الرئيسية / على الرف / أخبار الحمقى كتابة الجنون في محكيات خرقاء -نور الدين ضِرَار

أخبار الحمقى كتابة الجنون في محكيات خرقاء -نور الدين ضِرَار

لعله من نوافل التصور العقلي الإقرار بعدم إمكانية الكتابة عن عالم أخرَق إلا بأسلوبٍ أخرق. ذلك أن أبرز مواصفات الحكي هنا بُعدُهُ عن الكتابة النمطية بمستلزماتها النظرية المضبوطة، أو هي بشكلٍ معكوس أقربَ منها لهلوساتٍ تتضبَّبُ فيها الرؤى المشوَّشة، وتتداخلُ في سياقاتها الأزمنة المنفلتة من تقويمها المعهود، على قدر ما تتماهى فيها الوجوه المشدوهة بأطيافها اللامرئية، وتختلط الأصوات المرموزة بهمهماتها الخفيّة..
تلك هي كتابة الجنون بالجنون، حيث لا يستند تشكلها النصي بالضرورة لمرجعية محددة خارج إطارها الواقعي، ولا تخضع لزاماً في بنائها السردي أو إطارها الفكري لقاعدة معينة مؤسسة على صِنافةٍ مضبوطة أو مقتضيات صارمة، ما عدا أن تكون كتابة مطلقة على عواهنها، ليكون الخرق فيها هو خاصيّتها الجوهرية، أو بالأحرى هو قاعدتها الثابتة..
من المتعارف عليه اجتماعيا قبول الحلم مهما كان مفارقا لواقعه، مقابل ارتياب عامة الناس من الجنون كأقوى أعراض الانحراف العقلي مع أنه في واقعه مجرد انتقال بالحلم من طور المعاينة والاستيهام لطور المعايشة والاندغام. من هنا نلامس ما يدعونا لتوصيف كتاب «العروة الوثقى في أخبار الحمقى» على هذا النحو المجنون، باعتباره عملا سرديا مفكرا فيه كمحكيات خرقاء في حد ذاتها، استمدها الكاتب عبد الإله الرابحي من صميم مُعايشاتِ جمعته لفترةٍ غير وجيزة مع بعض المشرَّدين والمهمَّشين من أبناء مسقط رأسه، ليشكلَ بإعادة صياغتها هنا جزءا أساسيا من الذاكرة الجمعية المطموسة انطلاقا من الحيز الذي تشغله في سيرته الخاصة..
ولعل المثير في هذه المحكيات الخرقاء أنها بصرف النظر عن طبيعة شخوصها أو نوعية المخالطين لهم، قد لا يَسلمُ أحدٌ من المَسِّ فيها بالحمق أو الجنون، كاتبا كان أو ساردا أو قارئا، لتتكون من الجميع جوقة حالمة تُجمِعُ في النهاية على الإيمان بالجنون وحده مَعبَراً سالكا لمشارف المدينة الفاضلة بعيدا عن انعراجات كل الجغرافيات السافلة..
ومع حرصنا اليقظ على المقروئية الواعية المقرونة بالمتابعة الماتعة للفصول المثيرة في هذه المحكيات، إلا أننا لا نكاد نميز بين الكاتب المفكر والمحلل النفسي في الكثير من الوقائع والمواقف، خاصة حين نلامس في غضونها ذلك المزيج المتداخل من الصياغة السردية والتشخيصات السيكوباثية الملتبسة بحالاتها المجنونة، إلى حدٍّ يصعب معه أحيانا الفصلُ بين الكاتب الراوي وشخوصه المعتوهة من جهة، وبين تعقل الكتابة وبلاهة المشهد من جهة ثانية..
لعل الفكرة المفصلية في هذا العمل المتفرد بشغبه الخاص، كما أرتآه كاتبه عبد الإله الرابحي، تقوم على اعتبار ذروة إعمال العقل تتمثل في الانغمار الحر في مطلق الجنون بالتحرر من كوابح الوعي المتأزم وقواسم الكبت الاجتماعي المتفاقم، هذا دون الحديث عن التمثل النيسابوري في تراثنا العربي لحكمة الجنون، او المقاربات الفكرية والنفسية الحديثة التي تربط العبقرية عادة بالجنون والخروج عن المألوف.. وكلها تصورات توحي في تأويلنا لأخبار الحمقى هنا بوصف الجنون كما لو كان أول حده العقل، وبوصف العقل كما لو كان آخر حده الجنون..
ومن ثم تكون الحكمة الأثيرة التي يمكننا استخلاصها من قراءة «العروة الوثقى في أخبار الحمقى» أن في الجنون خلاصنا الأمثل من تفاهة اليومي، لأنه مزيجٌ من فيض القلب وعين العقل وعمق البصيرة، وكثير من ثبات اليقين في آخر المطاف بقزميّة الكائن وعبثيّة الحياة.. مما يجعل الجنون في بعض المقامات أقرب لحزن مزمن يتطهر المصابون به من عذاب الذات تحت وطأة فداحة العالم وتفاهة الآخرين.. ومن خلال هذا كله، أعتقد أنه صار الآن من الصعب إقناعي بدحض هذه الحكمة التي ترسخت لدي من قراءة هذه المحكيات الخرقاء، وذلك لسبب بسيط يتمثل أساسا في نفس الصعوبة التي تواجهنا في إقناع المجنون بخلاف ما يعتقد في قرارة نفسه، لأنه لا ينصت إلا لصوته الداخلي، كما تجسده هنا شخوص هذه المرويات المثيرة إقراراً بأن الجنون ليس انفلاتا مرضيا في الفكر والسلوك بقدر ما هو عصارة الحكمة الراجحة في كل موازيننا المختلة..

شاعر وكاتب من المغرب

عن madarate

شاهد أيضاً

إخبار بصدور كتاب العهد القديم: البنية والمضمون

                صدر مؤخرا عن مؤسسة “مقاربات” للباحثة المغربية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *