْدَا ءَايُّورْ غْ ءِيكْنَّا تُوسِيمْتْ
لْعِيبْ نْكْصُوضْ ءَايِّيدْ ءِيفُّوغْ تَافُوكْتْ
ءَادُورْ غَابْنْتْ فْ مْدْنْ لاَحْ تِيفَاوْتْ (19).
إن الخوف تمكن من الكل بمن فيهم الذات الشاعرة، لما تعودوا على أن يصدر الباطل من أهل العلم، وأن يدعوا من جعلوه حارسا على الحديقة يغط في نومه، ليسرع إليها المفسدون ويقلبوها رأسا على عقب، والحقيقة أن الدنيا تؤخذ غلابا، أما من كان عاجزا فستنهال عليه السياط دون أن يجرأ على فتح فمه. ولو رماه أحدهم بحجر، فلن يجني سوى الحرج حين يشتكيه للسلطة، وتالله سيصبح هو المعتدي.
نْكِّينْ ءِيضْرِيِّي مَادْ ءُوسِيغْ غْ ءِيفَاسْنْ
لِّيغْ ءَا نْزْرَّا لْبَاضْلْ غْ ءَايْتْ لْعِيلْمْ
وَالِّي نْكَا فْ لْبَابْ نْ وُورْتِي طَّاسْنْ
ءُوزْلْنْ ءِيدْ وَاشْ ءَارْكَا كِيسْنْ سْمْرْوَايْنْ
ءَا دُّونِيتْ هَانْ ءَافُودْ ءَاسَاكْ تْلاَّمْتْ
وَانَّا فْلْنْ ءِيشْ بَابَاسْ ءِيقْنْ ءِيمِي نْسْ
ءِيغْ ءِيدَّا كْرَا ءَارِيغْ كِيدْ ءُوتْنْ سْ تَاوُّونْتْ
ءِيغَاسْنْ نْصْرْطْ ءِيسْ رَا هْلِّي تْشْمَّاتْمْ
ءُولاَّهْ ءَارْدْ ءِيكْ ءَافْلاَنْ لْعَارْ كَاوِينْكْ (20).
خاتمة
إن تجربة الفنان محمد الدمسيري يصعب إعادة استنساخها، إذ تثوي خلفها أصالة وتميزا وجدا وغيرة على الأغنية الأمازيغية، والتي تتخذ من الشعر والكلمة عمادا لها، وإن انتماءه لثقافة وأدب لا يزال أغلبهما شفويا، وموقعه في حياة المجتمع السوسي خاصة والمغربي عامة، وما يطبع شعره من تناول لقضايا هذا المجتمع بأسلوب لا يخلو من السخرية يشكل مدعاة لدراسة هذا الشعر.
فالدمسيري شاعر حرك الوجدان وأجج العواطف، وألهب حماس الجماهير الشعبية الفقيرة التي ظل طوال حياته وفيا لقضاياها وهمومها، متخذا أسلوب الجد في موضوعاته تارة، وأسلوب الهزل والسخرية تارة أخرى، فهو ليس من النوع الذي اتخذ الأغنية وسيلة للترفيه فقط بل كان شاعرا ومبدعا وملحنا كما أسلفنا الذكر.
غير أنه لا ينبغي أن يفهم من دفاع الشاعر عن الجماهير الشعبية الفقيرة وعن هويته، أنه يحصرها في الناطقين باللغة الأمازيغية باختلاف تشكلاتها فقط، وإنما أيضا يشمل الأمر المواطن المغربي بصفة عامة؛ لأن الثقافة ثقافة الجميع، ولأن الدماء امتزجت عبر التاريخ، وإن اختلف اللسان، ولا يمكن للشعوب العيش بدون هويتها الخصوصية، وبدون تراثها الأصيل الذي لا يخرج عن إطاره الإنساني الشامل.
ومع أن الشعر الأمازيغي الذي تغنّى به الروايس، مجال واسع وخصب، ضخم كمّا، متنوع التيمات والمواضيع كيفا، إلا أنه، للأسف، كثير هم الشعراء – الروايس – أمثال الدمسيري الذين ملأوا الدنيا وشغلوا الناس في حياتهم بفضل ما أوتوا من الموهبة الشعرية الفائقة، لكن بمجرد أن يخطفهم الموت يصبحون نسيا منسيا.
أملنا، كل أملنا، أن نكون قد ألقينا بعض الضوء على جانب من السخرية في الشعر الأمازيغي السوسي المغنى، ومهدنا السبيل لتعميق الدراسة في التراث الساخر، دراسة أوسع وأشمل تمتد إلى مختلف فنون القول والموروث الشفهي الأمازيغي القديم والمكتوب حديثا كالحكايات والأمثال الشعبية، والمسرح والتمثيليات الهزلية وغيرها.
الهوامش:
1 – أبحاث في الفكاهة والسخرية – الورشة الثانية، فريق البحث في الفكاهة والسخرية، جامعة ابن زهر، كلية الآداب والعلوم الإنسانية اكادير، تنسيق د. أحمد شايب، الطبعة الأولى، 2010، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، مقال د. صالح أزوكاي بعنوان:” تخطئة الشعراء والمجاز الساخر”، صفحة 100.
– D.C. Mueke, ‘’Analyse de l’ironie”, Poétique, Novembre 1978, p. 478. 2
3– Orecchioni, C.Kerbrat. ‘’ l’ironie comme Trope”, in Poétique n°41, Le seuil, Paris 1980, p.108-109.
4 – شايب، أحمد، الضحك في الأدب الأندلسي؛ دراسة في وظائف الهزل وأنواعه وطرق اشتغاله، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، الطبعة 2، ص200.
2008.
5 – شايب، أحمد، أبحاث في الضحك والمضحك، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الرباط، ط 1، 2010، ص83.
6 – أزروال، فؤاد، الضحك الأمازيغي السخرية في الثقافة الأمازيغية، مطبعة الجسور ش م م، وجدة، الطبعة الأولى، 2014، صفحة 23.
7 – مستاوي، محمد، عصيد، أحمد، أمدياز الرايس محمد الدمسيري، قصائد مختارة، ج2، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، ط 2، 2006، ص.58.
8 – قصيدة” ربي زايد ءوكوك ءيشلحين”، محمد الدمسيري، شريط: (ءيكاد لغدر تايوكا).
9 –Sebastien.Rongier, «De l’ironie: Enjeux critiques pour la modernité»، Klincksieck, 2007, p.9.
10 – مستاوي، محمد، عصيد، أحمد، أمدياز الرايس محمد الدمسيري، مرجع سابق، قصيدة:” نْكَا زُونْدْ ءَامْجُّوضْ “، ص13.
11 – نفس المرجع الصفحة 13.
12 – المرجع نفسه، ص.14.
13 – نفسه، ص14.
14 – نفسه، ص14
15 – مستاوي، محمد، عصيد، أحمد، أمدياز الرايس محمد الدمسيري، مرجع سابق، قصيدة: “ليخ ءيندر ءيكيك”، ص15.
16 – نفس المرجع، صفحة 15.
17 – نفس المرجع، صفحة 16.
18 – مستاوي، محمد، عصيد، أحمد، أمدياز الرايس محمد الدمسيري، مرجع سابق، قصيدة: “لعيز ءي تشلحيت”، ص55.
19 – المرجع نفسه، ص.56.
20 – المرجع نفسه، ص.57.