الرئيسية / ملف الزجل / «ويكاند» أو الكتابة بأربع أياد – مراد القادري

«ويكاند» أو الكتابة بأربع أياد – مراد القادري

للكتابة المشْتركة ذاكرةٌ مُوغلة، فقد خاض غِمارَها العديدُ من الكُـتّاب شرْقا وغربا. وإذا كانت بعضُ النّصُوص المُشْتركة قد نجحَت في تقْديم عالمٍ أدبيّ يتداخلُ فيه „الأنا“ ب „الآخر“، حتى أنّ القارئ يتعذّرُ عليه تلمُّس ملامِح كلّ طرف؛ فإنّ نصُوصا أخرى فشلَت في هذا الرّهان الأدبي والجمالي، لتترسّخ الفكرة القائلة بأنّ العمل الأدبيَّ لا يأتي إلا بتوْقيع يدٍ واحدة.
„ويكاند“ هو العُنوانُ الذي اختاره الشّاعران توفيق ومان (الجزائر) ويونس تهوش (المغرب) ليُدشّنا به علاقةَ تفاعُلٍ شِعْري وحوارٍ إنساني بين مَساريْن مُخْتلفيْن في الكتابة الشّعرية بالعاميّة؛ إذ ليس هُناك أحسن من الويكاند للالتقاء والتّشارُك وكِتابة نصٍّ واحد، حيث يمكنُ لكلّ طرفٍ أنْ يكتب للآخر وأنْ يقرأ له في ذاتِ الآن.
بهذا المعنى؛ تصيرُ الكتابة المشتركة مُخْتبرا للتّقريب بين مسارات الكتابة وتوْضيب علاقاتِ تفاعلٍ مُثمرة بين اتجاهاتها؛ خاصّة في لحظات تبايُنها وتنوّع روافدها الثقافية وخلفياتها الفنّية والجمالية؛ وهو الأمر الذي تجسِّدُه الكتابة المشتركة في ديوان“ ويكاند“. فالشّاعر توفيق ومان، آتٍ من ذاكرة شِعرية تُراثية، فقد تربّى و نشأ في وسطٍ شِعْري زاخرٍ بالمورُوث الشّعبي الشّفوي، وهو ما يتكشّفُ في مجاميعه الشّعرية؛ خاصّة الأولى؛ فيما الشّاعر يونس تهوش؛ بدا؛ منذُ قصائِده الأولى، مسْكُونا بهاجِس التّجريب و رُوح المغامرة والسّعْي نحو امْتِلاك صوتٍ شِعْري مُنصِتٍ للأشياء والظواهر.
هكذا، يتّضحُ أنّ الكتابة المشْتركة في هذا العمل الشّعري، لها معنى؛ ذلك لأنها تنبثقُ من الحاجة إلى إقامة حِوارية بين أسلُوبين في الكتابة الشعرية؛ يبْدُو اللقاءُ بينهما مُستحيلا بالنظر لطبيعة كلّ واحدٍ منهما.
فهل يا ترى نجح رهان“ الويكاند“؟
تكشفُ قِراءةُ هذه المجمُوعة الشّعرية عن استراتيجية خاصّة؛ يمكنُ نعتُها بثنائية: القُرب و البُعد. وهي اسْتراتيجية كتابية تكْشِفُ؛ في بعض مفاصل الديوان؛ عن مُساهمة كلّ من الشّاعرين، بحيث يمكنُ لنا أن نتبيّـن؛ بجلاءٍ واضح؛ صوتَ توفيق ومان، ليس لأنه يسْتعملُ ضمير المخاطب مُعيّنا تسع ( 9) مرّات رفيقه بالاسم، مُفتتحُها جُملة النداء (يا يونس) التي تتكرّر ثلاث مرات داخل الدّيوان؛ مرُورا ب: لقيتك أيونس/ شفت أيونس خلخال جدة/ إيوا يونس/ يمكن أيونس/ ويونس محتاج… / و مختتمها جملتُه (ما بقالي ما نقول يايونس). ليس ذلك فحسب، بل لأنّ نبرة توفيق ومان الشّعرية؛ على الرغم من الإبْدال الكبير الذي عاشته، ابْتداءً من ديوانِه“ لْبَسْني الكلام“ (2013)؛ ظلّت تحملُ في رحِمها بذْرة القوْل الشّعري الجانح نحو المعنى؛ غيرِ المكترث بالاضْطراب والالتواء الذي يتقصّدُه شاعِر اليوم في سيْـره نحو قارئه.
عند حدِّ البُعْد، ينْكـفئُ كلّ شاعِر على صوْغ مقْطعه وحِواره الشّعري؛ فيكتبُ كلّ واحد منهما من داخل أفُقه الجمالي والرّؤيوي؛ حتى نظنّ أنّ رهان „ الكتابة المشتركة“ الذي تطلّعنا إليه، أصابهُ الفشل:
نقرأ المقطع التالي، فنشيرُ إلى يونس:

يقول لنا الطّين
خرجو منّي
بنِيو من عرايا جغرافيا

يعاني أفلاطون فيها وجع الهارد روك
و ( كُنْ) متوسطي

ونقرأ المقطع الموالي؛ فيبرز وجه توفيق:

الما(ء) تعثّر كي شاف عينيك
ونشف ريقُه، كي غاص في اهدابك
عشَق نجوم السما(ء) فيك
وتغطّى باشفارك
على أنّنا نكْـتشِفُ أنّ الشاعرين؛ حتى وهما في حدِّ البُعد؛ قريبيْن من بعْضهما البعض؛ وأنهما معْنِيان بهاجسٍ واحد. أيْ كيف يمكنُ رتقُ جِراح ذلك الشّباك الذي يُطلّ منه كلّ واحدٍ على الآخر، واسْتِعادةُ الواد لبهجته وجريانِه بين الطرفين / النظرتين:
الحياة تعنّق معانا/شبّاك مجروح، واد مهموم، جوج نظرات/ و – كتابة- مشتاقة للرّيح.
تطمحُ الكِتابة المشْتركة في «ويكاند» إلى ركُـوب الرّيح لتصِل بين طرفيْ الواد، وحمل رسائل الشوق والرغبة في عِناقٍ؛ ما فتئ يتكرّرُ على طول الديوان، كما في هذا المقطع:
قال الواد:
محتاج تعنيقة حارّة، كادو دافي، صورة حنينة، و باراسيطامول.
ليس طرفا الواد، هنا سِوى طرفيْ الكتابة في «ويكاند»: يونس وتوفيق وهما يسْتعِيدان؛ في بدْء الكلمة داخل الديوان؛ ملامحَ من ذاكرةٍ مشْتعلة بلحظاتِ الضوْء والحلم:
كنّا جوج ذ الخوت
نرضعُو
نتحانُّو
نصيدُو بلاّرج، نتبْعو الواد، عرف الزيتون
سالف لونجة.
وعلى شاكلة توفيق، يبدُو يونس، هو الآخر، مُنْصرفا؛ في الدّيوان؛ إلى تأكيد صوْتِه الخاصّ من خلال إعـْلانه حالة الكلام؛ التي ترِدُ ممهورةً بلُغةٍ شِعْرية، تحملُ معها مُتوالية لا نهائية من اخْتلافات المعنى.
و إذا كان توفيق يقودُ ضمير المتكلّم في الدّيوان (9) مرّات، فإنّ يونس يقودُه (10) مرات. تكافُؤٌ في فُرص البوْح الشّعري بين ضِفّتين شِعْريتين، تتباعدُ حينا وتتقاربُ أحايين. يردُ اسم توفيق؛ في الغالب الأعم، اسما مُنادى؛ وذلك على النحو التالي:
ياتوفيق (4 مرات) / أتوفيق (4 مرات) / توفيق ( مرتان).
في كلام توفيق ماءٌ يجري؛
وفي كلام يونس هواءٌ يجري؛
وفي وعْيهما المشترك؛ تبدُو الحاجة مُلحّةً إلى ما يصِلُ بين الطرفين/ الضّفتين. يختارُ الأوّل الماء، من خلال رمزية الواد؛ للتّعبير عن الرغبة فيما يُنقّي الدّواخل وتـجْديد الصّلات مع الذات والعالم، فيما ينتصرُ الثاني للهواء من خلال رمْزيّة الشّباك الذي يتعيّن فتحُه لاستِنْشاق هواءاتٍ طلقة؛ حُرّة؛ وجديدة. وعـلاوة على ما يكتنفُ الرّمزين (الماء الواد – الهواء/ الشباك) من معانِ النّقاء والتجدّد؛ فإنهما معا وسيلتان للتواصل وبلوغ الآخر. عبر الماء نشْعُر بأننا ننتمي لنفس النّهر حتى لو كان كلّ واحدٍ منّا يقفُ في ضفة مقابلة للأخرى. وعبر الشباك، يُتاح لكلّ مِنا أنْ يطلّ على الآخر مُتواعدًا صفيّه باللقاء في عشِيّة « الويكاند».
هكذا، ينخرطُ الشّاعران؛ حتى خلال لحظات انْشغال كلّ واحدٍ منهما بصوْغ عالمه الخاص؛ في نفْس الهاجس. هاجس القُرب وهما في حالة البُعد.
قلقُ الشاعرين واحدٌ. وغايتُهما واحدة. اسْتِعادةُ، عبر الشّعر، لحظاتٍ من زمنٍ جميل؛ كان اللقاءُ فيه مُتاحا و(الخاوة) ممكِنة؛ وذلك قبل أنْ ينْقلب كلّ شيء؛ ويُقفل الشُّباك على نفْسه وعلى علاقةٍ، لم يكن بمقدُورها أنْ تعيش بدفْء العِناق فحسب، بل وبالكثير من جُرعات باراسيطامول.
قال الواد:
محتاج تعنيقة حارّة، كادو دافي، صورة حنينة، و باراسيطامول.
مُتحسِّرا يطلّ الشُّباك على الواد في جفافِه. الوادُ الذي كان الإخوة يحلّون بين جنباته قبل أنْ تتفرّق بينهما السّبُل ويتشرّدَ الويكاند، الذي ما عاد يأتي؛ كما كان في الماضي؛ مُتأبّـطا رُوحَ البهْجة والأخُوّة؛ بل صار يصلُ عاريًا من سوْيعات الاخْضِرار والدّفْء التي كانت في الماضي:
من سعْدكم نشف الواد
و الخاوة تفرقات بكم بالعرض والطول
قالو جنبُه جلس ويكآند و ما عرفش يبول.
في ديوان «ويكاند»؛ صنَع كلّ من يونس وتوفيق ثنائيتهما الشّعرية: ثُنائية البعد والقرب، وعبرها سعَيا إلى إعادة بِناء الذّاكرة ومُقاومة الانفصال. فالشّعرُ ضدّ القطيعة. والشِّعرُ هو فرْحةُ اللقاء وبهْجةُ الاتّصال. والظاهر أنّ الإحْساس بالقطيعة ربما هُو ما دفع الشّاعرين معًا إلى أنْ يتسلّحا بالشّعر وبالحلم لينتصرَا على العزلة.
في «ويكاند» كذلك، يتطلّع توفيق ومان ويونس تهوش أن يكون؛ كلّ منهما؛ شبّاكا للآخر، عبره يستشْرفُ الخـارجَ وينفتحُ عليه ويستعيدُ معه داخلَه وذاتَه؛ قبل أن يسْتعِيد آخَرَه. ولهذا فالدعوة مافتئت تتّسع لفتح الشباك (الشرجم) لعلَّ النور يدْخلُ من جديد وتسرحُ خيول المحبة في أرْوِقة الذاكرة:
قرّب نفتحو للوقت شرجم
يخرج ظل، ريح مربوط، ألبوم محروق، موسطاج باريسي، (زعلولة) ديغول،
خيل- في الكولوار – تمشي و تجي
وإذا كان حدّ البُعد، يحفظُ لكلّ شاعرٍ لُغتَه ورؤْيته الشّعرية، فيما هما ينْصرفان معًا إلى العمل وفْق هاجسٍ واحد؛ فإنّ حدّ القُرب سيكشفُ لنا تعذّر الإمْساك بكل واحدٍ من طرفيْ الكتابة مُـتلبّسا بجُرمـها؛ أو تبيّن مُساهمته الشّعرية الخاصّة؛ ما يجعلُ «ويكاند» يجسّدُ بنجاح لحظة كتابة مُشتركة؛ صهَرت مُمارستين نصيّتين اثنتين في واحدة؛ وهو الأمر الذي يبدُو بجلاءٍ في المقاطع الاسْتهلالية والأخيرة من الديوان. وهي المقاطعُ التي تعكسُ دوالُها المنتقاة تلاقُـح واجتماعَ صوتين شِعْريين على رؤية شعرية وجمالية واحدة:
-انتما جُوج فصول / تلاقحت فيكم/ شمس، حكاية، ﭬياكرا،
-انتما جُوج ظلال/ جامعاكُم/سرّة، برّاد، تفيناغ/ حزب سبّح/باب اللّيسِيه.
يكتبُ توفيق ويونس من قلمين مُختلفين…
يكتبُ يونس وتوفيق بأربع أياد. ورغم ذلك تأتي المقاطعُ التي تسْتدعي الذاكرة وتستشْرفُ الآتي مُنْصهرة ومنْدمجة، ما يجعلُ إثبات شجرة نسبِها أو التحقّقَ من أبوّة أحد الشّاعرين لها غير ممكن.
يسْتنطقُ «ويكاند» التاريخ والجغرافيا (خط الاستواء/ غرينيتش/ توبقال/ خطوط الطول/ خطوط العرض/ الأوراس/ الأطلس/ أثينا/ جامع الفنا/ حيط المبكى/ كربلاء….)؛ ويتّكئُ؛ في ذات الآن؛ على الكثير من الرموز والشّخصيات لبناءِ عالم شعري (ابن خلدون؛ أبو فراس، وطار، بن مهيدي، كريستيفا، سالفادور دالي؛) يشير إلى
المعنى ويبدّده؛ ويُلْمِح إلى رغبة صاحبيْ النصّ في عدم الاستحواذ لوحدهما على الكلام داخل الديوان ومن ثمّ، يلجأُ إلى اسْتدعاء عناصر أخرى من عالم الخرافة و الميتولوجيا والأساطير والرسوم المتحركة لتعضيد الرؤية الشعرية؛ والتقريب ببين أطرافها:
نمشيو/ في سما(ء) زينة ونَحُول…، قريندايزر، سينان/ نصائح المعلمة،…/
ومراهقة الغول /نحلّو عينينا على:/حديقتنا الساحرة، /بخور المولد، مقيدش، سينما الزعاطشة، /و آذان القرويين، …
كما يلجأ «ويكاند» إلى تقنية تعدُّد الأصْوات، التي تتناوبُ على الكلام داخله للتّعبير عن وجهة نظرها وموقفها الشّعري والوجُودي من معنىً ضبابيّ، يظهرُ ويختفي في آن، غير قابل للقبض أو التحدُّد. ولنا أنْ نعيّن بسهُولة الأصوات التي تخترقُ الديوان. ذلك أنّ ما تتلفظُه هذه الأصوات؛ التي تعود للبشر وللحجـر وللشجر، وتنتمي للسماء وللأشياء بمعناها الواسع؛ مؤطّـر داخل الديوان ومسبوقٌ ب دال: قال/ قالت.
قال الشباك/ قال الريح/ قال بياع الورد/ قالت الخاوة/ قالت اللحظة/ قال الحوت/ قال القمح/ قال الوقت/ قال ابن بطوطة/ قال البراسيطامول/ قالت النبوءة… يتكرّر دالّ القول 15 مرة؛ وبهذا المعنى، لا يصيرُ ديوان «ويكاند» نتاجَ صوْتين شِعريين هما: توفيق ومان ويونس تهوش، بل ثمرة قولٍ جماعي ما يعمّق مفهوم «الكتابة المشتركة» ويجعلها لحظةَ تسائل فيها الذات الوجود من خلال حواريتها وتفاعلها مع محيطها والعالم.
وبالجملة، يمكنُ لي القول إن ديوان» ويكاند» لم ينجح في منْحنا نصّا شِعريا مُشتركا فحسب، بل أتاح للصّديقين الشّاعرين يونس تهوش وتوفيق ومان اخْتبار أفق علاقتهما الإنسانية، ومنحنا درسا ثقافيا في إمكانية الإنصات المتبادل والفعل الشعري المشترك من أجل إعادة امتلاك الذات والكون؛ وصون الصداقة والأخوّة الشعرية التي متى تعذّر اللقاء الفيزيقي، انتصبت لتعدّ الشعر مكانا للقاء والتلاقي. فوحدهُ الشّعر قادِرٌ على فتْح الشّباك وإعادة المياه لمجرى الحياة.

شاعر وباحث من المغرب

عن madarate

شاهد أيضاً

طابلو – يونس تهوش

ذك طابلو كان ورقة بيضا(ء) و خوّضها العذاب لمّا شافَ (الفكرة) منورة مداد حكم على …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *