الرئيسية / الأعداد / “لست شاعراً”:  استراتيجية النفي وإعادة تشكيل مفهوم الشعر عند محمد بنطلحة – عبد العزيز الخبشي

“لست شاعراً”:  استراتيجية النفي وإعادة تشكيل مفهوم الشعر عند محمد بنطلحة – عبد العزيز الخبشي

“لست شاعراً”:  استراتيجية النفي وإعادة تشكيل مفهوم الشعر عند محمد بنطلحة

عبد العزيز الخبشي*

 

تمهيد: النفي كمدخل لفهم التجربة الشعرية.

حين يعلن محمد بنطلحة “لست شاعراً”، فإنه لا يصدر مجرد تصريح متناقض مع واقعه الإبداعي، بل يمارس فعلًا تفكيكيًا يعيد من خلاله مساءلة جوهر الكتابة الشعرية. هذا الإعلان، الذي قد يبدو في ظاهره ضربًا من المفارقة، يمثل في حقيقته استراتيجية خطابية تعكس وعيًا نقديًا بالمؤسسة الشعرية، وبمفهوم الشاعر كما تكرّس عبر التاريخ.

في ضوء ذلك، يصبح هذا النفي فعلًا مزدوجًا: فهو من جهة، تفكيك للتصور التقليدي للشاعر كذات مهيمنة على اللغة والمعنى، ومن جهة أخرى، هو إعادة بناء لمفهوم الشعر بوصفه كيانًا ديناميًا، لا يستقر داخل قوالب جاهزة، بل يتشكل باستمرار في أفق اللاتحديد والانزياح الدلالي.

إن “لست شاعراً” ليست مجرد إنكار للهوية الشعرية، بقدر ما هي زعزعة لها، وإعادة تعريفها وفق رؤية ترى في الشعر فعلًا انفتاحيًا، حيث يكون الشاعر مجرد وسيط بين اللغة وإمكاناتها، لا صانعًا مطلقًا للمعنى. هذه المقولة، إذن، لا تنفصل عن سياق حداثي أوسع، يعيد النظر في مفاهيم الإبداع والتلقي والمعنى، ويؤسس لنمط من الكتابة يقوم على اللايقين والتجريب المستمر.

 

  • 1- تفكيك هوية الشاعر: من السيطرة إلى التورط في اللغة.

لطالما ارتبط مفهوم الشاعر في المخيال الأدبي بالهيمنة على اللغة، حيث يُنظر إليه باعتباره المبدع القادر على تطويع الكلمات، وصياغة المعاني وفق إرادته. لكن محمد بنطلحة يفكك هذه العلاقة التقليدية، ليجعل الشاعر في موقع التورط داخل اللغة، وليس السيطرة عليها.

في هذا السياق، نجد أن تجربة بنطلحة تنتمي إلى تيار حداثي يرى أن اللغة ليست أداة منفصلة عن ذات الكاتب، بل هي كيان مستقل، يحمل ذاكرته الخاصة، ويقاوم محاولات الشاعر للتحكم فيه. وهنا، تصبح الكتابة الشعرية فعلًا محفوفًا بالمخاطر، حيث يكون المعنى دائم الانزياح، ويظل النص مفتوحًا على احتمالات متعددة.

يظهر هذا التوتر بين الشاعر واللغة بوضوح في ديوانه “نشيد البجع”، حيث يعتمد على اقتصاد لغوي صارم، مبتعدًا عن الترهل الإنشائي أو المباشرة الدلالية. إن التكثيف هنا ليس مجرد تقنية جمالية، بل هو انعكاس لرؤية ترى في الشعر فعل تقشف لغوي، حيث تُختزل العبارات في حدها الأدنى، لتفتح المجال أمام تعددية القراءات والتأويلات.

يتواصل هذا الاشتغال في ديوانه “سدوم”، حيث تصبح القصيدة فضاءً مختبريًا، يعمل على تفكيك العلاقة التقليدية بين الشاعر والنص. لم يعد الشاعر هنا هو “المالك” المطلق لمعنى القصيدة، بل أصبح مجرد نقطة في شبكة دلالية أوسع، تظل قابلة للتشكل والانفتاح باستمرار.

  • 2- النفي كإستراتيجية تفكيكية: جاك دريدا وبنطلحة.

يمكن قراءة مقولة “لست شاعراً” داخل سياق فلسفي أوسع، يتقاطع مع الطروحات التفكيكية، خاصة مع جاك دريدا، الذي يرى أن المعنى لا يُعطى بشكل نهائي، بل يتولد باستمرار من خلال سلسلة لا متناهية من الإرجاءات والتأويلات.

في ضوء ذلك، يصبح هذا النفي الذي يعلنه بنطلحة ليس مجرد رفض للهوية الشعرية، بل هو تفكيك لها، وإعادة مساءلة لفكرة “الشاعر” كمصدر وحيد للمعنى. فالقصيدة عنده لا تُقدم كيانًا مغلقًا، بل بوصفها نصًا متحولًا، يكتب نفسه باستمرار، ويتجاوز نية كاتبه الأولى.

إن هذه الرؤية تتجلى في ديوان “بعكس الماء”، حيث تصبح القصيدة كائناً متغيراً، لا يمتلك مركزًا دلاليًا ثابتًا، بل يتحرك داخل فضاء من الاحتمالات الدلالية، التي تجعل المعنى دائم التأجيل والتبدل. وهنا، لا يكون الشاعر صانعًا للمعنى، بل مجرد محرض على انبثاقه وانزياحه المستمر.

 

  • 3- لست شاعراً” بين الحضور والغياب: إشكالية الذات في الكتابة الشعرية.

يشكل مفهوم الحضور والغياب أحد المفاتيح الأساسية لفهم تجربة بنطلحة، حيث تقوم قصيدته على خلق توتر بين الذات الشاعرة والنص، بحيث لا يعود الشاعر محورًا للكتابة، بل يغدو مجرد أثر داخلها.

في هذا السياق، نجد أن الكتابة عند بنطلحة لا تهدف إلى تأكيد حضور الشاعر، بل إلى خلق مساحة غياب، حيث يتراجع دور الذات أمام حركة اللغة نفسها. وهكذا، تصبح مقولة “لست شاعراً” بمثابة إعلان عن انسحاب واعٍ، يترك المجال للنص كي ينكتب بعيدًا عن أي سلطة خارجية.

هذا التصور يجعل من الشعر عند بنطلحة فعلًا معرفيًا أكثر منه إبداعيًا، حيث تتحول الكتابة إلى مساءلة مستمرة لحدود اللغة وإمكاناتها. إنه لا يكتب ليقدم “معنى” جاهزًا، بل ليضع القارئ أمام تجربة تأويلية مفتوحة، تجعل من كل قراءة إعادة خلق للنص.

 

  • 4- الحداثة الشعرية وإعادة تعريف القصيدة.

إن تجربة بنطلحة لا تنفصل عن المسار العام للحداثة الشعرية العربية، التي سعت إلى تفكيك البنية التقليدية للنص، والانفتاح على أنماط جديدة من الكتابة. في هذا الإطار، نجد أن مقولة “لست شاعراً” تمثل لحظة قطيعة مع التصورات الكلاسيكية للقصيدة، حيث تتحول الكتابة إلى فعل تجريبي، يعمل على زعزعة اليقينيات الجمالية والدلالية.

إن هذا التوجه يجعل من شعر بنطلحة تجربة حداثية بامتياز، حيث لا تعود القصيدة مجرد بناء لغوي محكم، بل تصبح فضاءً ديناميًا، يتحرك داخل علاقات دلالية متشابكة، لا تقدم نفسها كجوهر ثابت، بل كاحتمال دائم التحقق.

 

خاتمة: النفي كإثبات، والغياب كحضور.

يمكن القول إن مقولة “لست شاعراً” عند محمد بنطلحة لا تمثل مجرد إنكار لهويته الشعرية، بل هي إعلان عن شكل جديد من الكتابة، يرى في الشعر فعلًا لا يكتمل إلا في لحظة انفلاته، وحالة لا تتحقق إلا من خلال زعزعتها لنفسها.

إن الشاعر في هذا السياق لا يعود مجرد مبدع للنص، بل يتحول إلى نقطة عبور، حيث تذوب الذات الشاعرة داخل حركة اللغة، وتصبح القصيدة فضاءً لتعدد الأصوات، لا لصوت واحد مهيمن.

بهذا المعنى، فإن مقولة “لست شاعراً” ليست نفيًا مطلقًا، بل هي في جوهرها إثبات بصيغة أخرى: إثبات للشعر بوصفه حالة تشكل دائم، وإثبات للشاعر بوصفه كائنًا غير مستقر، يعيش داخل اللغة، يعيد تشكيلها، ويتركها تنكتب باستمرار، دون يقين، ودون نهاية.

 

كاتب من  المغرب.

عن madarate

شاهد أيضاً

كَالسِّيزِيفِ الْمَلْعونِ – عبدالله فراجي

كَالسِّيزِيفِ الْمَلْعونِ عبدالله فراجي   مِنْ دَاخِلِ قَلْبِي تُبْرِقُ سَيِّدَتِي، لِلأحْصِنَةِ المْتُعَجِّلَةِ وتُعَرْبِدُ فِي عَيْنَيَّ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *