طرقات نجار حينا…
عبداللطيف بلمعطي
لا أعلم الذي أعاد إلى الذاكرة حنين طرقات نجار حينا “الحاج قادة” رحمه الله، وسط الخوف والهلع الذي يتخبط فيه العالم ذات اليمين وذات الشمال… لكنني وأنا مغمض العينين، إذا بهذه الطرقات تتسلل بحنين نغماتها، لحظة خلوتي التائهة تفكرا بين متاهات إشكالاتنا الآنية، لتسرقني برهة وتغوص بي في دروب الماضي القريب؛ حيث كان العمر دون العاشرة سنا، رفقة ابناء الحي المهدي عزالدين وهشام…
ورغم أن المسمار المطروق يومئذ، كان شاكيا “للحاج” وقع أذى الطرقات منه، مسلما حينا وعاصيا باعوجاجه حينا آخر؛ إلا أن سنة الله في الأرض التي خطفت هذه المرحلة المزهرة فرحا من حياتنا، وأخذت أيقونة حينا “الحاج قادة” وعظماء كثيرون من طينته؛ كانت أكبر منا ومن تدمر المسمار بل المسامير كلها…
أتذكر أن أول طرقة للحاج صبيحة أيام العطل، كانت لنا بمثابة انبلاج يوم جديد، سيكون في مجمله فرح وسعادة كما هو حال الأيام التي سبقته. هكذا كان يأذن نجار حينا بداية هذا اليوم، وكأنه الآخذ بزمام سير الحي كله. حَيٌ لم يكن يهمنا من أمره زمنئذ، غير نصيبنا من اللهو واللعب رفقة الأقران، ركض هنا وتسابق هناك… وصغيرات بالدمى البسيطة يجملن الحياة ورودا وسرورا…
كان رحمه الله ملاذنا في العديد من مستعصيات وسائل فرحنا، كأن يقوم بتعديل أو تغيير مسمار بلبلنا الخشبي (مهماز الطرومبية). كما أذكر أنه كلما دنونا من دكانه لحاجة يقضيها لنا، إلا وسمعنا مذياعه الذي يحف بأثير الإذاعة الوطنية جنبات الدكان كله. شمس الزوال الهادئة، وقراءة للقرآن الكريم على الطريقة المغربية، وتعب صباح… كلها أشياء كانت تجعل الحاج يضطجع على شقه الأيمن من على أريكة خشبية لديه، تاركا تقديرا منه للجيران لحظات قيلولة يتنعمون فيها. كنا نتقدم إليه والأرض قد امتلأت بأكوام النجارة المتساقطة من على أخشاب صقلت مطاريحا للخبز؛ رجل بقامة طويلة وبنية كانت ما تزال تحفظ في تقاسيمها، أشياء كثيرة من ماضي “الحاج قادة”.
بشوش الوجه محب للمزحة، لم أذكر قط أنه رد لنا طلبا. بل تستوقفني الذاكرة هنا عند مجالستي له أحد الأيام، بعد أن زاد العمر مني سنا وبدأت ملامح النضج تلوح خصالا؛ أنه أخبرني بعد مزحته المعتادة: — ماذا تنظرون هنا، أهناك عمل ؟؟ إذن فلتجعل اسمي أنا الحاج بعدك على اللائحة وأعدك بأن أقاسمك شيئا من الخبزة، فبدوري أريد عملا…–. فعلا أذكر جيدا ذلك اليوم الذي أخبرني فيه “الحاج قادة” بحبه للمسرح، لأتعجب كيف لهذا الشيخ الطاعن في السن أن يستهويه هذا الفن ‼ حتى يتحدث عنه بهذا النوع من الاشتياق العجيب. المسرح ‼ الذي لم يكن يطرب أحدا منا نحن صغار الحي.
لقد ذكر لي “الحاج” أنه كان محبا بل وممارسا للمسرح في أحد دور الشباب زمن شبابه بالعاصمة الرباط — إن لم تخني الذاكرة–، وأنه قدم أحد العروض في حضرة ملك المغرب “الحسن الثاني”، الذي ذكره بمسمى “ولي العهد”؛ أي بمعنى أدق أن العرض قدم زمن السلطان “محمد الخامس” قبيل ستينيات القرن الماضي. وأتبع حديثه ببعض الطرائف في إطار المزحة المعتادة منه، والمرتبط بعضها بما كان يأتيه فنا من على خشبة المسرح… لينهض “الحاج” بعد أن خالجني بشيء من أحاسيسه المضمرة خلف قسمات محياه الذي كان يخفي الكثير، مؤكدا قبل رحيله على ضرورة أن أضمن له فرصة العمل –السالف ذكرها–، والتي كان يوهمنا بمزحته أننا ننتظرها خلسة منه، حيث كنا نجتمع نحن أبناء الحي؛ ليودعنا مازحا وتاركا هذه المرة خلفه حيرتي من أمر حبه للمسرح.
كان رجلا عظيما بصم بطيبوبته أشياء جميلة في ذاكرتنا نحن أبناء الحي، رجل لن نوفيه حقه بذكر طيبته في كلمات معدودة، أمام ما كان يتقاطر منه رحمة بأبناء الحي.
وانا أخط هذه الكلمات أحسست بحنين انهال علي كلما أضفت للكلمة أختها، وأن زخما من الحروف يتهافت عليا جملا، ليرغمني على المزيد الذي لا أستطيع له مزيدا؛ آمرا إياي بمقاسمتكم هذه اللحظات الجميلة… وأعلم أن الكثيرين سيستعيدون من خلال هذه الكلمات شيئا من ماض أحيائنا الجميلة، التي كانت تحفها رجالات من طينة “الحاج قادة” رحمة وطيبة.
رحمهم الله جميعا، وأطال في عمر الباقين منهم.