الرئيسية / فنون / قراءة في تجربة (المابين L’entre-deux) – محمد خصيف

قراءة في تجربة (المابين L’entre-deux) – محمد خصيف

 

 

ليس هناك من نص متجانس، هناك في كل نص قوى عمل في الوقت نفسه، قوى تفكيك للنص. هناك دائما إمكانية لأن تجد في النص المدروس نفسه ما يساعد على استنطاقه وجعله يتفكك بنفسه”.
                                                           جاك دريدا

سبق لعبد الكبير الخطيبي أن ربط أحمد الشرقاوي بالشرق والجيلالي الغرباوي بالغرب، بحكم أن الأول كانت مجمل روافد أعماله شرقية بينما الثاني منابعه غربية. وغالبا ما يحيل الاسم على الشخصية الذاتية للفرد أو على سلوكياته الإبداعية. وانطلاقا من هذه الحقيقة، النسبية شيئا ما، يتبين أن النافي كاسم وشخص وسلوك تجاه أعماله يرتبط بعمليات النفي والانتقائية. فماذا ينفي الفنان النافي؟
من أول تأمل في أعماله نستنتج أنه ينفي اللون والشكل والحجم، ثم يعيد البناء بطريقته، مستعملا تقنيات مرتبطة أصلا بحرفة النجارة. ينفي كل الألوان ليقتصر فقط على لون أسود، طاغ، حيادي/أحادي. ويهدم الشكل الأصلي ليركب أشكالا هو سعى إلى بنائها وتكوينها. تفكيك وهدم مادة الخشب التي تتوفر على ثروة غرافيكية هائلة تستبطن باللمس وتستجلي بالبصر، فيسعى الفنان إلى نفيها ونفي وجودها وتغطيتها بمادة هو اختارها (اللون الأسود) لون النفي والحياد.
لكن…يستعصي عليه هدم الفراغ.
الفراغ مادة حية
لقد أصبح الفراغ عنصرا حقيقيا وأساسيا يحدد رؤية العمل المجسـم، يتحـرك داخلـه وحوله، في تدفق مستمر وإيقاع غير رتيب، “إن عنصر الفراغ كان مهملا في الأعمال النحتية القديمة، حتى أدرك النحاتون الحديثون الحقيقة بأن الأجسام توجد في الفراغ”. فقد كان ينظر إلى الفراغ قديما على أنه شيء مكمل للشكل ولم يوضـع فـي الاعتبار أنه من ضمن أساسيات عملية التشكيل الفني، فكان الاهتمام الأكبر بالكتلـة دون العناصر الأخرى؛ إذ اتسمت المجسمات قديما بالتشكيل المباشر على الخامة المملوءة. بالأمس كتب نعوم ﯕابو Naum Gabo، رائد المدرسة الشكلانية الروسية: “إن الفراغ ليس مجرد جزء من الفراغ الكوني يحيط بالشكل فقط، بل إنه مادة في ذاته، بمعنى أنه جزء تركيبي للشكل ذاته، له قدرة على وصل الحجوم بعضها ببعض كما لو كان قوة رابطة أو حلقة وصل تماما مثـل أي مادة صلبة أخرى لها خصائصها وفعاليتها، فهو عنصر فعـال إيجـابي فـي هـذا الخصوص…لازال الحجم باق كأحد العناصر الأساسية فـي العمل المجسم، ونحن لا ننوي انتزاع مادية العمل الفني، على العكس فنحن واقعيون ملتزمون بالمواد الأرضية، إذ نضيف إدراك الفراغ إلـى إدراك الكتلـة كقيمـة جوهرية أكثر من خلال التناسق بينها وبين الفراغ بامتداده واتساعه”.
إعادة بناء الفراغ
مصطفى النافي لا ينحت المملوء le plein أي لا يتدخل بتقنياته ليغير صورة الحجم ويطور كتلته، ولكنه يحفر الفراغ، السهل الممتنع، الثابت المتحول، بغية إعادة تشكيله وتكوينه من جديد، موظفا مجموعة قطع وافدة من جسد سبق تفكيكه. يحاول النافي القبض على فراغ/فضاء، والتحكم في آلياته بنفي وانتقائية. فهو أمام فراغ اعتبر إشكالا جماليا على مر عصور تاريخ الفن. كتب عنه العديد من الجماليين وفلاسفة الفن. ويعد من أكبر الإشكاليات التي واجهت الفنانين بمختلف انتماءاتهم الفنية وتنوع ذوائقهم الجمالية، تعاملوا معها بمقاربات متفاوتة، بدءا من الكلاسيكية ومرورا بالفن الحديث ووصولا إلى فنون ما بعد الحداثة.

فالفراغ/الفضاء معروف بتحدياته الملحة والعنيدة. ومع أول نظرة نلقيها على سلسلة أعمال الفنان مصطفى النافي في تجربة “المابين”، يبدو جليا مدى مقاومته واستماتته أمام عناد وتحدي الفراغ. مصطفى النافي يجد نفسه، بكل ما أوتي من قوة إبداعية، في مواجهة شرسة مع ما أسماه الناقد الجمالي ألكسندر ببادوبولو “l’horreur du vide” متحدثا عن جمالية الفن الإسلامي، أوHorror Vacui، حسب التعبير اللاتيني. وهي مقولة فلسفية عبر عنها أرسطو منذ القرن الرابع قبل الميلاد حين ربطها بمفهوم الأثير وعلاقته باللامتناهي”. فتجربة مصطفى النافي تتموضع داخل دوامة سببها جدال حاد مع اللامتناهي، إذ نجده لا يتوقف عن اقتفاء آثار الفراغ المنفلت في انسيابية لا حد لها.
إنه حقا صراع الداخل والخارج، لأن الأول محدد والثاني شاسع. الفزع من الفراغ المطروح أمام مصطفى النافي يختلف شيئا ما عن فزع الفنانين القدامى، مسيحيين أو مسلمين، لكون هؤلاء كانوا يعمدون إلى ملء الفراغ وتغطيته، انطلاقا من طروحات إيديولوجية/دينية. وأسرد هنا الحديث النبوي: “نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ”، والحديث الآخر: “أَقِيمُوا الصُّفُوف وَحَاذُوا بَيْنَ الْمَنَاكِبِ وَسُدُّوا الْخَلَل وَلَا تَذَرُوا فُرُجَات لِلشَّيْطَانِ”. الشاهدان هنا، “الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ” و”وَسُدُّوا الْخَلَل”؛ أي كراهية ترك الفراغ.
بينما أعمال الفنان تتناول التعامل مع الفراغ، ليس انطلاقا من محاولة ملئه، ولكن في محاولة لاحتوائه والاقتصاد في انسيابه وانفلاته، وهذا ما يمكن أن يدل على نوع من الفزع تجاه المنفلت الهارب.
الفراغ خلفية للاشتغال
يشتغل الفنان وفكره مهووس بالفراغ وشساعته، وهو لا يشكل أعماله على خلفية فيزيائية Support physique وإنما يبني تكويناته على الفراغ كخلفية، فهو ينحت الفراغ ويشكله، وهذه عملية ليست بالهينة، وأعتبرها أساسية بالمقارنة مع باقي الحركات والتدخلات من قطع وقص وحك وتلوين ورسم. عملية البناء والتكوين وضعت الفنان النافي في مواجهة جدالية/شجارية مع الفراغ. فأعمال النافي تختلف عن غيرها، التي تداولت بفكرة القطع مع الإطار/السند -بلكاهية ومدكور والعربي بلقاضي كمثال – بكونها تبنى انطلاقا من هاجس “الإحاطة بالفراغ الشاسع”، بينما الآخرون بقيت أعمالهم تتشكل كل عناصرها الشكلية/اللونية على أسندة (جلد، خشب، نحاس…) دون اعتبار الفراغ المنساب الذي يصارع الحجم على الوجود.
الفراغ ليس خواء فضائيا

يشكل الفزع من الفراغ “l’horreur du vide” إلى جانب البساطة minimalisme مفارقة أسلوبية تحيل على الفكرة التي تبناها مصطفى النافي في مشروعه الفني (المابين)؛ فمن جانب، نجد عمله يوحي بالبساطة، إذ يتفادى التعقيدات الشكلية والتراكيب اللونية التي تستجلي جميع ألوان الطيف، ومن جهة أخرى، يحضر الفراغ بما يمكن أن يحتويه من عناصر طبيعية، لا فنية، تفرض نفسها على التكوين الذي طرحه المبدع حيثما وضع العمل الفني. ليس هناك خواء فضائي كما يعتقد، بل حيز مملوء تؤثثه أشياء تتبدل مع تموضعات العمل وتغييرات المحيط. ومن تم يكون الفراغ قد انعتق من قيود سلطة الفنان وطغيانه، وفرض وجوده ممارسا تحدي السيولة والانزياح وانتهاك الحدود، مستجلبا صورا مغايرة لتصورات الفنان.
فالفراغ ليس لا شيء كما كان يعتقد، بل إنه يحث على التفكير. حقا ليس له لون ولا رائحة ولا مادة، لكن له كينونة تجعله يتملك بعدا جماليا وفلسفيا وأنطولوجيا. الفراغ له وجود طاوي…حسب التعريف الفيزيائي للفضاء فإن الفراغ لونه أسود، والكل يعرف ما يسمى “الثقب الأسود”، le trou noir. انطلاقا من هذا التعريف نتساءل ما إذا كان الشكل الأسود، المدور، المركب هو نفسه فراغ؟ وهو كذلك يميل نحو التحدي الذي ذكرناه. ومن تم يواجه الفنان فراغين، الأول حقيقي، لا لون له، بل نجده يتقمص الشخصية اللونية الخاصة بأي فضاء مكاني وضع فيه العمل، والثاني الشكل/الفراغ ذي اللون الأسود، والذي يتكرر في عدد من الأعمال، إلى درجة أنه أصبح بمثابة قالب Matrice تتفرع عنه جل التكوينات ويشكل الانطلاقة التخطيطية الأولية لها جميعا. فهذا القالب هيمن على ذهنية الفنان واحتضن بشكل عدواني/صراعي فكره إلى درجة أنه، أي الفنان، أصبح سجينه. فالتكوينات المتماهية ما هي إلا تعبير عن الصراع المحتدم والدائم بين الفراغ والفنان.
ما نراه حقيقة فراغا ينفلت بشكله ولونه، فهو لا لون له، ولا شكل له، نجده يستلف من ألوان محيطه، وشكله يتمادى في انتشاره متحديا الإطار الذي وضعه الفنان كحدود مرسومة.
شرعية وجود الإطار
أي شرعية نمنحها لوجود الإطار المستطيلي الشكل؟ ما هي وظيفته داخل التكوين العام للعمل؟ وظيفته ليست تأطير العمل بالمفهوم التقليدي ولا عنصرا مساعدا Auxiliaire لتثبيت المنجز على الجدار. فمن أول نظرة سيبدو الإطار هذا دخيلا على باقي الأشكال ولا ينسجم معها ولا يساهم في سيمفونية التكوين. وهذه حقيقة بديهية يراها كل زائر واقف أمام أعمال النافي. ومن السهل التعليق والحكم بأن الإطار زائد بلا وظيفة ولا دور تشكيلي/جمالي، وربما أنه يشوش على التكوين.
لماذا يا تري أضافه الفنان؟
إنه محاولة منه لاحتجاز الحيز المكاني للفراغ، إنه رد على لغة التحدي التي يتحاور بها الفراغ مع الفنان. هذا الأخير يحاول الإحاطة والتضييق وتحديد حدود الفراغ، لكن الأشكال بعضها بني فوق الإطار ومن ثم عبر الفراغ عن إزاحته، وشكل لنفسه استمرارية خارج الحدود التي رسمها الإطار. وما تداول الأعمال بنفس الألوان الحيادية وبنفس التقنيات وبنفس التماهي على صعيد الشكل المملوء الفارغ إلا دلالة على المحاولات اليائسة لضبط حدود الفراغ. طالما أعاد الفنان تدخلاته وحركاته قدر ما يجد نفسه في مواجهات التحدي وانتهاك القوانين التي ألفها ووضعها نصب عينيه.يحاول الإطار المستطيل أن يضعف قوة القرص/القالب، لكنه يستسلم أمام التحدي وأشكال صغيرة تخترق حدوده وتضعفه أمام القوة المتمركزة نحو الوسط لتشكل قوة أو مركز قوة تتهاوى باتجاه باقي الخطوط، وينطفئ لهيبها كلما اقتربنا من المحيط.
يخضع التركيب لمقومات جمالية تقليدية: خطوط أساسية تشكل أعمدة التكوين، مركز قوة يجلب النظر، البحث عن إغراء جمالي داخل تضادات وحيادية، استحضار نغمات سيمفونية صامتة، انسياب/انزياح/تسلل من خارج الإطار نحو المركز أو هروب من النواة نحو المحيط Périphérie.
انشطار ذري وتشظي مستمر…كل هذا يدفع الفنان إلى لمّ تلك الشظايا وحبكها بواسطة خيوط وتوافقات لونية/خطية، مع تكرار بعض العناصر التشكيلية/الشكلية، لكن بتقنيات مختلفة وآليات مغايرة، تستحضر نفس الأشكال إما باللون أو الحفر. محاولة خلق توازن جاذبي، حيث يتقعد القرص نحو الأسفل بينما يملأ الفراغ الأفق. ومن المعروف أن الفراغ يمثل وهم العمق في الفنون التشكيلية، لترجمة الفراغ الفيزيائي الثنائي الأبعاد. والنافي لا يستحضر هذه الإشكالية التقليدية، فهو لا يسعى إلى خلق بعد ثالث ليوهم المشاهد بتجلي فضاء متكامل الأبعاد…ولا يوحي لنا بخيال كاذب حسب تعبير أفلاطون.
وأنا أتأمل منجز مصطفى النافي، أتساءل: أيهما أقرب إلى المتلقي: الشكل الرحيمي Forme matricielle، إذا حلك، أم الفراغ المتدرج نحو اللامتناهي إذا انبلج بياضه؟ فربما يكفيني قناعة، قول دوقلة المنبجي صاحب قصيدة “اليتيمة”:
فَالوَجهُ مثل الصُبحِ مبيضٌ
والشعر مِثلَ اللَيلِ مُسوَدُّ
ضِدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا
وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ

فنان وباحث تشكيلي من المغرب

 

 

 

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

الفن والثقافة ..في فلسفة هيغل – لينا حبيب ديب

الفن والثقافة ..في فلسفة هيغل                     …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *