الرئيسية / عطر الكلام وعبق الكتابة / محمد عبد الباري والعتبة الأخيرة على آخر ضفاف “أغنية لعبور النهر مرتين – المختار النواري

محمد عبد الباري والعتبة الأخيرة على آخر ضفاف “أغنية لعبور النهر مرتين – المختار النواري

 

محمد عبد الباري[1] والعتبة الأخيرة على آخر ضفاف أغنية لعبور النهر مرتين[2]

وقف جيرار جينيت  Gérard Génette على عتبات النص وقفة موقظة للوعي النقدي الحديث، وملفتة له إلى أن النص، ومنه الشعري، وكيفما كان: نص قصيدة أو نص ديوان، ليس نصا واحدا، وإنما هو نص متعدد، يتمحور حول نص أساس، وتلفه نصوص موازية Paratextes. ويحلو له أن يسميها حينا بالعتبات[3]، ونترجمها حينا ثالثة بالمَنَاص[4].

ويُعد ديوان “أغنية لعبور النهر مرتين” لمحمد عبد الباري تجسيدا لهذه التعددية النصية الأساسية والموازية، وتتلون هذه الأخيرة بألوان غنية وطريفة، مثيرة وملفتة، ومنها عتبات الديوان الخارجية (وجه الغلاف وظهره بكل محتوياتهما)، ومنها عتباته الداخلية: المدخلية (صفحة العنوان وصاحبه والمطبعة ـ الصفحة التوثيقية الطباعية ـ الصفحة التوثيقية الزمكانية ـ صفحة الإهداء)، والمخرجية (التوقيع المكاني والزماني). ومنها العتبات النصية التي تتداخل مع النص وتتقاطع معه، وضمنها نجد العتبات المقطعية الفصلية (المتمحورة حول تعاريف لغوية مستمدة من لسان العرب تخص الصيف والخريق والشتاء والربيع)، ومنها العتبات الشهرية (الرسوم المرافقة لكل مقطع من المقاطع الاثني عشر)، ومنها العناوين الرقمية لكل مقطع (1، 2، 3… 12). تتقدم هذه العتبات قبل أن يجد قارئ الديوان نفسه في مواجهة نصوص المقاطع، التي تُعتبر نصوصا صغرى، تتناسل داخل النص الأكبر ـ الحاضن (الديوان)، الذي كان عبارة عن نص واحد، مما يمكن تسميته بـ”الديوان ـ القصيدة”.

وإذا كانت الذائقة الجماعية قد توقفت طويلا، وبمسبارات مختلفة، عند عتبات المداخل، في مختلف المرافق الحياتية، فصاغوا لذلك مبادئ حياتية وسلوكية وقيمية عالية، حاولوا فلسفتها فصاغوها على صورة أمثال وحكم وأقوال مأثورة، تناولوا من خلالها الحياة السياسية في ممارسة الحكام والعلاقات التي تنظمهم، فقالوا: “مثل السلطان كالدار والوزير بابها”، فمن أتى ‌الدار من بابها ولج، ومن أتاها من غير بابها انزعج[5]. وتم التطرق أيضا للحياة الاجتماعية من خلال سلوك العوام والأفراد العاديين في المجتمع، فقيل عن رب الأسرة وصاحب البيت:

إذا كان ربُّ ‌الدارِ بالطبلِ ضارباً            فلا تَلُمِ الصِّبيان فيها على الرقص[6]

وتحدثوا عن السلوكات اليومية من أكل ولباس بالقول: “كل ما تشتهيه نفسك والبس ما تشتهيه الناس”[7]. وربطوها بالقيم العليا فعرضوها على الأفضال الإلهية، ليقال: “اللباس عنوان نعمة الله عند صاحبه”[8].

وكانت هذه السلوكات اليومية الحياتية مدخلا لحقيقة صاحبها، وعتبة إليه، فقد قيل لبعض الحكماء: بم يعرف عقل الرجل إن كان غائبا؟ فقال: بإحدى ثلاث: إما برسوله، وإما بكتابه، وإما بهديته؛ فإن رَسوله قائم مَقام نفسه، وكِتابه يصف نطق لسانه، وهَدِيته ‌عنوان هِمّته. فَبِقَدْر ما يكونُ فيها من نَقْصٍ، يُحكَم به على صاحبِها[9].

ولم تسلم الملامح الجسمية وسحنات الوجه مِن أن تكون عتبات ومداخل، موصلة إلى حقيقة الفرد، فكانوا يقولون عظم الجبين يدل على البله، وعرضه يدل على قلة العقل، وصِغره يدل على لطف الحركة. وإذا وقع الحاجب على العين دل على الحسد. والعين المتوسطة في حجمها دليل الفطنة، وحسن الخلق والمروءة، والتي يطول تحديقها يدل على السمع. والأذن الكبيرة المنتصبة تدل على حمقٍ وهذيان[10]. وخصصوا بعض الملامح لتدل على مكنون النفس، فقيل: “عين المرء ‌عنوان قلبه”[11].  وقريب منه ما يقال:

أَلا إنّ عينَ الْمَرْءِ ‌عُنوانُ قلبِه                تُخَبِّر عَن أسْرارهِ شَاءَ أمْ أَبَى[12]

وكان الارتقاء من الحياة العادية والسلوكات اليومية والفردية، والملامح الجسمية، لتتم فلسفتها في مجال القيم والمبادئ الأخلاقية والمثل، نبيلة كانت أم خسيسة، لتكون عنوانا على من يحملها، ويتسم بها، فتغنوا بقيمتي العدل والظلم بالقول:

فَلمْ أرَ مثلَ العدلِ للمرءِ رافعاً                ولمْ أرَ مثلَ الظلمِ للمرءِ واضِعا[13]

وعن قيمة الحب قال شيخ خراساني لسليمان بن عمرو ومن معه: “اِعشقوا، فإن العشق يُطْلق اللسان، ويفتح جِبِلَّة البَليد والبخيل، ويَبْعث على التَّلَطُّف، وتَحْسين ‌اللباس، وتَطْييب المَطْعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشريف الهِمَّة”[14].

ومنه ما قاله الشاعر عن قيمتي العلم والجهل[15]:

العِلْمُ يَنْهضُ بالخِسِّيسِ إلى العُلا             والجَهْلُ يقْعُدَ بالفتى المَنْسُوبِ

ومثلما رأينا قبل قليل القرن بين السلوك الفردي والحياة الفكرية (بم يعرف عقل الرجل إن كان غائبا؟ فقال: بـ… كتابه يصف نطق لسانه،)، كان هناك على الدوام قرن مباشر بينهما، وإيمان واضح بالترابط المكين بين مكنون النفس والحياة العقلية، فقيل مثلا:

ضمائر قلب الْمَرْء تبدو بِوَجْهِهِ             ويخبر ‌عنوان الْكتاب بِمَا فِيهِ[16]

وهكذا عكست الحياة الجماعية والفردية العتبات الموصلة إلى القيم عموما والفكرية منها على وجه الخصوص، فاستخرجوا فلسفتها الذوقية، ليصبوها على النص الأدبي، على اختلاف أنواعه وأجناسه، فقالوا: يُعرف الكتاب من عنوانه؛ ولنضيق قليلا، فنقول: تُعرف القصيدة من عنوانها.

 

آخر العتبات أو العتبة المخرج:

وبالقدر الذي منحوا اهتمامهم لمداخل النصوص، بالقدر نفسه أغفلوا مخارجها، وكأنهم أسقطوها من دائرة اهتمامهم، لأنها لا تفيدهم شيئا. والحقيقة أنها تقول لهم أشياء كثيرة، ولكنهم هم من لا يسمعون، وتوحي لهم بإيحاءات جميلة وعميقة، ولكنهم هم من لا يعون.  وعلى هذا يتوجب أن نعمق النظرة لعتابات المخارج، اذ هي مرسى المؤلِّف، شاعرا كان أم ناثرا، ومنتهى المصنِّف، وآخر ما يلقفه القارئ من العمل، وعنده يكون توديعه له، وعليه يكون افتراقهما. ففي عتبة المَخْرج يستجمع المؤلِّف قواه، ويكثف رؤاه، ويركز نظره، ويعمق فلسفته، فيحاول صوغ الخلاصه. إنها المساحة التي يرسم عليها الشاعر تواقيعه الختمية، وحيثما يلقي نظرته الأخيرة على ديوانه، والتي يريد للقارئ أن يلتقطها بكل ما أوتي من حس يقظ، وحاسة نبيهة، وإحساس لطيف. إنها الساحة الأخيرة، التي يصر على أن يرخي لخيول الشعر العنان، فتُخرج آخر لهاثها من أعماق رئاتها. إنها حيثما يصر الشاعر على أن يقول كلمته الأخيرة. إنها مرسى الكتابة، حيث يرسو ديوانه – المركب، ويقف شامخا قلمه – الساري، وقد آذن لبحارته بالتسريح، ليحكي كل عن مسار الرحلة بما  يشتهي ويرغب،  ويقدمه بالطريقة التي يهوى ويحب.

إن العتبة الاخيرة من الديوان تستدعي الكثير من التوقف، وإطالة الوقفة، حيثما يأبى الشاعر إلا أن يلقى نفاثة أخيرة، بقيت في نفسه، فهو لا يريد لديوانه أن يغادر يديه، ويضعه بين يدي غيره – قارئه ومتصفحه أو حتى عابث به – قبل أن يلقي كلمة في أذنه، لتقلب عبث العابث اللاهي المستخف جدا، وتغير من استخفافه، أو لتزيد من جدية الجاد المجد الحريص المتمسك، فتجعل جديته رصانة.

لا ادري وانا أستعرض العتبة الأخيرة من كل ديوان هل أشبهها بالوردة، تُلقى على النعش، وهو ينزلق الى قعر الرمس، أم أشبهها بالقُبلة توضع على رأس الوليد، أو جبهته، أو وجنته؟! وهناك ملامح مشابهة، وملامح مخالفة، بين المشبهين به. ففي الوردة، وفي القُبلة، التي تُختلس في لحظة، تحمل من كثافه الوجازة، وثقل الدلالة، في النعش من الحزن أو الفرح، وفي الوليد من الحزن أو الفرح؛ وحتى ملامح المخالفة يمكن أن تنزاح نحو المشابهه بين المشبهين به، فتستدعي ما في النعش من حزن أو فرح: من حزن على الفقذ والفراق، ومن فرح بالتخليص من الحياة وشرورها وعنائها وسوء أهلها؛ وما في الوليد من حزن أو فرح أيضا: من حزن على الخروج الى عالم العناء والشقاء والمجاهدة، ومن فرح بزيادة في النسل وتحميل الرجاء والأماني.

ان كل مقبل على العتبة الأخيرة من أي ديوان يجب أن يحملها هذا الذي عُرض، فإن لم تستجب له، فلا يعتقدن أنه مما فُرض، ولكن هي الرؤية لم تُنجز عند القارئ، وربما عند الشاعر، أو هي حصافة القراءة، لم تصل الى ما يراد لها، من التعمق والكشف والاختزال والقدرة على القبض على جوهر الديوان، وعلى ضوئها يمكن أن تُعاد قراءته، فهي دعوة ومُحفِّز لذلك.

وعموما فان عتبات ظاهر الغلاف لونان:

1ـ الاقتطاع من صلب النص: وقد يعمد المؤلف أو الناشر الى جزء من نص الديوان، بشكل مُفكَّر فيه، بعمق أو بتسرع وتسطيح، وربما بشكل اعتباطي، فيُلصَق على ظهر الغلاف، لعله يعطي صورة مركَّزة عن محتوى الديوان، ويُرغِّب في قراءته. وبقدر التفكير في الاختيار، بقدر ما ينجح الهدف أو يفشل، ويدخل هذا اللون في باب الاختيارات الشعرية، والمفترض أن يقوم به الشاعر، ولكن الاعتقاد في نسبته إليه وحده فيه تجن كثير.

2ـ الكتابة من خارج الديوان: وفيها صورتان، وتنحى منحيين:

أ – كتابة مختلفة الموضوع: وتتخذ أشكالا، كأن تكون ترجمة للمؤلِّف، أو لائحة أعماله، أو مقطع من كتابة نقدية حوله، عامة أو خاصة، وهي تحاول ان توهم بأنها مخصصة لظهر الغلاف. وقد يكون الأمر حقيقيا، وفي غالب الأحيان ليس كذلك.

ب – كتابه متشابهة الموضوع مخصصة لظهر الغلاف: وتكون إما عبارة عن خلاصة تعريفية بالمحتوى، وإما عبارة عن كتابة خاصة متقاطعة مع الموضوع بقواسم مشتركة كثيرة، خاصة بظهر الغلاف، وهذا نادر. ويمكن أن يكون التشابه بين النصين – الداخلي والخارجي، والأصلي والمكتوب عليه – كليا أو جزئيا. ففي حال التشابه الكلي، تكون الكتابة موازية محاذية للنص الأصلي؛ وفي حال التشابه الجزئي، يكون جزء من الكتابة موازيا، وجزء آخر منفلتا عاصيا، يؤمن بحقه في الاختلاف، ويتشبت به، ويعكس إدراكه القوي والعميق بأنه لا زالت هناك مسارب أخرى للنص الأصلي، لم تُطرق، وهذه واحدة منها. كما أنه يعبر بوضوح بأنه لا يريد أن يكون مجرد ناسخ مستنسِخ.

 

أغنية لعبور النهر مرتين والعتبة الأخيرة:

على بساط ظهر الغلاف الأحمر الداكن، يضاهي حمرة ضفاف نهر إفريقي، يتخضب بعنفوانه وتوثبه، رُسمت سطور العتبة الأخيرة ببياض قاشع، وخط يدوي واثق من قدراته بسرعة وضعه، وإحكام آخر لفاته، ووضع نقاطه، ورسم علامات إعرابه. إنه إحكام كتابي، يعكس الدقة والقدرة على الضبط، والإمساك عن الانفلات، ومنع كل انزلاق.

 

 

ولقد كان نص العتبة الأخيرة قادرا على أن يرسم ملامح تميزه، بل وقادرا على رصف عناصر تشكل العتبة الأخيرة، واللفت إلى جوانب اعتبارها، فجعلها تتميز بعدة مميزات، يمكن حصرها في ست:

أولا تميزت بشكلها الخارجي: بحيث اتخذت لها بناء هندسيا خاصا، استفاد مما يمنحه له الشعر الحديث من غنى الصور الخارجية للنصوص، وقدرتها على التميز، وتفادي تكرار بعضها عند الشاعر الواحد، وعند غيره. وزاد من جماليه الشكل الهندسي اعتماد الكتابة السطرية، بما تبيحه من تفاوت حجم الأسطر، واختلاف مواقعها، وتدرج الثلاثة الأخيرة منها في الحجم نحو الصغر، مما أعطى صوره ختمية موحية بالانتهاء والخلوص باعتماد الشكل الهندسي.

ثانيا تميزت بافتقادها للعنوان: وتجردها منه، وتنكرها له، وتنصلها منه، وتبرئها منه، لدرجة تجعل القارى يتساءل: أهي كتابة في غنى عن العنوان؟ أم أنها رافضة لما يترأسها، فهي تعد نفسها رأسا، وإن كانت في موقع الذيل؟ ألا يمكن أن يصبح الذيل رأسا في حالة القلب، والأخير عنوانا في إعادة القراءة، والتي طالبت بها هذه العتبة (أن تعيد قراءة أغنيتي)؟ هل تعتبر نفسها عنوانا؟ أيمكن ان نتحدث هنا عن العنوان النص، وعن النص العنوان؟ وبالتالي عن نص بعنوانين: عنوان ينطلق منه، وعنوان ينتهى إليه. وحينما يُشعِرك بخاصيته العنوانية، يطالبك بالانطلاق منه لإعادة القراءة، فيصبح هذا الذي انتهي اليه نقطة انطلاق، وذلك الذي انطلق منه في القراءة الأولى ينتهى إليه في إعادة القراءة. إنها ميزة تضع إعادة القراءة بوابة من بواباتها، وتجعل العتبتين: عتبة المدخل والمخرج راسمتا حدي هذه الإعادة، مع استبدال لمواقع البداية والنهاية، الانطلاق والغاية، قالبة للمفاهيم، معيدة للوزن والتقييم.

ولا تفوتنا الإشارة إلى أن معجم العتبة الأخيرة ودلالتها تتقاطع مع معجم ودلالات العتبة الأولى – عنوان الديوان: أغنية لعبور النهر مرتين – يدل ذلك على التواشج والتعالق بين النصين والموقفين والموقعين والوظيفتين والمهمتين والغايتين، وإمكانية تبادل الأدوار، والتناوب على المواقف والمواقع.

ثالثا تميزت بتركيبها: الذي بنى إيقاعه على نغمية التكرار، الذي استطاع أن يجعله عوضا عن الإيقاع العروضي، الذي تخلى عنه، بعدما التزم به طوال الديوان – متفاعلن – وليكون التخلي قاسما مشتركا مع عنوان الديوان، غير أن الشاعر أبان عن براعة إيقاعية تكرارية، فاستغل إمكانات التكرار الإيقاعية، إلى أبعد مدى، وابتعث مختلف تلويناته النغمية، والتي انحصرت في:

ـ التكرار التام: بما يوفره من تكرار معجمي وتركيبي ودلالي، وإلى حد بعيد، من خلال البيتين الأول والثاني: القراءات حرة.. القراءات حرة.

ـ التكرار التركيبي: بما يوفره من تكرار لبناء العبارة بصورة تركيبية، توحد أكثر من عبارة وإيقاع صوتي – إعرابي – موحد، وبتكرار معجمي، يشمل ثلثي العبارة، وتغيير في مواقع الكلمات، يخلق انسيابا صوتيا ودلاليا، بجمالية لا تقاوَم، تقلب النزول في العبارة الأولى إلى تصاعد في الثانية، والنهاية في الأولى إلى بداية في الثانية. وقد تحقق ذلك في البيتين الأخيرين، السادس والسابع: نجمة في مدى ومدى في مجرة.

ـ التكرار الافتتاحي: من خلال البيت الأول والثاني (القراءات حرة..  القراءات حرة)، بجعله بوابة النص الافتتاحي ومنطلقه، ولفت نظر القارئ إليه، لاعتماده مفتاحا من مفاتيح القراءة الدلالية والإيقاعية والبلاغية.

ـ التكرار الاختتامي: بجعله مصب النص العتبي والإصرار على وضعه بين كماشتيه الحاضنتين، للإشعار بأن كل ما يتولد عنه يجب أن يبقى مؤطرا ووفيا لهذه الخاصية، ويتمدد ذلك على مستوى الدلالة، وعلى مستوى البعدين البلاغي والجمالي، مع استحضار البعد الضدي للتكرار، الذي ارتضاه النص خاصية للعتبة الأخيرة، إلا أنه لا ينبغي أن يتجاوزها، ليعمم على ما يربط النص العتبي بالنص الاصلي.

ـ القرن بين التكرارين الافتتاحي والاختتامي: على تنوع لونيهما، واختلاف دلالتهما، إلا أنهما يحضنان العتبة، ويرسمان المنطلق (القراءة – الفعل – تحقيق الوجود)، والغاية (الهدف من القراءة – القيمة – الوجود المطلق).

ـ القرن بين تكرار العتبة المخرج والعتبة المدخل: ذلك أن معجم العتبة الأولى المدخلية، متمثلة في عنوان النص “أغنية لعبور النهر مرتين”، وخاصة أوله وآخره، فاتحه وخاتمه، يحضر في العتبة الأخيرة المخرجية، وبشكل لافت بتكراره (أغنيتي × 2 ـ الأغاني ـ مرتين)، ومواقعه من السطور (لفظة “مرتين” في آخر السطر الخامس)، وترابطه داخلها (أن تُعيد قراءة أغنيتي مرتين). مما يستحضر ذلك الإصرار على الترابط الوشيج بين العتبيتين، وأول المُنْجز وآخره.

إن استخدام الشاعر محمد عبد الباري لهذه التلوينات من التكرار، وبهذا الزخم التوظيفي، وبما شحنه بهما من ملامح جمالية وأبعاد شعرية، يتوجب على الدارس أن يكشف عنها وأن يبرزها، مما يسمح  للدرس النقدي بالوقوف على تقنيات التكرار وأوجهه، وقدرة الشاعر الإبداعية على ابتكارها، واختيار مواقع تنزيلها، وفتح آفاقها الممكنة، التي تؤسس للدرس النقدي والبلاغي واللغوي.

رابعا تميزت بمعجمها: الذي حُكم بخاصيتين:

ـ خاصية التقاطع: مع عنوان الديوان (أغنية لعبور النهر مرتين)، فاستحضر منه أوله وآخره، إذ تكررت كلمة أغنية ثلاث مرات في العتبة المخرج (أغنيتي× 2 – الأغاني) ووردت لفظة “مرتين” في نهاية سطر، مثلما أُنهي بها العنوان، بل ومحشورة مع فاتحة العنوان (أغنيتي… مرتين)، مما يعمق التواشج والتعالق الوثيق مع العنوان، والاتصاف بصفاته.

ـ خاصية التكرار: بحيث غلب على معجم هذه العتبة التكرار اللافت، والذي كان محكوما بنسق الثنائية، التي حكمت التعداد الرقمي الوحيد الوارد في العنوان، وفي عتبة المخرج (مرتين)، فكانت السقف الذي يرسمه لكل تكرار حرفي، إما بالعدد (القراءات حرة – أغنيتي – مدى – في)، وإما بالدلالة (أن تعيد قراءة)، فإعادة القراءة هي القراءة مرتين.

ومن هنا يتضح أن هذه العتبة، حُكمت بمحكمين أساسيين: هما التكرار والتقاطع مع العنوان. وقد ثبت ذلك في خاصية سابقة.

خامسا تميزت بتلويناتها الصرفية: من المسلم به أن اللغة العربية هي من اللغات النادرة المتميزة في صرفها باستحضار المثنى إلى جانب المفرد والجمع، وتميزها هذا الذي قد يبدو سطحيا، له امتدادات جذرية وعميقة على مستوى البنى الفكرية والوجدانية، ولكن قبل الخوض في هذا، لندعُ أنفسنا قصد الخوض في حضور التلوينات الصرفية في العتبة المخرج، فقد كان حضور جميع التلوينات الصرفية، إن لم يكن بالمرة فبالمرات، ومنها:

ـ المفرد: الذي حضر بواسطة المفردات التالية: أغنيتي ×2 – مدى × 2 – صاحبي – قراءة – نجمة – مجرة؛

ـ المثنى: من خلال لفظة وحيدة: مرتين؛

ـ الجمع: وكان له تواجد باللفظتين: القراءات × 2 – الاغاني.

ويمكن لهذا الحضور المتلون بجميع ألوان الصرف، أن يكشف عن خاصية في العتبة، تصب في حضور المتعدد في الواحد، وحضور الواحد في المتعدد، معبرا عن مظاهر الكون (النجم)، وعن الوجود والكون (المجرة)، وعن المطلق (حرة) وعن عمق النظرة (البعيدة)، وامتداد التصور (المدى). وهي بكل هذا ترسم الثابت والمتغير، والجوهر والمظهر. ويبدو من خلال هذا التنويع الصرفي، الذي شمل مختلف تلويناته: مفردا ومثنى وجمعا، أن المفرد في هذه العتبة، يمتاح من الجمع ()، والجمع أساسه الواحد، إذ عليه يتأسس ويُبنى، بما تطلبه عملية التجميع والبناء والتراكم والترتيب من صبر وقوة، وحسن تنبه، وحس يقظ.

بين المفرد والجمع تلتبس الخطوات، فلا يمكن حصرها، ما دام المفرد أساسا وانطلاقا يفضي إلى الجمع، والجمع لزاما ويتأسس على المفرد، وكل خطوة بعد المفرد تسقط في المثنى، وقبل كل جمع يكون المثنى، على الحقيقة والوجود، أو كان المثنى، على التذكر وباعتبار الزمن.

بين المفرد والجمع تلتبس الخطوات، فما قد يبدو مفردا واحدا (قراءة)، موهما بوحدته، فإنه يحمل في طياته صفة التعدد، ويضمر في أولى خطواته الانطلاق نحو التعدد. وتكمن في نواته القدرة على الانشطار، وقابلية الازدواج (أن تعيد القراءة)، فتَحَوُّل المفرد الى مثنى (مرتين)، فتح لرجال الجمع، وتمهيد نحوه (أغنيتي – أن تعيد قراءة أغنيتي مرتين- الأغاني ) (قراءة – أن تعيد قراءة أغنيتي مرتين – القراءات).

ومن هذا تتشكل عناصر مثلث صرفي مرجعي على صورة:

مفرد

 

 

مثنى                                   جمع

 

وتبدأ بنية سداسية في التشكل، أساسها الاعلى المرجعي المثلث الصرفي، وأساسها الأدنى العملي الواقعي ما يحضر في العتبة من ألفاظ بالصيغ الصرفية المختلفة.

مفرد

 

مثنى                                  جمع

 

مرتين                                 القراءات

 

القراءة

 

 

 

 

 

 

 

 

ومن خلال هذا المسدس الصرفي، يمكن أن نعرض باقي مكونات النص الصرفية على صورة:

أعـيــــــد   قـــــــــراءة
أعـيـــــــد    قـــــــــــراءة

القراءة

 

مرتين                                 القراءات

 

مرتين                                 الأغـــاني

 

أغنيتي

لينحصر الجانب النظري في المثلث الأعلى بما يحمله من تنظير القراءة، وتقعيد لضوابطها، وحصر لكمها، وتأطير لتعددها، وتنويع لمخرجاتها وغاياتها. وفي مقابله يتمدد المثلث العملي في الأدنى، بما يعنيه من إجراء تطبيقي، وتمثيل عملي، يبرهن على صحة النظرية ومصداقيتها.  ومن خلال كل هذا يمكن أن نبدأ في ترسم ملامح سيميائيات الخلية بأركانها الستة، التي تحكم ميزاننا الصرفي، وتصوراتنا النقدية، النظرية منها والعملية، لكي نغوص خلفه حتى نبني مرجعياتنا الفكرية المطلقة، المنبنية على أسسنا العقدية، وما انبثق عنها من محددات منهجية، تحكم كل مجالات فكرنا ومواضيعه، وتوجه كل ترسماته واتجاهاته.

وإذا كان لا اختلاف حول مصدر الملة (الواحد الأحد الفرد الصمد)، فإن المثنى في المرجعية الإسلامية ينبني على مصدري الوحي والتشريع (الله ورسوله)، والجمع ينبني على الأمة المتلقية لهذه الرسالة (الرسول وصحابته – أهل السنة والجماعة).

مصدر الوحي

 

حامل الوحي = رسول الله                         محمول إليه =   مرسَل إليه

 

 

الله والـرســــــــــــــول                       الرسول والصحابة = الأمة

 

 

الله

 

سادسا تميزت ببيتها النشاز: ذلك الذي يتوسط نص العتبة، فيتربع على البيت الرابع من السبعة، ويحتل موقع الواسطة من العقد، ليلفت إليه الأنظار، وتحط عنده النظرات، مفوقة أو مسفلة، مصعدة أو مهبطة. وهو نشاز لا بموقعه فحسب، وإنما بأمور أخرى، يمكن حصرها في خاصية الفعلية، إذ هو السطر الفعلي الوحيد ضمن أسطر العتبة، بما تعنيه الفعلية الوحيدة المحاطة من كلا الجانبين بركام اسمي، يلفها من فوق ومن تحت، ويكاد يخنق أنفاسها، إلا أن خاصيتها الحركية، وإصرارها على التغيير، قد تجعل منها نواة تفجيرية، تنسف كل ما يحيط بها، ويمكن حصرها أيضا في بنائيتها التركيبية، الجامعة بين طرفيها (أرجوك – يا صاحبي)، بشقيها الفعلي والاسمي، الخبري والإنشائي. ويمكن حصرها ثالثافي خاصيتها المعجمية، التي تقطع على أي تشابه، سواء أكان داخليا مع معجم العتبة، أو خارجيا مع معجم العنوان الذي تتقاطع معه العتبة، ويمكن حصرها في بنية الميزان، التي رُسمت عليها، وتوسط أداة الندائ (يا) مسمارا بين كفتيه، تحمل إحداهما المتكلم مع المخاطب (أرجوكَ)، وتقابلها الأخرى مقابلة عكسية، بما تحمله من المخاطب مع المتكلم (صاحبي)، وبما تحمله من إصرار على حضور المتكلم حضورا مضمرا مع لفظ الفعل (أرجو)، والمخاطب ضميرا متصلا (كَ)؛ وفي مقابله، وبصورة تناوبية عكسية إصرار المخاطب على الحضور باللقب الاسمي (صاحب)، والمتكلم بالضمير المتصل (ي = ياء المتكلم).

أرجــــــو       كَ                   يـــــا                   صاحبِـ        ي

 

 

مع حسن اختيار أداة النداء (يا)، التي هي أداة للقريب والبعيد: القريب موقعا (كَ – صاحب)، والبعيد موضعا (أرجو – ي)؛ والبعيد موضعا، القريب موقعا من النفس (المتكلم)، والقريب موضعا، البعيد موقعا من النفس (المخاطَب). وقابلية استعمال الاداة (يا) للبعيد والقريب إنما لتخلق كسرا للمواضع والمواقع، خلخلة ثم هدما ونسفا، فتبعد القريب وتقرب البعيد.

ويمكن حصرها أيضا بما تميزت به من حمولة فكرية، تتمحور على ثلاثة أطراف، ستحكم الشعر من وجهة نظر محمد عبد الباري في هذا الديوان، وقد ترقى لغيره من دواوين الشاعر، لتغدو رؤية ثابتة، وقد تعمم على الكتابة الشعرية بالمطلق.

الكتابة محكومة بالرجاء (أرجوكَ): النابع من ذات الشاعر والموجه بكل الزخم المترقِّب، وبكل قوة التطلع، التي يحبل بهما الرجاء، فيفيضان عنها، ولا تستطيع التحكم فيهما، فيصلان إلى القارئ (المتلفي)، ويغرقانها بواقعيتها المتوقعة، والمحتمِلة الوقوع، والمرتقِبة لما قد يحصل، والمتطلِّعة لما يمكن أن يطلع، والمرتقِبة لما قد يحصل. إن الرجاء قوة كامنة في النفس، تكتسحها بقوتها، لتمتد في محيطها، وتنشر في أفقها، دون أن تستسلم للخيبة، ودون أن تجثو عند أبواب الصدمة، ولا أن تنهار عند سد الفشل. إنها رفض للتوقف وعد التحقيق، وكفر بعدم التحصيل، ورضى بالتعليق، ولو المؤقت الوجيز. وهذا أمر يحكم الشاعر، وأي معاني للكتابة، بل وللممارسة الإبداعية بمختلف مجالاتها، في جميع مساراته، وفي مختلف محطاته، وخلال جميع مراحل إنجازه.

يضع الرجاء النفس على نار اللهفة فتحرقها، ويصلبها على ثقل الانتظار فيعتصرها، وتصر في جميع الأحوال، ومهما طالت المعاناة على ألا تستسلم، وألا تركع، فتبقى متمسكة بيقينها في المستقبل، وتسبثها بالأمل، خلال رحلة الانتظار والاعتصار والاصطبار.

وأجمل ما في الرجاء أنه يتصف بالواقعية، وإلى أبعد الحدود، فهو ـ وكما يقدمه البلاغيون وعلماء المعاني والنحاة في جانب الأساليب ـ “توقع للمحبوب أو للمكروه”. والواقع يحبل بهما معا. ولذلك فإن الرجاء يؤمن بكل ما في الواقع، خيرا كان أم شرا، إيجابا كان أم سلبا، حسنا كان أم سيئا، مفرحا كان أم محزنا. وتلك حال الشاعر مع الكتابة، وحُكمه في مضمارها.

ويقف الرجاء في منطقة وسطى، يتنازعه علماء البلاغة، وتتجادبه حدود علم المعاني، فقسم منهم، كابن السبكي يأبى إلا أن يجعله خبرا، وقسم منهم يراه إنشاء، فيجعله لونا من ألوان الإنشاء الطلبي. والشعر بطبعه يخرق القواعد، ويعصى على القوانين، ويحطم الحدود، فيتصرف على هواه، ويترك للعقل ت الناقد ـ أن يُوجد تفسيرا لما يراه.

ولا يقبل الرجاء ـ وكما الشعر ـ الاستحالة، بل يتركها مجالا فسيحا للتمني، يعتنقها على هواه، بل إنه يقيم بينهما فرق حاد، يحكمه الإمكان، فإذا حصل في التمني انقلب إلى رجاء، ولا يتحقق ذلك إلا كلما كان واقعيا. وبمقابله يقف التمني على أنه حلم غير قابل للتحقيق، وطلب لما لا يُدرك، واشتهاء لما لا يُتحصَّل، وإغراق في الخيال، وخروج إلى المحال، ورغبة في المستحيل. إنه عقد للآمال على ما ترغب فيه النفس، وتطلبه، وتعلق بما تشتهيه الخاطر، وحنين إلى ما تحبه.

وجعل بعض علماء البلاغة ـ ـــ والسكاكي ـ الأمل الذي تعكسه النفس من رغائب، وما تطلبه من مشتهيات محور التمني والترجي، فإن قيس بمقياس الزمن، كان قريب التحقق؛ وإذا وُزن بمجهود الذات وشروط الموضوع، كان سهل الإدراك؛ وإذا اُختبر بمسبار العقل، كان قابلا للتحقق، بنسبة عالية من الاحتمال واعتُبر بالتالي رجاء. وأما إذا خالف ذلك، فكان بعيد التحقق، صعب المنال، أقرب إلى المحال، أُخرج من دائرة الرجاء، وعُلق في دائرة التمني. (عروس: 1/ 421). ولذلك يصر محمد عبد الباري على أن يجعل فاتحة عتبته رجاء وليس تمنيا.

لقد كان الشاعر مصرا، وفي الطرف الأول من هذا السطر (أرجوكَ)، على أن يحضر بقوة بفعل الرجاء، وأعطى لنفسه الأهمية القصوى، فاحتل المرتبة الأولى، فعلا وقائما بالفعل، فعل الرجاء (أرجو) وفاعلا (الضمير المستتر)، ومُنْزِلا من يقع عليه الفعل ـ القارئ ـ إلى المرتبة الثانية، وحاكما عليه بأن يُقصى إلى الموقع الأخير من الجملة.

 

القراءة محكومة بالصحبة (صاحبي):

بينما أصر الشاعر، وفي الطرف الثالث والأخير من هذا السطر (صاحبي)، على أن يستدعي القارئ ـ صاحب ـ ويدعم وجوده بحضوره، ويُفعِّل إبداعه بقربه، فيقدمه على نفسه باللقب الصريح، ويرضى بأن ينزل نفسه، ومن خلال ضمير المتكلم (ي)، الذي لا يعني في هذا المقام الاحتواء بقدر ما يعني الاقتراب، في المرتبة الثانية، مرتقبا فعل الصاحب ـ القارئ ـ متوقعا أثره، وكيفما كان بالسلب أو بالإيجاب.

فالصحبة مفهوم ـ والذي لم يُنتبه، وللأسف، إلى حقيقته في منظومتنا الفكريةـ بنى عليه الفكر الإسلامي أسس علاقاته، وحكم به روابط مجتمعه، وفي مختلف المجالات، ليوسع من ضيق باقي الروابط الأخرى، دموية كانت أم دينية أم لغوية أم اقتصادية أم ثقافية، وليجعله عمودا أساسا، يخترق هذه الروابط، ويحكمها. ففضلا عن أن مفهوم الصحبة كان يحكم العلاقات البشرية، ومنذ النشأة الأولى بين آدم وحواء (صاحبته)، وبينهما وبين إبليس، وبعد ذلك بين باقي الأنبياء والمرسلين وأقوامهم؛ فإن هذا المفهوم أساس بناء الدولة الإسلامية، بدءا بعلاقة الصحابة مع الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلاقة الصحابة فيما بينهم، وعلاقتهم بالخلفاء الراشدين، وعلاقتهم بالتابعين، وتابعي التابعين، وعلاقة رؤساء المذاهب بأتباعهم، وعلاقة الشيوخ، ومهما يكن مجال تخصصهم، ونوع ممارستهم، بالمتحلقين حولهم، المرتبطين بهم. ولا يخرج هذا عن علاقة المسلمين بالفكر والعلم والمذاهب والاتجاهات ومختلف التصنيفات، التي خضعوا لها، وفي مختلف المجالات.

وعلى هذا تحكم علاقة الصحبة الكتابة، وبجميع أطرافها: الثنائية ـ أي علاقة الكتابة بالشاعر، وعلاقتها بالقارئ، وعلاقتها بالناقد ـ وفوق الثنائية ـ علاقتها بالشاعر والقارئ العادي، وعلاقتهما، أي الكتابة والشاعر، بالقارئ الناقد ـ وصولا إلى العلاقات التي تستدخل أطرافا أخرى كالقناة ومنهج القراءة،  والبيئة والتاريخ والمرجعيات الثقافية…

وحينما يستعمل محمد عبد الباري هذا المفهوم فإنه يعيد ترتيب العلاقات بينه وبين الكتابة والناقد، ويرجعها إلى مجالها الصحيح، فيستعمل مفهوم الصحبة، التي تقتضي أن يكون الشاعر قبل الناقد قد صاحب نصه الإبداعي، وتتطلب من الناقد أن يكون ربما قد صاحب الشاعر قبل فرصة اللقاء حول نص معين، وإلا فإنه يتوجب مصاحبتهما دفعة واحدة خلال القراءة، بما تفترضه الصحبة من معاشرة وتقرب وإنصات، وبإمعان ونباهة ويقظة، للمصرَّح به والضمني والمسكوت عنه، وإجلاء الخفايا، وتوضيح الخبايا، وكشف المستور.

إن الصحبة في القراءة تقتضي مراعاة ما تتطلبه العلاقة من صدق بين المتصاحبين، ورفق في المعاملة، وتقدير للمجهود، وتوازن في النظرة، وتبصر في التحليل، وروية في التقويم، وإنصاف في الأحكام، وإخلاص في النصح، وتوخي المصلحة العليا في التوجيه، وتأطير الأهداف بالسعي لبناء القيم والمثل.

إن التصور الذي يؤطر محمد عبد الباري لكل من يتغنى بكتابته ـ أغنيته ـ ولكل قارئ يقبل على قراءة شعره ـ نقده ـ محكوم بالصحبة والمرافقة والعشرة بكل شروطها ومُحَكِّماتها وإكراهاتها وفضائلها.

 

العلاقه بين القراءة والكتابة مشدودة بالطلب (يا):

تقف أداة النداء (يا) شامخة بين طرفي السطر الرابع من العتبة المخرج، أي في أوسطها تماما، وقد شبهها الرسم المقدم بلسان الميزان، الذي يؤشر على قيمة الحكم بين طرفيه، وهما هنا الشاعر والقارئ، الراجي والصاحب، المخاطَب والمتكلم، المخافت والمجاهر. ويحضران معا في تضام، يجمع بينهما، وترتيب مُحكَم للعمليات، وواعٍ بعمقها، يحكمها الشاعر حين إنهاء الكتابة في توجهه للناقد (القارئ)، ويتصدرها الناقد (القارئ) حين ممارسته لعملية القراءة لما كتبه الشاعر.

ومن بين أدوات النداء العديدة المتاحة للشاعر اختار وبوعي نقدي عميق الأداة (يا)، وبحرص على استحضار جميع معاني النداء، حقيقية او مجازية، للفت الانتباه وطلب الإقبال والتطلع إلى الاستجابة والتجاوب، ورجاء والتماسا واستغاثة، وما شاءت اللغة أن تستوعبه. واختار الأداة (يا) بما تمنحه من سعة الاحتواء للمعاني العديدة، والمواقف المختلفة، فهي في نظر البعض ـ الزمخشري ـ حقيقة للبعيد، ومجازا للقريب؛ وقيل حقيقة للقريب والبعيد. وهذا رأي ابن الحاجب (الإيضاح في علوم البلاغة: 3/ 91).

والقرب والبعد يكون على وجهين: مادي ومعنوي.

فأما القرب المادي ففي القرب الجغرافي والتاريخي؛ وأما القرب المعنوي ففي العاطفي والنفسي والثقافي والروحي والعقدي. وقد كان الرجاء والصحبة، وبكل وضوح، عاملي تأسيس لهما.

بينما البعد المادي ففيه كذلك البعد الجغرافي والتاريخي، والذي لا يمكن أن يقاس بحقيق المسافة المكانية أو المسافة الزمانية. ففي الناس من تفصلك عنه عمريا عقود، وربما على المستوى الفكري والروحي أجيال وقرون، ولكنك تجده قريبا منك؛ والعكس، فمن الناس من هو ابن يومك، ولكن الفاصل بينكما لا يقاس بعلو الجبال الشاهقة، ولا بعمق البحار الغارقة. والشأن نفسه يقال في المسافة المكانية. في حين أن القرب المعنوي أيضا فيه ما هو عاطفي ونفسي وثقافي وروحي وعقدي.

ويأتي الرجاء وسيلة لتقريب الشقة، وتخفيف الفرقة، بينما تقف الصحبة عاملا من عوامل كسر الحواجز، وتحطيم الموانع، وتخطي العراقيل، فإذا الذي بينك وبينه فواصل ومسافات، كأنه الأخ الرؤوف، أو الصديق العطوف، أو جار الجنب، أو الولي الحميم.

 

وتؤسس هذه العناصر، ضمن الأطراف الثلاثة التي حكمت السطر الرابع من العتبة المدخل، لرؤية نقدية، لها مبادؤها وأطرافها، ومدخلاتها ومخرجاتها، وهي هنا من اقتراح الشاعر، ولم يتطلب منه هذا إلا عشرات الكلمات، وفي بضعة أسطر، وسيتطلب من النقاد، لو أرادوا التفصيل فيها، لا أقول عشرات الصفحات، وإنما المئات. وقد يجرنا هذا إلى طرح سؤال جوهري، ولكنه مزلزل ومخيف. أيكون الشاعر، ومن خلال شعره، ناقدا؟ أيحق للشاعر أن يفتح للناقد آفاقا، يشتغل عليها؟ هل لديه القدرات المؤهلة لذلك؟ أيمكن أن تكون فتوحاته النقدية هاته رحبة وواسعة وغنية وعميقة؟ أيمكن للنقد أن يقطع فيها مراحل ومسافات؟ وأن يحقق من خلالها كشوفات؟ هل ينعدم لدى الشاعر الحس النقدي؟

إنه جانب الشاعر – الناقد في شخصية الشاعر، ولا يمكن نكرانه، ولا استبعاده، ولا إلغاؤه، غير أن درجة هذا الحس ومستواه، وعمق إدراكه للممارسة الإبداعية، وبخلفية نقدية، يختلف من شاعر لآخر، وما النقد في أصله عموما إلا إشارات، يلقيها الشعراء، فيلتقطها حس الناقد، ويترجمها إلى لغة النقد ورؤاه ومواقفه. فمنها ما يتحول إلى أفكار، ومنها ما يتحول إلى مواقف، ومنها ما يتعمق فيتحول إلى أحكام وقواعد، ومنها ما ينضج فيتحول إلى نظريات.  ومن تلك الإشارات التي يلقيها الشعراء، فيضمنونها أشعارهم، أو بعض مواقفهم وتصريحاتهم، ما يكون عميقا قويا، يحتوي على بعض التفصيل، فتكون المساعدة المقدمة للناقد أكبر، ودرجة الإيقاظ والتنبيه أوسع وأشمل، فيعتمدها لتوسيع رؤاه، وبلورة تصوراته، ونخل مواقفه، وغربلة أحكامه.

 

عتبة ثلاثية الأطراف:

يؤكد التمعن في هذه العتبه المخرجة من ديوان محمد عبد الباري، والمكونة من سبعة أسطر/ أبيات، أنها عتبة ثلاثية الأطراف: طرف علوي، يتكون من ثلاثة أسطر أولى؛ وطرف سفلي مقابل له حجما وموقعا، يتكون من ثلاثة أسطر أخيرة؛ وطرف يتوسطهما: ويتكون من سطر واحد، به ثلاث كلمات، وثلاثة عناصر (أرجوك يا صاحبي): الشاعر المتكلم المصاحِب، والقارئ المخاطَب الصاحب، والعلاقه بينهما (يا). وسنوسع الكلام حول الطرفين الأول والأخير، بعدما خصصنا، فيما تقدم قبل قليل، الطرف الثالث، الأوسط والأخير، بما فيه الكفاية، بوقفة خاصة.

الطرف الافتتاحي:

“القراءاتُ حرَّة

القراءات حرة

ولكن بِحَق الأغاني البعيدة”

ويتكون من الأبيات الثلاثة الأولى ويرفع شعارا افتتاحيا في السطر الأول، يحكم العتبة، ويحكمه هو (القراءات حرة)، ويحكم الديوان. ويعيد تكراره في السطر الثاني للتأكيد عليه، والتسطير على أهميته. ويتكون السطران من قناعة راسخة عند الشاعر، موزعة على أهمية القراءة. فكل شعر لا يُقرأ، ويَستنفذ كل طاقات القراءة وأنواعها، فهو حري ألا يحس بأنه أدى مهمته، واستكمل وظيفته. وهكذا فللشعر في نظري محمد عبد الباري باب واحد، ومنفذ وحيد، هو القراءة، وبدونها فإنه يبقى محجرا منغلقا، لا يمكن النفاذ إليه، لا يَفْعَل، ولا يُفعَّل، ولا ينفعل، ولا يَتفاعل، ولا يُتفاعل معه. كما أن تعدد القراءات، تساعد على تقريب الشعر على أوجه كثيرة، والنظر إليه من زوايا مختلفة، وتفحصه وتمليه بأعين مخالفة.

وقد شرط محمد عبد الباري القراءات بالحرية، ولا يمكن أن نتعامل مع هذا المفهوم دون استحضار حمولته الاصطلاحية في مختلف المجالات، ودون أن ننسى كونه شعار جميع الثورات، وأحد مطالبها الرئيسية، فهل تغيب هذه الحمولة عن الشاعر، وهو يرفع هذا الشعار؟ وهل يُغيِّب خلفية هذا المطلب الثوري؟ بالطبع لا. فالشاعر يجتر تلك الحموله، ويجر معها ثورية المطلب، ويوسعهما ليتحملا خصوصية النقد، وطوباوية الشعر. فالحرية عمود أي قراءة، وحريتها في أن تكون خالصة لوجه النقد، مخلصة لما فيه خير الشعر، وأن لا تخضع لا لرغبات الناقد، ولا لخلفياته وتطلعاته، الفردية أو الجماعية، الإيديلوجية أو المؤدلجة. كما أنه يجب أن تتحرر من كل ولاء للشاعر، أو للاتجاه، أو للموضوع، أو للقضية، وأن تبتغي فوق كل ذلك قول الحق، وتَقَصُّد الحقيقة. فالحرية والحق توأمان سياميان، لا يسلم الواحد منهما إلا بسلامة الآخر، ولا يهنأ الثاني إلا بهناء الأول، ولا يستقيم أمر أحدهما إلا بسلامة ثانيهما. وليس تكرار العبارة “القراءات حرة” مرتين، إلا لأجل ترسيخ اقتران القراءة بالحرية، والنقد بالتحرر والانطلاق في فضاء الحقيقة، والتقوي بالحق. وفي السطر الثالث والأخير من هذا الطرف الافتتاحي يحدد محمد عبد الباري موضوع القراءة (الأغاني)، ويعيد الشعر إلى أصله، لأنه خلق للإنشاد (الغناء)، وارتباطه بالموسيقى، ونبعه من أعماقها، وتزينه بالإيقاع، يجعل إلقاءه نغما وتبتلا وترنما ودندنة وحذوا وهزجا وشدوا ونشدا… ولتكن الاصطلاحات المختارة للتعبير عن الظاهرة كيفما كانت، فإنها كلها تفضي إلى خاصية التغني، وطابع الغناء. وصلابة هذا الغناء نابعة من التاريخ (البعيدة)، الذي يضرب عميقا في الفطرة البشرية، وينطلق مع توحش الإنسان وبداوته، دون أن يفسده تحضره، ولا عصرنته، ولا حداثته، لأنها حق، وحق مطلق، يستوجب أن يحال إلى ما يمكن أن يُقسَم به (ولكن بحق الأغاني البعيدة).  نستعرض هذا دون أن ننسى الرابط، الذي عقدناه قبل قليل بين الحق والحرية.

ينتهي الطرف الأول من هذه العتبة دون أن يكون الشاعر قد أنهى الكلام، وأتم الدلالة، ولكنه يبقى متعلقا بالطرف الأوسط الموالي، الذي سنقف عنده، وغايتنا الآن التسطير على هذا الترابط بينهما، وتعلق هذا الطرف بما سيليه، وتعلق الذي يليه – الطرف الأوسط – بما بعده – الطرف الثالث – في تسلسل غزلي درامي:

عُلِّقتُها وعُلِّقتْ غَيْري رَجُلا                  وعُلِّق غَيْرُها ذلكَ الرَّجُلُ

 

الطرف الاختتامي:

أن تعيد قراءة أغنيتي مرتين

فأغنيتي نجمة في مدى

ومدى في مجرة

ويتكون من الأسطر/ الأبيات الثلاثة الأخيرة من العتبة، التي أسس لها الطرفان الأول الافتتاحي والأوسط (أرجوكَ يا صاحبي)، فكان هذا الطرف بناء على ما تقدم، توظيفا لما اُهتضم، سواء تعلق الأمر بتعدد القراءات، أو الأغاني، إذ أُنزل المطلق الفكري، الذي كان مداخل نقدية، تبني الحقيقة وتسيجها، بما يضمن سلامتها واستمرارها، إلى مستوى وجودي حياتي واقعي، محدد الصفة والكينونة والشخص (أن تعيد – يا صاحبي – قراءة أغنيتي مرتين). فالقراءة الواحدة مرفوضة، بل يُشترط في كل قارئ أن يعيد القراءة مرتين على الأقل، وكل قارئ – مصاحِب للنص ولصاحبه – وبلذاذة تجعله يتغنى بالأغنية، لأن مطلقها يرفض أن يُنظر إليها بغير ذلك – أغنيتي – وإعادة القراءة تفتح باب التعدد والاغتناء، حينما يُقرأ كل نص شعري من طرف كل قارئ مرتين، ولا يمكن أن نبقى محصورين عند هذا التصور الكمي الصريح، فإعادة القراءة مجازية، وهي مرتبطة بالفهم والتأويل واختلاف المنظور والموقع والزمان، وكلما طرأ متغير ما، وكيفما كان، تتوجب إعادة القراءة، مما ينتج عنه عدد لا حصر له من القراءات. وأما لفظ “المرتين”، فإنما هو مجازي، وتكنية عن رفض المرة الواحدة، وانفتاح على التعدد، بما تعنيه المرة التالية من مخالفة ومغايرة وتوسيع وتعميق في الفهم والتحليل والتأويل والتقويم والتقييم والمقارنة، والانفتاح على عوالم أخرى من داخل الشعر ومن خارجه، ومن داخل الأدب، ومن تصورات بعيدة عنه كل البعد.

وتكرار لفظة “أغنيتي” مرتين: وسط البيت الأول من الطرف الاختتامي، وفي أول البيت الثاني منه، تعمد لإبرازها وانتشالها من وسط ركام لفظ السطر، لإعطائها التصدر، والإصرار على أنها أغنية، تربطها ياء النسبة والملكية بالشاعر، وستبقى كذلك ما لم تعرض على القراءة، فإذا عُرضت عليها، أصبحت ملكا للقارئ، يقلبها على أي وجه شاء، وفي أي مقصد أراد. فتتحول الأغنية إلى نجمة، كما يتحول المغني في عالمنا المعاصر إلى نجم، له من حياته ما يخصه، ولمحبيه منها ما يخصهم، يفهمونه ويؤولونه، ويعطونه الأبعاد التي أرادوا، وإن كانت غير صحيحة، وإن كانت متناقضة، وإن كانت مجافية للحقيقة، إلا أنها تشكل في الأخير صورة النجم الذي أحبوا. والنجمة على ما يفصلها من بعد عن الناظر إليها، وغياب الإدراك الحقيقي لشكلها وحجمها، إلا أنها تبقى اِلتماعة، تشد الناظر إليها، وتمثل له الجمال، ويبدي حيالها الإعجاب. ولكنه الجمال الزئبقي، الذي لا يثبت في مكان، ولا يستمر على حال. فقد يقوى لمعانها وقد يضعف، وقد يقرب مرآها وقد يبعد، وقد تبدو وقد تختفي. فحالها حال أغنية – شعر – محمد عبد الباري، جماله زئبقي، ويحتاج إلى رصد متواصل، وتعرف عليه في أحوال مختلفة، لا يعني سوى إعادة النظر فيه حسب كل حال. وذاك في النقد معناه واحد، هو تعدد القراءات.

 

الحال التركيبية المعقِّدة للشعر:

قد رأينا النجمة في أحوالها المختلفة، وعرضها على القراءات المتنوعة في كل حال، مما يدخل نقد الشعر في سلسلة لامتناهية من الفهم والتحليل والتقويم الذائبة، ويفرع فيه ويؤصل، ويركب منه ويبسط، ويبني ويفكك، فلا يعرف لعمله حصرا، ولا يحده حد، غير أن ذلك لا يكفي الشاعر، حتى  يدخل شعره في حالة من التركيب الواسع، ويستدخل عليه عناصر أخرى كبيرة تحتويه، وتحتوي ما يحتويه، فيرى شعره “نجمة في مدى، ومدى في مجرة”.

أما حال الشعر المشبه بالنجمة، فقد عرضنا له، واما النجمة في المدى فليس إلا ذلك الفضاء الفسيح، الذي تغرق فيه النجمة، وغيرها من النجوم. فبحسب مواقعها تشكل فسيفساء فضائية ليلية، وبحسب قوة تلؤلئها تزداد تلك الفسفساء، وبسبب حركيتها لا تثبت الفسيفساء على حال. فهي دائمة التشكل، شديدة التغير، كلما أحس الناظر إليها أنه قبض على صورتها، وأدرك سحر جمالها، كلما فاجأته بتغيير حركتها، وإعادة تشكيل صورة جديدة، ليست هي تلك التي عرف، وعليها قبض، وجسدت له سحر جمال آخر، ونضدت له فضاء بهاء جديد.

ومن حال ارتباط النجمة بالمدى، والصورة المنبنية على ذلك، ينتقل بنا الشاعر إلى حال ارتباط المكان بالمجرة، فيزيد المشهد تركيبا. وعلى قدر تعدد عناصر المشهد (النجمة والمدى والمجرة)، وسعة كل مشهد، وتعدد مكوناته، يزداد التركيب، وتتداخل العناصر، ويتعقد المشهد تعقد اغتناء وبهاء.

فكان حضور النجمة في المدى كحضور الشعر في محيطه اللِّسْنِي والعِرْقي والجغرافي والتاريخي. وحضور المدى في المَجَرَّة كحضور المحيط الضيق، الإقليمي أو القومي، في المحيط الأدبي العالمي، وفي المحيط التاريخي الإنساني، وفي المحيط الثقافي والفكري البشري. وبذلك تتضح صورة أن تبدو الأغنية – القصيدة أو الديوان أو شعر الشاعر – في محيطها، الشعري والأدبي والفكري، القريب والبعيد والأبعد والشمولي.

وعلى هذا تأسس طرفا هذه العتبة الأول والأخير، الافتتاحي والاختتامي، بتعادل كمي (عدد الأسطر)، وببنية تركيبية تنتقل من المطلق الفكري والنقدي الى المحدَّد الشعري الواقعي والحياتي، الذي يعود ليصب في إغناء المطلق، والاغتناء به، والتناغم معه.

تركيب وخلاصة:

لقد كانت هذه العتبة المخرَج، التي نفثها الشاعر السوداني محمد عبد الباري القدير، نفثة خلاصة، ترص الجسر، ليُعبَر النهر مرتين: مرة أولى ليعبر الشاعر إلى القارئ، ومرة ثانية ليعبر القارئ إلى الشاعر. وبذلك تتحقق إعادة القراءة مرتين، التي طالب بها الشاعر، ووضعها شرطا من شروط قراءته، بما يلف الشرط من التزام ووفاء وصدق، وكذا من لياقة وجمام أدب، حافتهما الرجاء والصحبة.

وعبَّر الشاعر،  بعبور وتعبير، عن كل ذلك بوعيه النقدي، التلقائي والعميق، فلا أحد من القراء أو النقاد عموما، ومهما كانت درجة إعجابه بأي نص إبداعي ـ ديوانا أو قصيدة أو نصا نثريا، ومن أي ألوان النثر كان ـ ومهما كانت درجة إلزاميته في الاشتغال على النص ودراسته، يمكن أن يمنحه من وقته واهتمامه وحبه وروحه ما منحه صاحبه، المبدع له. وأقول: “صاحبه”، وأنا أستحضر قوة حضور مفهوم الصحبة، وبعمق، في تفكيرنا، حتى ولو لم نعه.

فكان تجلي كل ذلك من خلال كتابة هذه العتبة خارج نص الديوان الداخلي، ومن خلال هندستها، والاعتناء بإخراجها، والعناية برصفها، وانتقاء معجمها، والحرص على تزيينها، ورفع درجة نغميتها. وتجلى أيضا في ذلك المحتوى الرابط بين الفكري المطلق والواقعي الممارستي.

وحاول إنجاز محمد عبد الباري هذا أن يقربنا من أهمية العتبة المَخرَج، وإسهامها في توضيح رؤية الشاعر، وتوجيه إستراتيجية القراءة، على أمل ألا يتوقف النص عند صاحبه، ولا عند قارئه، أو عند القراءة السطحية العابرة له، وإنما أن يتعاونا معا، بتعاضد وتآزر، على استجلاء رؤى نقدية نابعة من أعماق النص، ومتوافقة مع فلسفة الشاعر البنائية للنص، والمُسهِمة في بناء النقد وتطويره، وفتح آفاق جديدة ورحبة أمامه.

لقد كانت هذه العتبة كثيفة ونبيهة ومنبهة، يقظة وموقظة، تؤكد على أن للشاعر أيضا دوره النقدي، بل هو فاتحة النقد وبوابته، والذي لا يجب أن يخفيه المُنجَز الإبداعي، ولا لقب الشاعر. وقدمت لنا أيضا صورة الشاعر، الذي يكتب بوعي نقدي عميق، وربما بكشف جديد ومبتَكر، يتقدم على ما يروج في الساحة النقدية، ويفتح آفاقا جديدة، إن تم التنبه لها، ومد جسور التواصل بين الشاعر والنقد، ستشكل كشفا عظيما، وفتحا كريما، على النقد والشعر والفكر.

 

[1] ـ محمد عبد الباري، من الشعراء السودانيين الشباب، مقيم حاليا بباريس، صدرت له  عدة دواوين.

[2] ـ صدر ديوان “أغنية لعبور النهر مرتين” في طبعته الأولى سنة 2022 عن دار صوفيا، الكويت.

[3] ـ عتبات seuils، صدر سنة 1987.

[4] ـ عتبات: جيرار جينيت من النص إلى المناص، عبد الحق بلعابد، منشورات الاختلاف، 2008، الجزائر.

[5] ـ المستطرف في كل فن مستظرف: 103.

[6] ـ نظم اللآل في الحكم والأمثال: 5.

[7] ـ المستطرف في كل فن مستظرف: 277.

[8] ـ جمهرة الأمثال: المثل رقم 62.

[9] ـ المستطرف في كل فن مستظرف: 20.

[10] ـ نفسه: 337.

[11] ـ نفسه.

[12] ـ السحر الحلال في الحكم والأمثال: 18.

[13] ـ نظم اللآل في الحكم والأمثال: 26.

[14] ـ المستطرف في كل فن مستظرف: 405.

[15] ـ نظم اللآل في الحكم والأمثال: 7.

[16] ـ السحر الحلال في الحكم والأمثال: 115.

عن madarate

شاهد أيضاً

الرجل الذي لا ألقاه إلا مبتسما – المختار النواري

  الرجل الذي لا ألقاه إلا مبتسما المختار النواري* يرحل الراحلون.. ويغدو الوافدون.. وتعمر مسارب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *