الرئيسية / وجوه واسماء / بريد الغياب الشاعر – الحسَن الكَامَح

بريد الغياب الشاعر – الحسَن الكَامَح

بريد الغياب الشاعر الحسَن الكَامَح

 

توطئة:

صغيرتي العزيزة… ابنتي الوحيدة…

أعرف أنك لم تعودي صغيرة كما كنت تلعبين بين يدي، وقد أصبحت يافعة تتحملين المسؤولية لوحدك، وتختارين الطريق الذي يليق بك في هذه الحياة المتشعبة، وأعرف مسبقا أنك تصارعين الرياح الآتية من جهات لا علم لك بها، كما تصارعين الأفكار التي تملأ هذا الواقع المخيف، مع كثرة المعلومات والاقتراحات والحلول الصائبة والخاطئة، لكن هل لي أن أحدثك عن أمي، نعم أمي الكتاب المفتوح للجميع وعلى كل الجهات، وقصيدة تشرق من بين الثنايا التعب اليومي والمتناقضات التي تكتسح الحياة، لكن حديثي عن أمي سيكون عبارة عن وصايا من أمي إليك.

(1)

تقول لك أمي وهي خبيرة بكل ما يتعلق بلعب الحياة، وتقلباتها المفاجئة، وبكل ما ينتج عن عدم معرفة الأشياء معرفة صحيحة، معرفة مكتملة وشاملة:

“لا تتوقعي من نبتة شوكية أن تثمر يوما فاكهة مثل الإجاص أو التفاح، فمعرفة أصل الأشياء أهم من معرفة أسمائها فقط، حتى لا يفاجئك الغد بما لا تتحملين”

أعرف بنيتي أن هذه الحكمة قد تبدو لك ساذجة، كما كانت تبدو لنا حين كنا في عز الشباب، همنا أن نستمتع بالوقت، وبكل ما يحيط بنا، وحلمنا أن نغير هذا الواقع الفاسد المليء بالملذات التي تغري، وأن نجعل من هذه الأرض الجافة مترعا لنا وجنانا لا ينضب، لكن لم نكن نملك إلا أحلامنا التي ستصطدم مع صخرة الواقع، فتشتت كما تشتت الموجات في البحر فتعود في جزرها إلى مكانها المعهود.

لا تجعلي من وقتك طريقا للحلم الذي لا يتحقق، وللحلم الوردي الذي يتلون مباشرة إلى رمادي داكن، حاولي أن لا تجعلي لعمرك حاجزا لا يتنفس فيختنق، ولا تمشي في طريق إن لم تعرف بدايته ونهايته، فكري جيدا قبل أن تبدئي في الرحلة، لأن الرحلة التي من وحي الارتجال نهايتها مظلمة ونتيجتها وخيمة، هكذا ستقول لك أمي وهي في ركنيتها الآن بعدما تجاوزت الثمانين بستة سنوات من عمرها وأتعبها السقم.

 

(2)

تقول لك أمي، وهي ملكت من التجارب ما لم أمتلكه، وعاشرت الحياة كما لم أعاشرها بعد رغم أني على مركب الستين أجذف في اتجاه البحث المستمر عن الأفضل:

لا تتخذي أي قرار وأنت غاضبة أو متعصبة، لأنك بكل بساطة لن تستطيعي السيطرة على الكلمات، ولن تتحكمي في مخارج الحروف، فتكون الكلمات لا وزن لها ولا إيقاع، لأن أغلب الكلمات التي تقال في حالة الغضب والعصبية هي كلمات بلا لجام وتائهة بين اللسان ومن وحي الانفعال، الغضب والعصبية عدو الحكمة والرزانة، حاولي أن تكبحي جماح نفسك الثائرة، وإن كنت واقفة فاجلسي، وإن كنت جالسة فتمددي حتى يمر الغضب بسلام، فعصرك عصر السرعة والانفعال لأن كل ما يدور حولك لا يعرف التريث والبحث عن الوسيلة الأنفع لأي مشكل ولو كان بسيطا.

فأمي لم تكن تغضب إلا قليلا، لأنها بكل بساطة كانت ولا زالت تصبر كثيرا، ولها طاقة على التحمل تفوق طاقتنا.

 

(3)

تقول لك أمي، وهي حكيمة أهلها، فالحكمة ورثتها من جدها الذي عمر طويلا، يصالح بين ذا وذاك… ويشق طريق المحبة بين الأهل، بالتشاور والتأني، فهي تستند دوما في أقاويلها على أقاويله، لأنه مرجعها الأساسي في الحياة:

الشرف يا بنيتي ليس في الجسد فقط، كما يظن الأغلبية المطلقة في تاريخنا العربي، بل الشرف في المعاملات الإنسانية، لذلك نبينا محمد ركز في مشواره التبليغي على كلمتين لا ثالث لهما: الدين معاملة. هي حكمة الحياة، لذلك فالشرف يكون في كل شيء أو لا يكون، لذا كوني شريفة في كل شيء أو لا تكوني، وامتدي في الحياة كما تشائين توازنين بين ما تسمعين وما ترين… وبين ما تشعرين وما تفعلين… وبين ما تطمحين إليه وما هو ممكن.

وستقول لك أمي مختصرة في الكلام لأنها لا تحب الثرثرة الفاضية: كوني شريفة في حياتك وكفى.

(4)

تقول لك أمي، وهذه الحكمة لا تفارقها أبدا، وهي التي جعلتها تتغلب على كل المصاعب، وتكون محبوبة في حياتها: ابتسمي دائماً… لا لأن الابتسامة كما يقولون تطيل العمر، وتفتح أبوابا مؤصدة، بل لأن الابتسامة توقيع الأقوياء الذين يستطيعون أن يختصروا الكلام في لحظة وجيزة، والابتسامة قصيدة  لا يفهم معانيها إلا الضاربين في الحياة، وهي صانعة القبول قبل أن تتكلم وتدلي بدلوك، وتجعل ملامحك جميلة.

لذا بنيتي لا تفقدي ابتسامتك وإلا ستفقدين جمالك، فالجمال عند المرأة أول ما يوشوش عقلها، فالابتسامة عنوان جمال الروح قبل جمال الوجه.

هكذا ستقول لك أمي، وهي الخبيرة بأمور الحياة وستقول لك أشياء كثيرة أخرى، لكني سأكتفي بالوصية الأخيرة.

 

(5)

ستقول لك أمي، وهي القريبة منك مني، لأنها امرأة وتعرف أحاسيس النساء، لأننا نحن الرجال مهما حاولنا الإلمام بأمور النساء نجهل أشياء كثيرة:

لا تسخري من أحلام الآخرين، مهما كانت غريبة أو بلا معنى، فكل إنسان له أحلام خاصة حسب نفسيته، قد تتشابه لكن لكل واحد لها خصوصيتها، ولا تتنازلي عن أحلامك مهما كانت صعبة المنال أو صعبة التحقيق، أو تبدو لك غريبة، فلولا الأحلام لما تطورت الحياة بهذا الشكل السريع، الأحلام تحملنا إلى فضاء آخر لكنه قد يتحقق بالعزيمة القوية… والعمل الجاد… والثقة بالنفس، والاعتراف بالآخرين، فمن لا يعترف بالآخرين، لن يعترف بنفسه أولا… ودائما قولي: لا طعم للحياة دون أحلام مهما امتدت عمرا طويلا.

هذا جملة ما ستقول لك أمي شفاها الله وأطال عمرها، هي وصايا جيل قريب من الانقراض إلى جيل يصارع من أجل تثبيت قدميه على أرض الواقع، وفي بداية مشواره، ولا تنسي أبدا:

  • معرفة أصل الأشياء أهم من معرفة أسمائها فقط.
  • لا تتخذي أي قرار وأنت غاضبة أو متعصبة.
  • كوني شريفة في حياتك.
  • ابتسمي دائما، فالابتسامة عنوان الجمال.
  • لا طعم للحياة دون أحلام مهما امتدت-الحياة- عمرا طويلا.

 

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

بورتريه محمد منير: القابض على جمر المعاناة الحسَن الكامَح

قيل لي: من هو محمد منير…؟؟ وهذا من باب التعريف لا من باب الـتصنيف… ومن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *