السرقة الأدبية المعيار النقدي الكسيح د. المختار النواري
كل من يتعرض لموضوع السرقات الأدبية سيصاب بصدمتين، تنشأ عنهما خيبتان، ستجعلانه يعيد التفكير كثيرا في موضوعية النقد، الذي لطالما حاول أن يتظاهر بها، ويرفعها شعارا عريضا، ينجيه من ذاتية الالمبدعين ـ شعراء وناثرين ـ التي كثيرا ما تهموا بها، وكانت سبة عليهم، تنتقص من موضوعيتهم، وتطعن في نضج تفكيرهم.
السرقة الأدبية أهي محصورة في الشعر؟
استمر الدرس النقدي في رهن السرقة الأدبية بالشعر لقرون طوال، وظل يجرِّم بها الشعراء، ويترصد أعمالهم، فجعل السرقة حكرا عليهم، ورائجة في مجالهم، ولم يضع ولا مرة احتمال أن تقع السرقة منهم، وأن تحدث الغارة عليهم، من غزاة خارج صنفهم، أي أن يُسرق الشعراء من طرف غير الشعراء، فيكون للناثرين حظ من سرقة الشعراء، ويكون للفلاسفة مثل ذاك الحظ، ولغيرهم من رواد الفكر، فقهاء ومؤرخين ومصنفين وخطباء ومترسلين وصناع أمثال… وهكذا يبقى السؤال الغريب: لماذا كان الشعراء، كالغجر بين البشر، متهمون بالسرقة، أينما حلوا، ومهما كتبوا، وكيفما كانت ملكتهم، ودرجتهم في الإبداع، فلم يسلم منهم لا شويعر، ولا شاعر، ولا عظيم بين الشعراء؟
السرقة الأدبية أهي محصورة في داخل النص؟
تحدث الأدباء عن السرقات الأدبية، وأوجدوا لها مجالات في الشعر والنثر، وحددوا لها صورا، وحرَّزوها بحروز، تبيحها في جانب ـ بين الأدباء ـ وتحرمها في جانب آخر ـ بين النص الأدبي والنص الديني ـ وسموها تسميات مخالفة، تعدها مرة اقتباسا، وأخرى تضمينا. وتفننوا في تفريغ صورها، فنشط البلاغيون والنقاد في هذا الجانب نشاطا بارعا، وتحدثوا عن صورة، لها اصطلاحاتها ومفاهيمها وقواعدها ونماذجها منها.
كل هذا رائع وجميل، ولكن السرقة الأدبية لم تخرج من مجال، حددته لنفسها، وظلت حبيسة فيه، فكان مجالها المُفكَّر فيه والمُفضَّل هو داخل النص، وأما خارجه وبناؤه فقد ظل بعيدا عن أي تفكير، وخارج أية مناولة.
وهذا الجانب هو ما تود هذه الدراسة طرحه، إذ ستضع في دائرة التفكير النقدي إمكانية سرقة أشياء أخرى غير المحتوى الداخلي ـ لفظا ومعنى وموضوعا وصورة وصنعة بديعية ـ ليتم التطرق إلى ثلاثة ألوان من السرقة:
ـ سرقة العناوين؛
ـ سرقة منهج التأليف؛
ـ سرقة قضية التأليف.
وهي ألوان لم يسبق التعامل معها، على الأقل بهذا المنظور، ليس لأنها لم تحصل، أو لأنه لم يُنتبه إليها، أو لأنه لم تُسجل ملاحظات عليها. كل ذلك حصل، ولكن لأنها لم تُوصم بالسرقة، ولم تُدرج في خانتها، ولم تُحلل بمفاهيمها وتصوراتها، وتقوَّم من خلال مرجعياتها وخلفياتها.
فماذا عن سرقة العناوين؟
إن المتأمل في تاريخ العنونة في الثقافة العربية ـ الإسلامية سيقف على حقيقة مفادها أنه منذ فجر الثقافة تكررت عناوين بعينها، واستنسخ اللاحق السابق، وربما استنسخ المتزامنان بعضهما، فصعب تحديد الآخذ من المأخوذ منه. ولكن الأمر الأكيد أن الظاهرة ثابتة متعارفة، ومنتشرة بدرجة لا يمكن التقليل من أهميتها، ويبقى السؤال خلف دواعي ذلك، وحصر ألوانه وصروفه.
قد يكون فجر التصنيف في الثقافة العربية ـ الإسلامية داعيا إلى اكتشاف مواضيع، ومواجهة صعوبات في تصنيفها وتنعيتها، فإذا ما تحقق ذلك من طرف رائد سبّاق، صعُب على من تلاه التحول عن توصيفها؛ أو هو الإعجاب الناجم عن جدة الاكتشاف؛ أو هو الكسل والخنوع، الذي يصعِّب محاولة البحث عن البديل. وقد يكون شيء من هذا وذاك. ولكن النتيجة المتقرَّرة هي أن عناوين تنتسخ بعضها، وإن غيّرت فيها شيئا، فإن هامش التغيير يبقى محدودا.
ونجد الظاهرة متفشية في مجال معرفي دون آخر، وبدرجات متفاوتة، فمما شاع فيه سرقة العناوين، وإن أردنا تلطيف العبارة بلغة المعاملات، قلنا: استعارتها، وإن لطّفناها بلغة التأليف، قلنا: نسخها، مجال علم التفسير، حيث نجد العنونة بالعلم: “تفسير ـ التفسير”؛ أو منسوبا لصاحبه: “تفسير فلان”؛ أو منسوبا للنص، على صورة: “تفسير القرآن”؛ أو بزيادة توصيف للنص: “تفسير القرآن الكريم”، و”تفسير القرآن العظيم”.
وقد نجد مثالا على العنونة بالعلم ـ “التفسير” ـ منذ التآليف الأولى في المجال، بحيث ورد هذا العنوان أول ما ورد عند عبد الله بن عباس ـ68ه، وتلته لائحة طويلة ممن سرقوا، أو استعاروا، أو نسخوا، العنوان، ولنكتفي بذكر أوائلها، فممن كتب تحت عنوان “التفسير” نذكر:
مجاهد أبو الحجاج ابن جبر ـ104ه؛ وعكرمة ـ105ه؛ ـ والضحاك بن مزاحم ـ105 ـ والحسن البصري ـ110ه ـ وعطية بن سعد أبو الحسن ـ111ه ـ وعطاء بن أبي رباح أبو محمد ـ114ه ـ وقتادة بن دعامة السدوسي أبو الخطاب ـ118ه ـ وعطاء بن دينار الهذلي المصري ـ126ه ـ وعطاء الخراساني بن أبي مسلم ميسرة ـ135ه ـ ومحمد بن السائب الكلبي ـ146ه ـ ومعمر / عبد الرزاق ـ ومقاتل بن سليمان أبو حيان ـ150ه ـ والثمالي أبو حمزة ثابت بن دينار ـ150ه ـ ومعمر بن راشد بن عمرو أبو عروة الأزدي ـ154ه ـ وسفيان الثوري أبو عبد الله بن سعيد الكوفي ـ161ه ـ إبراهيم بن طهمان الهرويّ أبو سعيد ـ169ه ـ والواقدي أبو عبد الله محمد بن عمر بن واقد المدني البغدادي ـ207ه.
ومن العنونة بالعلم منسوب لصاحبه ـ “تفسير فلان” ـ يرد عند الرائد عبد الله بن عباس ـ68ه ـ “تفسير ابن عباس”؛ وعنه أخذه جلة، منهم سعيد بن جبير ـ95ه ـ “تفسير ابن جبير”؛ وأبو محمد عبد الله بن جعفر بن محمد بن درستويه (“تفسير شبل بن عروة”). وقد ذكر ابن النديم عدة بنسبة التفسير لأسمائهم، دون أدنى تمييز، حتى لمن اشتهرت عناوينهم، بما يعني أن في ذلك تجاوز كبير، وتصرف في العنوان، وقد تكون طريقة سيزكين في عرض العناوين الأصلية أكثر دقة وضبطا.
وقد صارت نسبة التفسير إلى صاحبه عند كتاب التراجم والبيبليوغرافيين، والمختصين في المجال، وعموم القراء، طريقة مبتكرة في العنونة من لدن القراء، ذهابا إلى الاختصار، وتيسير الاستحضار.
ومن العنونة بالنسبة للنص المشتغل عليه ـ “تفسير القرآن” ـ يستحضر الدارس تفسير القرآن للباقر أبي جعفر محمد بن علي زين العابدين الإمام ـ117ه، ومثله لابنه جعفر الصادق أبي عبد الله بن محمد الباقر الإمام ـ148ه، وآخر ليزيد بن هارون أبي خالد الواسطي ـ206ه، وللفريابي أبي عبد الله محمد بن يوسف ـ212ه، ولأبي حذيفة موسى بن مسعود النهدي البصري ـ240ه، ولأَحْمد بن دَاوُد بن ونند أَبي حنيفَة الدينَوَرِي ـ282ه.
وتم تصدير عنوان “التفسير” من الاختصاص بالقرآن الكريم ليشمل علوما أخرى، ومن أجل ذلك أُبقي على كلمة “التفسير”، وقُرنت بموضحاتها، فاقتحمت مجالات شتى، منها الحديث والفقه واللغة والأنساب والأحلام والمحاورات والشعر وأسماء الأعلام. وما قلناه عن سرقة عنوان التفسير يمكن أن نورده عن العناوين في مختلف المجالات، ويطال كذلك سرقة منهج التأليف، وسرقة قضايا التأليف، آمل أن يفسح المجال مستقبلا للحديث عنهما.
فهذه من الاستعارات الجزئية لعنوان “التفسير”، التي أخذت حينا كل العنوان، وحينا بعضه، أو أخذته العنوان ولكنها أغنته بتحديد مجال الاشتغال.
وعلى الرغم من هذا التوارد الكثيف للعنوان الواحد، ومهما اختلفت صوره، وبشكل واضح ومفضوح، ولا يمكنه التستر على الأخذ أو السرق، إلا أنه لا يصعب إيجاد مبررات لذلك، تدعي الاستناد إلى العام المشاع ـ علما أو موضوعا أو نصا ـ الذي ليس خاصا بأحد. ومثلما كان الحق لأول مستعمِل في الاستناد إليه، كان الحق نفسه لآخر متوارد عليه، وكان استناده للأصل، لا لمن استند عليه.
ناقد من المغرب