الإيجاز لبلوغ التدليل في النص البَصًري
قراءة في خصائص أعمال المشهد «العاشورائي» لعام 2004
الإيجاز في لغة التعبير ( الجزء الثاني )
الإيجاز في الصورة
لعل الإجابة المبكرة لاستيعاب مفهوم الإيجاز، قد وضع أسسها الرائد والأب الروحي للفلم السينمائي «ديفيد غريفث»، عندما أطلق مقولته المشهورة «بدأت السينما عندما بدأ المقص» ليختزل لنا المعنى، واضعا بذلك قواعد لما يعرف «بالمونتاج المتوازي» الذي يعتمد وسيلة تشابك مجموعة أفكار، أو علامات منفصلة، يقود اقترانها، المتلقي إلى نتيجة دلالية واحدة. وهي أبرز ما يميز خصائص جماليات الفنون البَصًرية المعاصرة بشكل عام، وظهر منها مفهوم «الكولاج» باعتماد استخدام مواد مادية، أو بَصًرية، في سطوحها لاختصار مسافة توصيل رسائلها بلا إسهاب، وبدون هدر لوقت المتلقي، عند سعيه لاحتواء المضمون وصناعة أثره. وحسب مفهوم «غريفث» فإن جمع لقطة لوجه كلب، مع لقطة لوجه صبي باك، ستكون دلالة اقترانهما كافيا لتحقيق فكرة الخوف.
التصوير «الفوتوغرافي» لم يتجاوز هذه الخاصية الجمالية، التي عمل على استثمارها الكثير من المصورين العالمين، وأصبحت من الألوان المفاهيمية في عالم التصوير المعاصر، وصار العديد منهم يوجز سردياته البصرية بقاعدة «الكولاج» عندما يذهب لدمج علامتين أو أكثر، يستخلص منها المتلقي نتيجة لفهم مقاصد النص البَصًري، والإسهام في صناعة رسائله، دون إسهاب في تأويلاته. وهو ما وجدناه في أغلب خصائص نتاج مصورنا في موسم عاشوراء هذا العام. سنختار بهذا الجزء عدداً من أعمال المصورين الذين استثمروا هذا الخاصية الجمالية في أعمالهم.
الإيجاز بالعلامات البَصًرية
المصور «حكمت العياشي» قدم في إحدى مرئياته المؤثرة هذا العام رؤية ثلاثية الأبعاد ليوجز بها كل عناوين متطلبات المشهد «العاشورائي» فعمل على إنشاء تكوين بَصًري من مستوى زاوية منخفضة Low shot ضمت ثلاث علامات اختزل فيها مضمون «مرئيته» ثبت في جزئها العلوي طائرة عسكرية، محلقة وسط زرقة سماء صافية، وحتى يبدد حيرة المتلقي عن أسباب القيام بهذا الجهد العسكري، وبيان بيئته المكانية، سكن «العياشي» في وسط القاعدة الذهبية لمرئيته راية حملت عبارة (يا حسين الشهيد) لتؤشر بجلاء عن رسالة هذا الواجب ومكانها. ثم ختم نهاية «مرئيته» بالتركيز على ثالث علاماته، والمتمثلة ببقعة ضوئية ظهر فيها أحد المعزين، وهو يرفع كفيه مبتهلا بالدعاء، ليوجز «العياشي» فيه نوع الجمهور الذي سعى هذا الجهد لحمايته. وحتى يشعرنا بالهوية الحسية لمرئيته عمد على استثمار حدوث «السلويت» عند مواجهة عدسته للسماء، تاركا بيئته المكانية يجتاحها سواد الحزن «العاشورائي».
الإيجاز بالمعادل اللوني
«العياشي» لم يكتف بتقديم مرئيته الثلاثية ليختزل فيها تفاصيل رسالة عاشوراء، بل ذهب يعززها بتقديم مرئيتين، أستثمر فيهما طريقة الإيجاز بالمعادل اللوني، لتعميق دلالة نصوصه البَصًرية. أنشأ في إحداها فضاء اجتاحته حلكة سوداء، إشارة إلى ألم فاجعة الواقعة المفتوح الأفق، ومرر في أحد أركانه رجلاً مسناً، اتسمت تعابير وجهه بالأسى، وهو يرفع راية تحمل عبارة تقطعت كلماتها، وأصبحت عصية على الفهم، وحتى يكمل ترتيب كلماتها، ويستوضح مغزاها، انتظر مروره وسط خلفية إيوان أحيط بسلسلة مصابيح حمراء، ظهرت كقطرات دم، تلتف كالشريان حول الرجل، تدليلا لهوية مْن قٌصد المسير إليه، وبذلك مكن هذا الاقتران فك شفرة العبارة التي يحمل راياتها المعزون، وهي تقول «كل دم بشرياني يهتف باسمك يا حسين».
وحتى يكمل هذا الإيجاز بنتيجة حتمية، نجح في مرئية ثانية لإعطاء قرار لمعادلته اللونية، عندما أنهى حلكة السواد المتوشح بقوس شريان الدم، وجعل قرينته مع إيوان آخر انفتح على سماء بيضاء، وهي تستقبل رايات المعزين بلهفة.
وفي «مرئية» أخرى استثمر «العياشي» فيها طريقة الإيجاز في الدلالات اللونية عندما، وظف فيها ظهور ممر ضوئي اجتاح بقعة سوداء كاشفا فيها عن وجوه مذهولة، وأيادي ضاربة على الرؤوس، وأجساد مهرولة ترفرف فوقها راية صفراء حملت عبارة «أحب الله من أحب حسينا» كنتيجة حتمية لهذا العشق الحسيني.
وفي إيجاز لوني أخر عمد «حكمت العياشي» في أحد أعماله على صناعة هالة ضوئية حمراء مزجها بطريقة إقلاب طرفيها، ليحصل على مؤشر مضخم لحجم الدماء النازفة في واقعة الطف، وترك في وسطها أجساد هائمة عمد على تشتيت معالمها، ليعبر عن معاني الذهول لهول المصيبة، وهي محاصرة بمشاعل النيران، شكلها «العياشي» من مصابيح أحد أركان البوابات ليصنع إطارا نافعا «لمرئيته» الدموية.
«العياشي»، ومن خلال مرئيات متفردة في منجزه البَصًري «العاشورائي»، استطاع هذا العام أن يقدم لغة فنية اعتمد فيها خاصية الإيجاز في المفردات البَصًرية، ليدلل عن مضامين حملت سردا معمقا استحقت التقدير.
إيجاز الكولاج البَصًري
للخروج من دائرة المسح التقليدي، شُغل بعض المصورين في هذا العام على استثمار وجود الهويات البَصًرية المنشرة في مساحة المشهد «العاشورائي» سواء اللوحات المرسومة أو الرايات المرفوعة على الجدران» ونجح قسم منهم باستثمار مضامينها، بطريقة «الكولاج» البصري، ودمجها مع أفعال بَصًرية حية، لتصبح قرينة لدلالة مضمون «مرئيته»، كما شاهدناه في أحد أبرز أعمال المصور الشاب «سجاد البيضاني» الذي ركن بعدسته أمام لوحة مرفوعة على جدار، كشف مناخها الملحمي هول المعركة الحاصلة في واقعة الطف، وظهر فيها فارس اجتاحت النبال جسده النازف، وراح يجاهد بنفسه للوقوف على سيفه.
تعامل «سجاد» مع هذا الأثر البَصًري في اللوحة بأكثر من زاوية، عندما وجد مؤشراتها تفيده لصناعة مرئية فاعلة. وأراد أن يستثمر فعلها الدرامي بطريقة «الكولاج»، فأختار زاوية ذكية انتظر فيها مرور امرأة مثكولة من هول مصيبة استشهاد «إمامها»، وجاءت مهرولة تحمل «زنبيلا» على كتفها للمشاركة في مشهد دفنه، كما تنقله المرويات المسرودة للواقعة، وحتى يعضد هذا الفعل الدرامي لقيمة ما ضاع من العبارة التي حملتها اللوحة، فعمل على ترجمها لنا بتوظف تعابير الإغاثة واللهفة في ملامحها، ويثبت جزعها بزاوية ذكية أظهرت يدها وهي تكاد تمسك فارسها المعزى! صارخة بعبارة اللوحة «حي على العزاء…حي على البكاء».
إيجاز الدلالة بالعبارة
بالسياق نفسه ظهرت مرئيات للمصور «حيدر المسلماوي» وهي تستند إلى لغة الإيجاز بالعبارة لتدليل عن المضمون «العاشورائي»، وحاول أن يبتعد فيها عن المسوحات التقليدية لتفاصيل الواقعة، فذهب لصنع قصة بَصًرية لاحق فيها نسوة معزيات، رصدهًن وهن يسرعن الخطى، وتقصد أن يظهر في خلفية سيرهًن عبارات توجز دلالة مساعيهًن. وعالج مناخات صًوره بالأسود والأبيض لزيادة شحنة الأسى. لكنه في مرئية أخرى له، ترك للمعادلة اللونية أن تكمل صيغة إيجاز دلالة العبارة، عندما توقف أمام خلفية سوداء خُط عليها بلون دامي (السلام على القتيل المظلوم) وانتظر مرور امرأة ترفع راية خضراء حملت عبارة (وا حسين…) وهي تحث خطاها راكضة، لتدلل على سيرها على نفس نهج العبارة!
الإيجاز بلغة الزوايا
لطالما أكدنا في دراسة سابقة، على أن أحجام اللقطات والزوايا ليست مجرد مقايس يستخدمها المصور لضبط كوادره فحسب، بل هي عناصر جمالية تؤثر تأثيرا كبيرا على رسم خطاب مضمون الصورة، وتعبر عن نفسية الحالة. وهو ما وظف معادلته بنجاح المصور «وضاح العمري» عندما أوجز دلالة مرئيته بزاوية فوقية Top shot حققها لنا بزاوية عين الطائر Bird ayes، ليختزل فيها خلاصة نتيجة المشهد «العاشورائي» أخبرتنا عن رجل طلب الإصلاح في أمة جده، وتٌرك وحيدا مشحطا بدمه على رمضاء كربلاء، وقدمت بلغة موجز سكن في نقطتها الذهبية، مشهد الإمام وهو مسجى شهيدا في الصحراء، ويظهر بقربه جواده. وبهذه الزاوية التي تعكس القهرية والانكسار أراد» العمري» أن يذكرنا بأحد أهم مسرودات الواقعة، وهي تعبر عن لسان صهيل الفرس قائلة «الظليمة، الظليمة عن أمة قتلت ابن بنت نبيها» ليبقى ملقى على الرمال بلا تغسل ولا تكفين، وينهب رحله، وتسبى نساؤه، ويقتل أهل بيته وأصحابه. لنحصل على مرئية قرأنا فيا سردا مطولا عن مآثر الواقعة، وتحققت بلقطة موجزة استحقت التقدير.
خلاصة موجزة
تؤشر لنا خلاصة قراءتنا لخصائص نتاج المشهد البصري «العاشورائي» لهذا العام، وجود تنامي في مستوى الثقافة البصرية لدى المصورين، سواء الشباب منهم، والمحترفون على حد سواء، وبات الكثير منهم يستشعر مسؤولياته، ويحقق رسالته المهنية كسارد بَصًري مؤثر في المشهد الثقافي، ويهتم بتحقيق ناتج نوعي على حساب الإفراط العددي. وبدأت مخرجات أعمال الكثير منهم، تتجاوز حدود التوثيقات التقليدية لتقترب من حدود التوظيفات الجمالية للغة التصوير «المرئي» وسيكون للجزء الأخير من دراستنا فصل مهم لملاحقة العديد من أعمال مصورينا الذين قدموا مرئيات استثنائية في تشكلاتها، تسحق الملاحقة…