حينما يتأمل المستمع القصائد الشعرية التي طبعت المسار الإبداعي للفنان عموري مبارك منذ سنة 1978، أي سنة صدور أول ألبوم له خلال مساره الفني الفردي، نلاحظ أن الاختيارات الشعرية لهذا الفنان تطبعها القيم الإنسانية، من حب وخير وتضامن… هي تيمات تجسد واقعا معيشا وتسمو لترقى بذلك الواقع المرير أو تغييره. الفنان عموري مبارك، كما صرح لي بذلك خلال عدة مناسبات، لم يكن يغني إلا عما كان يخالجه من مشاعر وما يعتصره من آلام ومعاناة. فعموري غنى عن اليتم لأنه عاشه، وغنى عن الخير لأنه آمن به، وغنى لتمازيغت والهوية لأنه ناضل من أجلهما، وغنى عن الهجرة لأنه عشق وطنه حتى النخاع وتغنى بالطبيعة وحب الأرض لأنه كان مرتبطا بهما حد العشق..
كان عموري مبارك في اختياراته الشعرية دائم البحث عما سيجسد عنده تلك التيمات فوجد ضالته في أشعار عمالقة الشعر الأمازيغي من أمثال ذ. محمد مستاوي وذ. علي صدقي أزايكو والفنان علي شوهاد.. وغيرهم من الشعراء اللذين تناولوا من خلال ابداعاتهم الشعرية مواضيع كانت تجول في خواطر الفنان عموري ربما حتى قبل أن تجود بها علينا قريحة الشعراء. فعموري قبل أن يكون ملحنا أو مغنيا كان مولعا بالشعر، وخير دليل على ذلك كراساته التي تعود إلى المرحلة الدراسية الابتدائية. إن الاختيارات الشعرية لهذا الفنان كانت دائما موفقة ومدروسة الأبعاد، وبفضلها تمكنا اليوم من معرفة شعراء مغمورين كما دفعتنا هذه الاختيارات أيضا إلى جمع مادة شعرية غنية وجديرة بالدراسة والتحليل.
تميز عموري مبارك في كل تجاربه الفنية ببحثه المستمر عن الجديد الذي به يستطيع أن يغني الخزانة الفنية، فهو دائم القراءة للدواوين الشعرية الحديثة النشر ودائم البحث عن شعراء يقاسمونه الافكار ونظرته للحياة بطريقة ابداعية ومختلفة عما هو مألوف.
إن نظرة عموري للفن كانت تساير تطور العصر، وتعامله مع الموسيقى كان منفتحا على مختلف الأنماط الموسيقية في العالم، فكان بذاك دائم البحث عن التجديد في الموسيقى الأمازيغية مع حفاظه على الإيقاعات المحلية، ودائم التجديد في الأنماط الشعرية والمواضيع المستجدة. ويعتبر ألبوم ءاناروز ن سيفاو(أمل سيفاو (2015) دليلا على انفتاح هذا الفنان المتميز على جيل جديد من الشعراء وأنماط جديدة في الشعر. فكان تعامله مع الشاعر محمد واكرار تعامل مع جيل أكثر جرأة وتمردا في البناء الشعري واللغة الشعرية للقصيدة الامازيغية، فالمبدعان التقيا في نقطة واحدة ألا وهي تلك الرؤية الفلسفية للحياة. فحين كان عموري مبارك يتأمل أسباب وجوده في هذه الحياة بكل تجلياتها، كان الشاعر محمد واكرار يكتب شعرا عن نفس الرؤية فكان ان خاضا معا تجربة التأمل الفلسفي لوجوديتهما على غرار فلاسفة الوجودية من طينة الفيلسوف جون بول سارتر الذي اعتبر في محاضرة «الوجودية كإنسانية» أن الانسان يوجد في البداية، يواجه ذاته، ينطلق في العالم ثم يعزف نفسه بعد ذلك. أي ان الانسان يشرع في عملية الاحتكاك في العالم الخارجي فتبدأ صفاته بالتشكل وتتحدد صفاته ثم بعدها يبدأ في ممارسة عملية الاختيار، هذه الاختيارات التي تحدده كإنسان، ويشرع بذلك في عملية ابداع قيم انسانية فيكون الفنان هو الذات المبدعة لهذه القيم.
إن النظرة الفلسفية التي كونها الفنان عموري مبارك والشاعر محمد واكرار لوجوديتهما تؤكد لا محالة على أن تجاربهما في الحياة كان لها الفضل في تكوين شخصيتهما وما نظرتهما الفلسفية إلا دليل على وصولهما معا لدرجة الحكمة والتوازن الفكري. ويتبين لنا ذلك جليا في القصيدة المغناة «ءور داري ءور گيغ»(لست موجودا ولا لدي شيئ) وغيرها من القصائد التي اتخذها الفنان عموري مبارك مسك ختام مساره الفني قبل أن توافيه المنية، ليودع جمهوره بباقة من الاغاني التي أبدع فيها الشاعر محمد واكرار وأرَّخا معا عملا فنيا مميزا وخالدا.
ودون بعيد عن ألبوم ءاناروز ن سيفاو، لا بد وان أذكِّر ان الفنان عموري مبارك تعامل مع الشاعر محمد واكرار بعد ذلك حيث لحن له عدة قصائد أخرى لم ترى النور بعد، كقصيدة «تيسيت»(المرآة) التي كانت دائما محط اهتمام النقاد والباحثين كمؤلف (مسالك العلامات) للأستاذ رشيد أوترحوت وغيرها من الدراسات المعمقة التي تناولت هذه القصيدة بالتحليل. وتجدر الإشارة أيضا أن الفنان عموري مبارك لحن قصيدة «ءوريي د ياغ»(انا مشغول) ، لنفس الشاعر، والتي سترى النور عما قريب بحيث أبدع فيها، مرة أخرى، الشاعر والملحن معا فكانت تجربة مميزة امتزجت فيها روحي المبدعين إيمانا منهم بأفلاطونية العشق وجمالية اللغة والصورة الشعريتين.
في الأخير، يمكن أن نلخص كلامنا هذا بالقول أن الفنان عموري مبارك، بعد اكتشافه لقصائد محمد واگرار، قد قسمها إلى قسمين: قصائد لحنها و غناها في ألبومه الأخير، و مجموعها ثلاثة قصائد. وأخرى لحنها للفنانة زورا تانيرت، حيث كان الهدف من ذلك فسح المجال للشباب وتشجيعهم على البحث والاهتمام بإبداعات شعراء كبار من طينة الشاعر محمد واكرار.
فنانة من المغرب