محمد الشحات…! إيهٍ يا أنتَ…! أما كفاك …؟ رحيل.. فغياب.. فصمت…!
[ في لحظة من يوم 02 أكتوبر 2024، غادر ضيق دنيانا إلى رحب مولانا الفقير إلى عفوه، والمحتاج لدعانا، أخونا محمد الشحات ـ غفر الله له واقتبله]
حينما نقول أن شخصا ما غادرنا، فليس معناه أنه اكتفى منا، ولا أن المكان ضاق بنا معا، فلم يعد يحتملنا، ولكن معناه أنه آثر الرحيل.. وفضل الغياب.. ولزم الصمت.
آثر الرحيل…
لأن الحب الذي يجمعنا لم يعد قادرا على تحمل عواطفنا، في رقتها وقوتها، ولينها وعذوبتها، وحنانها وحنينها؛
ولأن القلب الذي يصدر عنه ذلك الحب، فاض بالمحبة، وغرق في المودة، وعصف به الشوق، وأرداه الود؛
آثر الرحيل رأفة بنا وبه، لأن المقام لم يعد يستوعب المقال.
فيا راحلا هلا تريث في جمع رحلك؛
ويا مغادرا هلا تأخرت في حزم حقائبك؛
ويا متنقلا هلا فكرت في استبدال جوارك؛
قبل اتخاذ قرارك؛
فما أقسى علينا رحيلك؛
وها أنت زدتنا إلى بلاغة مقامك بلاغةَ رحيلك؛
وتحدثنا عن أطوار الرحلة، ولم نهيئ لها تهيئتك؛
وتَشْرَع في وجوهنا أبواب الارتحال، وليست لنا خبرتك؛
وتُرينا الوجهات مفتوحة، ولا نملك شجاعتك؛
وفي يوم من سنة ولّتْ، وما رحلتَ،
وشَمْت على جسد شبح الرحيل، الذي رجوتَ:
“الرحيل عن وطن يأكلنا”:
“وحاذرْ أن تنكسر عيونك،
وهي تراقبكَ وأنتَ تغادر
دعهم يفتخرون
بأنك مثل النخلة
إن هزوا جذعك
تساقط رطبا
فارحل حين يحين رحيلك
واتركهم حتى لا يهنوا”.
(رجفة المقامات: ج 4 ص 36
حدائق القبة 14 نوفمبر 2018)
فضَّل الغياب…
حتى لا يكون حضوره ملأ للفراغ، واستحواذا على المكان؛
ولأن الحضور بوابة للعطاء، وكما ألِفه، فقد شح اللقاء؛
وميدان للعرض بالوفرة التي اعتادها، فها قد ثقل الفرض؛
وزوايا للمعاملة بالقوة التي كانت له، فقد حان وقت أداء القرض.
فضل الغياب رحمة بنا وبه، لأن العيان ضاق بما رحُب به المكان؛
فيا غائبا هلا ترددت في اختيار نهجك؛
ويا مفرغا مكانه هلا تدبرت في قابل وجهتك؛
ويا تاركا جيرتنا هلا شاورتنا في جديد مقامك؛
فقد ألهمتنا بغيابك ما لم تلهمنا بحضورك؛
في غيابك نحضر؛
وفي قلتك نكثر؛
فتفتح أعيننا على وحش المكان، ولا نملك له امتلاءتك؛
وتعرض علينا مقاعد المتخلفين، ولا ندرك عمق حصافتك؛
ونفتح لوائح المفقودين، فننشغل بوقع فقدك عن رسالة افتقادك؛
ولقد كانت دواوينك الأخيرة مرثية للغياب:
فـ”رجل مسكون بالزرقة” يترقب الالتقاء؛
و”متى ينتهي” يتنبأ قبل الوقت بالانتهاء؛
ومن “رجفة المقامات” : أعلنت أن قد
“حان وقت الرحيل”:
سوف نَرْحلُ من غير شكٍ
فكيف يكون العزاءُ
وما عاد يُمكنُ
أن نتخير حتى الإشارةَ
قبل الوداعِ
كلنا راحلون
فلو جاءك الموتُ فاظفرْ بهِ
ولا تبتئسْ
لم يعد ممكناً
أن تراجع كل التفاصيلِ
أن تتخيَّرَ
كيف يكون الرحيلْ
(رجفة المقامات: ج 4 ص 228
حدائق القبة 31 مايو 2020)
لزم الصمت…
لأن الكلام عجز عن أن يحمل كل المعاني، التي تضج بها النفس؛
ولأن اللغة في بورصة الأجل أعلنت إفلاسها، وباعت ميراثها بثمن بخس؛
لزم الصمت رفقا بنا وبه، لأن البيان عجز عن احتواء مُعجِز اللسان؛
فيا صامتا هلا تلعثمت؛
ويا ساكتا هلا تلجلجت؛
ويا خارسا هلا تمتمت؛
فقد أبلغتنا بصمتك ما لم تبلغنا بكلامك؛
في صمتك نتكلم؛
وتقرع آذاننا بصخب الصمت؛
فلا نسمع غير الصمت؛
وتدعونا بصمتك لنسمع ما يقول، فلا ننصت لعمق الصمت؛
وبلغة الصمت تحدثنا عن تردي الأصوات ، فلا نرى الردى إلا بالصمت؛
وأنت الذي قلت لي في “المُفتتَح”، ولم تكن تعني غير يوم المنغلق:
انتهيتُ من الصمت
لم أنتبه
أن خيط الكلام تشابكَ
واختلطتْ أحرفي
ومضتْ
فرحتُ أساومها
حين فرَّت
لإلو كنت أعرف
أن الكلام سيغضب
ما لذتُ بالصمت”
(رجفة المقامات: ج 4 ص 7
بدون تاريخ)
وزدتني حين “لُذْتَ بالصمت” فأفحمتَني:
“ينتهي الصمتُ
يرفع رايتهُ
حين يعبر آخِرُ حرفٍ
من الحلقِ
أنشر حبال صوتي
على سور ليلي
لعلي أنام بلا لغةٍ
وأنفض ما خفت أن يتناثر
من أحرف الرفض
كنتُ أجفف حلقي
لكيلا يرى الصمتُ
رجفاتِ خوفي ترفرفُ في لغتي
(رجفة المقامات: ج 4 ص 263)
محمد الشحات…
إيهٍ يا أنتَ..
أما كفاك..؟!
رحيل.. فغياب.. فصمت…!!!!
ناقد من المغرب