محمد مفتاح استثناء في النقد العربي الحديث إسماعيل هموني
أن تجالس كتابا؛ معناه؛ أن تعيش الترحال… والسفر… والمتعة… وأناقة التفكير. مجالسة الكتاب فتح في العتمات؛ وسعى في اللامعلوم حتى تتبين الخيوط ، أبيضها من أسودها. حين تسمع للكتاب، فأنت تسمع التعدد؛ وترى بأذنك ما لا تراه عينك. ترى جيشا من التفكير مدججا بالمعاني التي عكفت عليها لن تجمعها بوحدك. على حد التخوم تجد ما فاتك من الفواصل؛ وتقبض ما ظل هاربا من وعيك. حين تتخطى تلك التخوم يتربص بك اللاوعي فتغشاك عوالم التخييل ولا ترى سوى ما غمغم فيك وأنت طفل؛ ولا تسمع سوى من تراسل فيك وأنت أبعد من طفولة.
أن تقرأ كتابا، تستعيد الأصوات التي انطمرت في شقوق غائرة؛ وتسترد اللحون التي دهستها الألسن حتى تشابهت كالحجر.
ههنا نجلس لنقرأ؛ ندع الكتاب يقودنا إلى حيث يريد؛ نشخص بأبصارنا ؛ نتبعه ونحن نتحسس وعينا؛ ندرك المسافات الفاصلة بيننا وبينه؛ وندغم أشكال الوعي التي تتفارز في صيغ التواشج أو التوالج من الأساليب؛ وأفانين التبالغ الجمالية.
عندها فقط؛ ندرك / نعلم أننا نقرأ، وأننا في جلسة لا تنتهك حرماتها إلا صمتا؛ وأنفاس صاعدة نحو الأعالي؛ وأخرى هابطة نحو أعماق في قاع الوقت.
كأننا في صلاة مقدسة؛ متمرسة بالخشوع؛ والامتثال النقي لصوت القداسات. نعيش النداء؛ ونقيم في الاصطفاء؛ ونولد مرات في البهاء .
نأتي من المستقبل؛ ونحن نقبض يد الحاضر غير خائفين ولا خائبين…
كتاب في النقد :المعنى والدلالة محمد مفتاح
يشكل د. محمد مفتاح استثناء في النقد العربي الحديث ؛ بفعل ما قدمه من جهود نقدية: تنظيرا و توطينا وتحقيقا في مسعى لبناء مقاربات علمية جادة وأصيلة تشتغل على النص الأدبي بكل تلويناته التاريخية والجمالية .
وللرجل مصنفات نقدية تكشف عن علو كعبه أكاديميا وعلميا في الدراسات النقدية اليوم ك[في سيمياء الشعر القديم ؛ و تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)؛ والتلقي والتأويل؛ والتشابه والاختلاف؛ و مشكاة المفاهيم؛ والمفاهيم معالم، ورؤيا التماثل؛ والنص: من القراءة إلى التنظير؛ والشعر وتناغم الكون ؛ ومفاهيم موسعة لنظرية شعرية ( 3 أجزاء)]
في كتابه هذا (المعنى والدلالة؛ ط. الأولى/2018 المركز الثقافي للكتاب) يصدر مفتاح عن رؤية شمولية في إطار نظرية منهاجية، دأب على تطويرها منذ عقود؛ قامت على: [اللغة- الموسيقى- الحركة]؛ منفتحة على حقول معرفية شتى دون أن تركن إلى النقل أو المحاكاة البليدة . يقول :
■ فإننا لم نجعل منا تلاميذ مخلصين طائعين طامعين في مرضاة معلمينا غافلين عن خصوصياتنا؛ وإنما ولينا عن آرائهم التي لا توافقنا؛ واتجهنا نحو ما نجد فيه ضالتنا. (ص: 19)
وتجذيرا لهذا المسعى الحميد؛ فقد اختار مفتاح نصوص شاعرين مغربيين هما؛ عبد الرفيع الجواهري؛ ومحمد بنطلحة لما توفره أعمالهما الشعرية من بنيات جمالية ؛ وأبعاد قرائية من خلال رؤيتي الشاعرين؛ رؤية الأزمة ؛ ورؤية نهاية العالم .
وخلص مفتاح إلى أن نصوص الشاعر الجواهري انتقادية في:
■ [إطار تجربة صوفية تتلخص في بيانات؛ هي: الكينونة؛ والوجود؛ والتوحيد والتوحد. وبنطلحة سخر من أهل الحداثة وما بعد الحداثة من العرب؛ هكذا قرأنا (ديوان العطش) على أنه: بيان للناس؛ و(لذة النص) بيان للمحدثين؛ و(فتنة اللغة) بيان للتحرر]. ص:22
ويستعيد مفتاح رؤيته الشمولية في خاتمة الكتاب بالقول:
■ حاولنا أن نسير على النهج الذي ارتضيناه في جل مؤلفاتنا؛ ذلكم النهج هو الاعتقاد في أن كل ما في الكون يتصل؛ أو يتحادى؛ أو يتماس؛ أو يتحاور..؛ وعبرت عن ذلك الفلسفات؛ وعلوم الفيزياء؛ والرياضيات؛ والمعرفيات؛ والعصبيات.. بالوحدة المتعددة؛ وبالتناظر؛ والاشتقاق؛ والتفاضل؛ والتكامل؛ والتشابك؛ والتنافذ..(ص: 269)
■ في ضوء هذه الرؤية كتبنا هذا المؤلف الذي أعدنا النظر فيه في اللغة: مفردات طبيعية؛ أو واصفة موضوعة؛ أو منقولة؛ أو بالمنهاجية المتبعة في تحليل النصوص الشعرية.
لقد تأسست تلك المراجعات على ثالوث؛ هو : الكونيات؛ والضروريات؛ والمقياسيات…(ص: 270)
وأخيرا؛ يقول مفتاح :
■ يتضح للقارئ أن ما اقترحناه وحد بين أساسيات العلوم كلها في مستويات متعددة: المفاهيم؛ والأوضوعات؛ والإجراءات.
وإذا ما اقتنع المعنيون والمهتمون من أهل التعليميات؛ فإن عليهم أن يضعوا مقررات متكاملة؛ منهاجا؛ ومضمونا؛ وزمانا؛ حتى يسهل على المتلقي التعلم؛ وتنمو له ملكات؛ وقوات الاستنباط. ص: 271
قراءة ممتعة
ناقد من المغرب