يحتفي العالم بأسره بالمرأة، ويخصص لها يوما للوقوف عند هذا الاحتفاء، والتوقف عليه، وإخراج جميع المشاعر الإيجابية تجاهها، والإفصاح بكل أشكال التعبير حيال ذلك، وابتكار مختلف الأساليب لتكريس الاحتفالية، والتفنن في تلوين العبارات كي تجسد تلك الاحتفائية، ورصدها من خلال اللغة، كلمات وجملا. ولعلها بذلك تُخرج أقصى ما في النفوس عند المعبرين بها، وتُلامس أعمق المشاعر لدى المقصودات بها، فيُعتقد أنها أدت الأمانة، وبلغت الرسالة، ووفت الدين، وأجزلت العطاء، وقامت بالواجب، وتحللت مما عليها، في انتظار عام قادم للقيام بالأدوار نفسها، التي أتقنتها، وتكرار الطقوسية التي رسمتها، وإخفاء التمويهية التي برعت في التفنن فيها.
ولن أجادل كبير جدال في هذا الذي يُقام، وهل هو كفيل برد الاعتبار، وإنصاف الكائن الذي تحمل بصبر قاهر أصناف المعاناة ولقرون طويلة، مع اختلاف في درجة الضغط وفق شروط الجغرافيا والتاريخ والاجتماع، ولكن سأضرب صفحا عن كل ذلك، وأقف عند هاته الحقيقة التي نعيش، والواقعة التي تحاصر تاريخنا المناسبتي، والسلوك الذي يصبغ يومياتنا بمسوح براقة، وأسجل بالبند العريض أن حقيقة السلوك وعمقه لا يقبل التوقيت، لأننا لسنا حيال قنابل موقوتة، ولا يتحمل التضبيط باليوم والشهر، لأننا لا نسجل أمجادا وبطولات، ولسنا أمام المناسبات المبهرَجة، التي تريد أن تتنفس اجتماعيا، وتداوي أمراضها النفسية بتوهم أنها قامت بالذي يجب. ولكن العقيدة، التي لا مفر منها، هي أننا في موقف لا نُحسد عليه، اجتماعيا ونفسيا، وعقائديا وفكريا، وتاريخيا وحضاريا.. موقفٍ فيه من الاعتراف والاعتذار، وطلب السماح، والشعور بالذنب، والخجل مما فات، والإقرار بسوء التصرف، ومحاولة إصلاح ذات البين، الكثير الكثير، مما لا يجب أن يُوَقَّت، ولا أن يُضبَّط بالتاريخ، وإنما مما يجب أن يُعاش في كل لحظة، وينعكس في السلوكات اليومية، ويُتحصَّل في المواقف التلقائية، ويُترجم في اللغة التواصلية، ويَتلبَّس بالأفكار، ويَتعمَّق في النفوس، وتعتنقه الأرواح، إذا أُريد له أن يكون حقيقيا.
إنني لا أرى في المناسبات العالمية والوطنية إلا مسوحا مبهِرة على وجه قبيح، تتلاشى في آخر اليوم، ليقف الوجه على حقيقته، وليستعيد ما كان يداريه من شعور، على الرغم مما يريده لها البعض أن تحمله من اعتراف ومحاولة إنصاف، يخفي خلفه من الشعور بالإثم، والتثقل بالعبء، أكثر مما يُراد منها من لعب على المشاعر، وتمويه للحقائق.
إن الاعتراف الحقيقي، والإنصاف العادل، والإحقاق الكامل والمتوازن، لا يمكن أن يتحقق إلا بترسخ الاعتقاد به في النفوس، وما من مدخل لهذا الاعتقاد غير التربية على القيم، التي تفضي إليه، والمُثُل التي تتقمصه وتجسده، وما من شك في أن ذلك يتطلب ما تتطلبه كل تربية من متابعة يومية، وسهر دائم، وحرص لا يكل، وعزائم فولادية، وإيمان صلب، ووسائل فضية، وأهداف ذهبية. وكل هذا لن يتحقق إلا بطاقات بشرية ـ مشرِفة ومتتبِّعة ـ مؤمِنة بأسس هذه التربية، متشرِّبة بأصولها، متعلِّقة بنهوجها، معتقِدة في تطلعاتها، ساعية لأهدافها، حريصة عليها.
ولذلك، فالتقدير والاحترام لغة سلوكية، وانعكاسات لحظية، ومواقف يومية، لا يجب أن تغيب عن أي كائن اجتماعي، ذكر أو أنثى، يحادث بها الذكر الأنثى، وتناغم بها الأنثى الأنثى، وتنعكس في معاملة الأنثى للذكر.
وباقات الورد يجب أن تكتحل بها العيون، التي بها ننظر للمرأة، وأن تصبَغ بألوانها الزاهية اللغة، التي نخاطب بها المرأة، وأن تلين ملامس الأيدي، التي نصافح بها المرأة، وترقِّق القلوب، التي تصدر عنها مشاعر الود والتقدير والرحمة تجاه المرأة، قبل أن تحط باقات منمقة بأربطة، ومزينة بأغلفة، ومسومة بأثمنة، تترجم الشعور بأداء الفدية، والتحلل من المتابعة.
وقنينات العطر يجب ان تفوح في أجواء البيوت، وأن تتعطر بها المجالس الأسرية والاجتماعية، وأن تزكو بها النفوس، وتنتعش بها الخواطر، قبل أن تُقدَّم تحت أسماء ماركات عالمية، وبدراهم معدودات، بها يُكال الاحترام، ويُوزن التقدير، وتُقيَّم المحبة.
والهدايا مهما كان محتواها، وكيفما كانت عُلبها، وأيا كان ثمنها، يجب أن تكون هدايا الصواب، وفتح البصائر على الحقائق، وأخذا بيد الرشيد ليزداد رشدا، وعتبا على مسمع ومرأى الغوي ليزداد إعتابا، قبل أن تصبح رواجا موسميا، وتراتبا اجتماعيا، ومساومة نِخاسية عصرية.
أريد لهذا الاحتفاء أن يكون قيمة تنزرع في قلب كل صغير وكبير، ذكر وأنثى، متعلم وعالم، محكوم وحاكم، يرعاها على طول أيام السنة، ويحتضنها في كل لحظة منها، ولا يترقب لها شهرا ولا يوما، ولا يبحث لها عن ذكرى تحتاج إلى من يذكره بها قبل حلولها، ويحتاج إلى أن يذكرها بعد مرورها، وهو بين ذاك وهذا يغالب طبعا يتحكم فيه، وفكرا يسكنه، وسلوكا يخونه.
أريد لهذا الاحتفاء أن يكون شعورا حقيقيا، يتوطن النفوس، فلا يخذلها في كل منعطف اجتماعي، ولا يفضحها عند كل اختلاف حياتي، ولا يعريها عند كل تحاسب مصلحي، ولا يكشفها أمام المواقف المخبرية، التي تكشف المعادن، وتنبئ عن الأصول.
أريد لهذا الاحتفاء أن يكون على مستوى واحد في حق كل مُجهَدة بعملها أو مكلَّفة بتربيب بيتها؛ وكل غارقة في همها أو متلهِّية بشهرتها؛ وكل متعثرة في صغرها أو مكتئبة بكبرها، وكل منتشِية بحبها أو مهتنِئة بخلوها؛ وكل ملتمِعة بنقاء جيبها أو متلطخة بصدأ فلسها، وكل متخففة بانقيادها أو مثقلة بتحكمها.
أريد لهذا الاحتفاء أن يكون إبرازا لقدرات كل شاعرة عمَّرت قلبها بالشعر، ووظَّبت أذنها على موسيقاه، وسخرت حسها للنبل والطهارة، كي تخدم به الإنسانية؛ وكل قاصة رفضت أن يُعَد حكيها بالليالي، وأن تُسْبله على شهريار واحد، فجعلته لعمر الإنسانية، وكافة أبنائها؛ وكل ناقدة أصرت على تفتيح العيون على الجمال، وصرف النفوس عن المشوَّش، لترتسم أمامها الحقائق، وتحتفي لها بأبهى الحلل، وتعمل على أن يختفي عنها الخلل؛ وكل إعلامية أجاعت العقول، وأشبعت الفضول، وسوقت الحق، وقرَّبت الشق، وأنارت كل حدث، ونوَّرت كل بث، فساعدت على البناء، وساهمت في النماء؛ وكل فنانة، مهما كان تخصصها، ترقِّق بفنها القلوب، وتطهِّر بصفائها النفوس، وتسعى لكي تعمر ما حولها بالحب الصادق، وأن تدفئه بالجمال الرائق، وأن تبهره بالإبداع الفائق.
أريد لهذا الاحتفاء أن يقر في كل عين، فترى العالَم من خلاله؛ وأن يلتبس بكل لفظة، فتلهج بلسانه؛ وأن يتوطن كل نفس فتصدر عن إيمانه؛ وأن يغلِّف كل سلوك، فيتزين بإحسانه؛ وأن يسكن كل قلب، فينبض بوجدانه؛ وأن يتملك كل عقل، فيلهج ببيانه.
أريد لهذا الاحتفاء في حق كل نون النسوة فرحا وهناء، وإخلاصا وصفاء، وعهدا ووفاء، فالتهنئة ما دام واتصل، ونما ولم يتعطل…
فهنيئا لكن بالتقدير والاحترام.
ناقد من المغرب