«رثاء العلماء في الأدب المغربي الحديث» مقاربة وصفية تحليلية – عمرو گناوي
عن مطبعة دار القلم بالرباط، صدر للدكتور عمر قلعي، الأستاذ الباحث في الأدب والتراث، عمل علمي رصين، موسوم ب “رثاء العلماء في الأدب المغربي الحديث»( طبعة دار القلم. الرباط. 2023)، قدم فيه صاحبه خدمة للأدب والتراث، أسوة بمن سبقه في هذا المجال. وتكفينا الإشارة إلى عالم الأندلسيات محمد بن شريفة في كتابه : «تاريخ الأمثال والأزجال» (2006)، وعباس الجراري في كتابه :»الأدب المغربي من خلال ظواهره وقضاياه»(1979)، دون أن ننسى عالم مكناس وأديبها، محمد بن إدريس الشبيهي، الذي يعتبره المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان «المنمق الأريب، الناظم الناثر، الخطيب المصقع، إذا قال شنف الأسماع، الدرس النفاع»(دعوة الحق. 1991/285). وبالمناسبة، نحسب كتاب» رثاء العلماء في الأدب المغربي الحديث» للدكتور عمر قلعي، عملا جليلا، مثيرا للفضول النقدي، مفيدا للعلم والعلماء، ولكل من يهتم بموضوع رثاء العلماء، ودورهم في بناء الوطن وتحرير الأمة.
وقد سار الباحث في بناء كتابه على الخطوات التالية :
1- تقديم : تناول فيه أهمية الرثاء مقارنة بالأنواع الشعرية العربية الأخرى، ومدى ما يخلفه هذا الغرض من أثر على الفرد والمجتمع، مقدما نماذج من الشواعر والشعراء العرب والمغاربة من الذين اشتغلوا على هذا الغرض الشعري.
2- التعريف بفن الرثاء وأعلامه
3- الإشادة بصحيفة «السعادة»(Essaada)، أو بالأحرى صحيفة» التعاسة»، وإبراز دورها الثقافي والإعلامي والسياسي، مستحضرا مختصرا من «حيات»ها في قصيدة مادحة من البحر الكامل.
وتكمن أهمية الكتاب، فيما نرى، في المدة الزمنية المضنية التي استغرقها صاحبه في إنجاز هذا العمل العلمي الماتع والمستفيض، شمل التوثيق والتحقيق والتدقيق. وقد اعتمد الباحث في لملمة نصوصه على ما كانت تصدره جريدة» السعادة»، بين سنوات 1931-1923، من نصوص أدبية وشعرية رثائية، جادت بها قريحة شعراء وكتاب مغاربة مرموقين، في حق مجموعة من العلماء الوطنيين البررة، قبل وبعد وفاتهم. وبما أن للموت أثرا بليغا في نفوس الأقربين والأبعدين، والأصدقاء والمحبين، فقد حمل (بتشديد الميم) الشعراء قصائدهم ما تجرعوه من طعنات الموت ومخلفاتها النفسية والاجتماعية، بعد أن غادر هؤلاء العلماء الأفذاذ إلى دار البقاء، فرثوهم بحرقة نادرة، اعترافا بجميلهم وإخلاصهم في الذود عن كرامة الوطن.
وقد ارتأى الكاتب أن يسلك في بناء عمله مسلكين:
– مسلك، وقف فيه على مجموعة من أسماء العلماء البررة المرثيين.
– ومسلك، أدرج فيه ما جادت به قريحة الشعراء في رثاء وتأبين زمرة من العلماء المغاربة، أسوة بمن سبقوهم في هذا النوع من الأغراض الشعرية، معبرين إزاءهم عن مشاعر الحب والحزن والأسى، شاكرين لهم سعيهم، متأملين حقيقة الموت وفواجعها. ولأن للرثاء منزلة عظيمة في النفوس، ومخلفاتها أعظم وأقوى على التحمل، فقد سلكه هؤلاء الشعراء مركبا وعرا، فأجادوا فيه وبكوا وأبكوا، إكراما لهذه المجموعة من العلماء الخلص الأخيار.
وحول هذا الغرض الشعري بالذات، فقد تعددت أشكاله، واختلف الشعراء في معالجته، ليشمل في أغلبه رثاء الأقارب والأبناء، كما دأبت الخنساء على ذلك في رثاء أخيها صخر، وابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط، وأبي البقاء الرندي في رثائه ديار الأندلس. وإذا كان الرثاء مرتبطا بسؤال الموت ضدا على الحياة والاستمرارية، فقد أبدع المفكرون والأدباء في تنويع صياغة الموت، وأكدوا على ديمومته، وما يثيره في حياة الإنسان من أسئلة محيرة، معبرين عن مواقفهم منه. لذلك عد سؤال الموت أكثر حضورا في عالم الأحياء والأدباء والمفكرين، وحياة الناس أجمعين، ولدى العرب والمسلمين على وجه الخصوص.
وبالرغم من صعوبة تحديد الموت، وصعوبة الخوض فيه، والحديث عما قبله وما بعده، باعتباره إشكالية وجودية، فقد اختلفت حوله تصورات المخلوقات من إنس وجان ، وباتت حقيقته شأنا ربانيا وأمرا يتجاوز حدود العلم والإدراك.
يقول الحق سبحانه في شأن الموت:
«قل إن الموت الذي تفرون منه إنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون»(سورة الجمعة. آية 8)
وفي وقفة لابن عباس، الصحابي الجليل، على قبر زيد بن ثابت (ض) لحظة تشييعه، قال :»هكذا يقبض العلم، لقد دفن اليوم علم كثير»(محمد بن عبد الله الحاكم النيسابوري. المستدرك على الصحيحين). وسئل سعيد بن جبير عن علامة هلاك الناس : فأجاب على الفور :» إذا هلك علماؤهم»
ونظرا لما يحظى به العلماء في الإسلام، من مكانة قديرة وحظوة معتبرة، فقد كانوا أول من يحظى بالرثاء من غيرهم. يقول تعالى مشيدا بمكانتهم : «إنما يخشى الله من عباده العلماء»(سورة فاطر. آية 28). ويقول (ص) في حقهم :» العلماء ورثة الأنبياء»(.رواه الترمذي، وصححه الألباني). أما بالنسبة لعامة الناس، فبمجرد موت أحدهم، قريبا كان، أو عزيز، أو أبا أو أما أو أخا أو عالما، استجابة لنداء الحق سبحانه، تتعالى أصوات الحزانى والمكلومين من شدة الصدمة، وتستمر الحسرة والألم إزاء المفقودين دون توقف.
إن الاشتغال على مسألة الموت، ما فتئ يلقى اهتماما كبيرا من طرف المفكرين والأدباء والشعراء، قبل أن يتوصلوا إلى أن حكمة الله في خلقه، ألا يخطئ الموت صاحبه مهما علا شأنه، وامتد أجله.
أما حين موت العلماء، فيضحى ما حل بالناس أمرا جللا، باعتبارهم صفوتهم، وأقربهم محبة إلى الله.
يقول الشاعر زهير ابن أبي سلمى، مؤكدا على حتمية فكرة الموت المنتظر:
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
وإن يرق أسباب السماء بسلم
وفي الموضوع نفسه، عبر الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، عن موقفه من الموت قبل رحيله بأيام، قائلا :
أنا لا أحبك يا موت/لكني لا أخافك/ وأدرك ان سريرك جسمي/ وروحي لحافك/ وأدرك أني تضيق علي ضفافك.
وبما أن الموت مصاب جلل، فقد قال الكاتب في «دموع حارة»، مؤبنا العلامة عبد السلام العلوي السكوري، مبديا رأيه في منيته قائلا : «أعظم المصائب وأبلغ النكبات على الشعوب موت العلماء، الذين بهم يستنار في ظلام الجهل الحالك، والشعراء والمنشئين الذين يحفظون اللغة من الاضمحلال، وإذا خسرهم شعب فقد خسر خسرانا مبينا»(رثاء العلماء…ص249)
كل هؤلاء وغيرهم ممن فجعوا بالموت، حاولوا التخفيف من مصابهم باللجوء، تارة إلى الصبر والإيمان بالقدر، وتارة بسلوك الندبة والعويل، وفي أسوأ الحالات، يلجؤون إلى التخلص من حياتهم عن طريق الانتحار، فتنقطع صلتهم بالحياة والأحياء، ويلقون مصيرهم غير مأسوف عليهم. وبعد أن يلقوا مصيرهم، تتقاطر على الهالكين دعوات المحبين بالرحمة والمغفرة وحسن الثواب، مشيدين بمناقبهم ودماثة أخلاقهم، وأفضالهم على الناس. وهو الأمر الذي دأب عليه الشعراء في حق من رثوا من العلماء، حين عبروا على صفحات جريدة «السعادة»، «عن «مشاعر المحبة والود والإخلاص لهذه النخبة من المجتمع المغربي، وفاء لمحبتهم، واعترافا بفضلهم.»(رثاء العلماء في الأدب المغربي الحديث من خلال جريد «السعادة».(1931-1923). دار القلم الرباط. 1922.ص: 5)
ولعله نفس المرمى الذي ذهب إليه الكاتب اجليلي عبد الباسط، في كتابه: « الرثاء في الشعر المغربي الحديث. بين منتصف القرن التاسع عشر وحدود النصف الأول من القرن العشرين»، حين خصص بابا من أبواب الكتاب لرثاء العلماء والأشياخ.
وأهم من شملهم الرثاء، في كتاب «رثاء العلماء..»، أربعة وعشرون عالما. من خيرة علماء البلد وأصفيائهم، جمعوا بين الأدب والشعر والنحو والبلاغة وعلوم الدين، على الشائع في ثقافة العصر، فضلا عن خبرة التربية والتدريس في رحاب جامعة القروين . وما ميز هؤلاء العلماء، اختلافهم في الانتماء الجغرافي بين فاس (15عالما) والرباط (2عالمين) وسلا (2عالمين) وهوارة1( عالما واحدا) ومغرة (1عالم واحدا) وسكورة(1عالما واحدا).
وقد بلغت مجموع نصوص مراثيهم41 قصيدة، و16نصا نثريا، مدبجة بالإعلان عن موت العالم، ولحظات تشييعه، وعدد حضور المشيعين له ونوعهم، مختتما بتعزية أعضاء جريدة» السعادة»، قبل الانتقال لتعزية أهل الفقيد وساكنة المدينة. وتتفاوت هذه القصائد الرثائية من حيث أبياتها بين الطويلة والتوسط والقصر.
أماعن عدد الشعراء الذين تبنوا خطاب الرثاء والتأبين، فقد وصل في مجموعه واحدا وعشرين شاعرا، يتصدرهم راث مغمور، يجمع رثائه بين النثر والشعر. ويعد الشاعر أحمد سكيرج من الذين يتصدرون قائمة الشعراء، بقصيدته «دمعة كئيب في رثاء حبيب»(ص:52/53)، يليه شعراء آخرون يجمعون بين الشعر والنثر. إلا أن عدم ذكر الشاعر محمد البيضاوي ضمن الشعراء، يعد من باب الحيف في حقه، رغم حضوره ضمن شعراء صحيفة «السعادة»، ومبايعته للسلاطين : مولاي احفيظ، ومولاي يوسف، ومحمد الخامس، ورغم توليه عددا من المناصب السامية في الدولة المغربية، قبل أن يلقى ربه، ويدفن بباب اغمات بمراكش. أما النصوص الرثائية النثرية، فيتصدرها نص مغمور الصاحب، رثى فيه صاحبه الفقيد العالم محمد بن الحسني الرباطي(ص: 43/42/41، لتختتم النصوص الرثائية بنص «دموع حارة»، يبكي فيه المؤبن عبد الحفيظ بن عبد السلام العلوي. هذا وقد جاءت النصوص النثرية مختلفة، منها ما جاء عبارة عن شهادة في حق الفقيد، أو عبارة عن سيرته الذاتية. كما حدث في مرثية الفقيه العلامة محمد العبادي، للعلامة مولاي العابد الإدريسي تحت عنوان «تأبين عظيم من عظماء فاس»، ورثاء محمد الصديق بن أحمد الفاسي فقيد العلم، عبد العزيز، بواسطة تقديم نهجا لسيرته.
ويختتم مؤلف الكتاب د. عمر قلعي، بمجموعة من المصادر والمراجع المعتمدة، يتصدرها القرآن الكريم، وما تيسر من أعداد صحيفة» السعادة»، المنشورة بين 1923-و1931. ليبلغ مجموع المصادر والمراجع: 15مصدرا،و14مرجعا و28معجما، و20 ديوانا شعريا خالصا ومشروحا. أما عن عتبة الهوامش، فحدث ولا حرج، إذ فيها من الذخائر والنفائس ما يفيض عن الفائدة، وما لم يقل به باحث في هذا الباب. أليس هذا من باب حرص الكاتب الباحث على أهمية العمل المنجز، وعنايته بالتراث من إفهام القراء وإفادتهم؟
بهذا الجهد العلمي المتفرد، يكون الكاتب قد راهن على إغناء المكتبة المغربية والعربية، وأشعر الناشئة العربية بجدوى الاعتزاز بالعلم والعلماء. رحم الله العلماء والشعراء وعاش الوطن.