الصورة الإثنية والهوية في المتخيل الروائي الأمازيغي
عبد الله جنخار
المقدمة
يعتبر الأدب فضاء رحبا لتجليات الهوية وصراعاتها، وتعكس الرواية بشكل خاص مختلف التفاعلات الثقافية والاجتماعية التي تشكل وعي الجماعات والأفراد بذواتهم وبالآخرين، ومن هذا المنطلق فإن الرواية الأمازيغية تشكل ميدانا خصبا لاستكشاف التوتر القائم بين الأنا والآخر، خاصة في ظل تقاطعات التأثير الغربي والعربي على الهوية الأمازيغية، فالآخر العربي يظهر في الغالب في الرواية الأمازيغية بوصفه قوة مهيمنة تسعى إلى طمس الخصوصية الثقافية الأمازيغية وإدماجها قسرا في إطار هوياتي قومي، عكس الآخر الغربي الذي يتم تقديمه بملامح أقل تهديدا، بل أحيانا يبدوا كأنه الملاذ المعرفي الذي يوفر بدائل نقدية للهويات المهمشة. تتجلى هذه الإشكالية بوضوح من خلال رواية ” ismäal n tmagit ” للكاتب إبراهيم العسري، حيث أعاد صياغة الصراع الهوياتي من منظور إثني موظفا الرواية كأداة للدفاع عن الذات الأمازيغية في مواجهة محاولات الطمس والاستلاب الثقافي، فالرواية ” ismäal n tmagit ” لا تكتفي برصد آثار هذا التفاعل فقط بل تسلط الضوء على الكيفية التي يتم بها توظيف الإثنية كصمام أمان لحماية الهوية المحلية لمدينة أكدير من الذوبان في خطاب الآخر العربي، تحديدا، الذي سعى إلى فرض لغة المركز وتهميش التاريخ الأمازيغي، ليظهر كقوة تسعى إلى الاستحواذ على المجالين الثقافي والرمزي بالمدينة، ما جعل المواجهة معه، في نظر الكاتب، ضرورية لحماية الذات الأمازيغية من الذوبان والاستلاب.
في هذا المقال، سنناقش كيف استطاع الكاتب ابراهيم العسري تجسيد هذا الصراع في نصه الروائي، وكيف رسم معالم المواجهة بين الذات الأمازيغية والآخرين، مسلطين الضوء على تقنيات السرد والمضامين الفكرية التي تعكس رؤيته لهذا التفاعل الهوياتي المعقد.
- تعريف الهوية الإثنية
تعد الهوية الإثنية من المفاهيم المركزية في العلوم الاجتماعية والثقافية وتشير إلى إحساس الفرد بالانتماء إلى مجموعة إثنية معينة تتميز عن غيرها بخصائص ثقافية واجتماعية مشتركة بين أفراد جماعتها، وتُبنى هذه الهوية على أساس مجموعة من السمات الخاصة التي تشمل اللغة والدين والعادات والتقاليد والتاريخ المشترك، وتتميز الهوية الإثنية كذلك بكونها دينامية وقابلة للتغير أي أنها لا تعرف الجمود حيث تتأثر بالتفاعلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحيطة بالجماعة التي تعبر عنها من الناحية الثقافية كما أنها وسيلة لتعزيز الترابط الاجتماعي داخل المجموعة، فتسهم في ترسيخ القيم المشتركة وتعزيز الهوية الجماعية من خلال الحفاظ على التراث الثقافي الذي يميزها.
أما من الناحية الاجتماعية فإن الهوية الإثنية تؤدي دورا مهما في تشكيل العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الأوسع، إذ تتيح لهم تعريف أنفسهم في مقابل الآخرين وتوفر لهم إطارا مرجعيا يساعدهم على فهم التحديات الاجتماعية والسياسية التي يواجهونها داخل هذا المجتمع، كما أنها قد تؤثر على تكوين الشبكات الاجتماعية والاقتصادية داخل المجتمعات المتعددة الإثنيات، إلا أنه يمكن أن تكون أيضاً مصدرا للصراعات داخل نفس المجتمع إذا استخدمت كأداة للتفرقة أو التمييز ويتجلى هذا الأمر في التاريخ السياسي والاجتماعي للعديد من المجتمعات الذي عرفت هذا الصراع حيث أدت النزاعات الإثنية إلى صراعات داخلية وحروب طاحنة أدت في الكثير من الأحيان لإسقاط أمام عظيمة. وتتشكل الهوية الإثنية من خلال مجموعة من العمليات المعقدة التي تشمل التنشئة الاجتماعية للفرد داخل المجتمع الذي ينتمي إليه والتفاعل مع البيئة المحيطة به، بالإضافة إلى تأثير المؤسسات الاجتماعية والسياسية عليه، ويبدأ هذا في مراحل مبكرة من حياته حيث يتعلم الفرد من خلال الأسرة والمجتمع القيم والعادات المرتبطة بجماعته الإثنية، و تلعب الأسرة دورا رئيسيا في نقل القيم الثقافية عبر الأجيال حيث يتعلم الأطفال اللغة والمعتقدات والتقاليد من أفراد أسرهم وتتعزَّز هذه الهوية عبر المؤسسات التعليمية والدينية والسياسية التي تكرس مفاهيم الانتماء والتميز.
يتأثر تكوين الهوية الإثنية، بالإضافة إلى ما سبق، بالعوامل الخارجية مثل الهجرة والعولمة والتغيرات الاجتماعية والسياسية، ففي حالات الهجرة مثلا يواجه الأفراد تحديات في الحفاظ على هويتهم الإثنية أثناء محاولتهم التكيف مع الثقافات الجديدة التي يصطدمون بها بالمهجر، ويمكن أن تؤدي العولمة إلى تآكل بعض جوانب الهوية الإثنية للأفراد أو الجماعات نتيجة انتشار القيم الثقافية العالمية، لكنها قد تسهم أيضا في تعزيز الشعور بالهوية من خلال إعادة إحياء التراث الثقافي كرد فعل على هذه التغيرات العالمية، فالعولمة قد تسهل التفاعل بين الثقافات المختلفة مما يؤدي بالأساس إلى تشكيل هويات هجينة تجمع بين عناصر متعددة، إضافة إلى ذلك تلعب العلاقات بين المجموعات الإثنية المختلفة دورا محوريا في تحديد معالم الهوية الإثنية، فالتفاعل مع مجموعات أخرى يمكن أن يعزز الشعور بالتميز الإثني أو يؤدي إلى تغيير في تعريف الهوية الذاتية، كما يمكن أن تؤدي التوترات أو التمييز إلى تعزيز الهوية الإثنية كرد فعل دفاعي بينما قد يسهم التعاون والانفتاح في تقليل التوترات وإعادة تعريف الهوية.
- ارتباط الأنا بالهوية الأمازيغية في الرواية
تبرز ثنائية الذات و الهوية في رواية ” ismäal n tmagit ” بوصفها المحور الأهم في العملية الّإبداعية الروائية وتكشف هذه الثنائية عن صراع الذات أو الأنا مع ذاتها لتبني عالما خياليا تصور من خلاله ذاتها وهويتها التي تعيش الانفصام، وعلى هذا الأساس يرى حسن حنفي حسنين أن الهوية ” خاصة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، هي موضوع إنساني خالص، فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمفارقة أو التعالي بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع و المثال، بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل “[1]. و تتجلى الهوية الشخصية في هذه الرواية من خلال شخصيات تكشف أحيانا صور الأنا التي توحي إلى الثبات والتمسك بالثقافة والهوية الأمازيغية، وأخرى تكشف صور الأنا التي توحي إلى الانسلاخ والبعد عن هذه الهوية المحلية، وهذا ما سنتناوله من خلال بعض الصور الأدبية في الرواية للذات التي تتأرجح بين مطرقة المحافظة على الهوية الأمازيغية وسندان الانسلاخ منها، عبر تحليل مقاطع مختارة من رواية ” ismäal n tmagit ” وهي كالتالي :
- المقطع الأول :
- ” Ur jju d nÆnnin ad izzrin ussan n usunfu zund willi nzzri v ngr inÅmarn d imzdavn u Ugadir. ur darsnn yat, macc fjjijn s aylli darsn, ur ar ttellin ad gin v willi ittkkisn I middn ayda nsn ” [2]
- لم نستمتع يوما بعطلة مثل ما استمتعنا بها بين الصيادين و ساكنة مدينة أكدير. هم فقراء جدا، لكن راضون بما يملكون و يستمتعون به، ولا يسعون أبدا إلى سرقة أملاك الآخرين.
يتجلى البعد الإثني لهوية الأنا في هذا المقطع بوضوح من خلال تقديم الكاتب لمشهد أدبي يعكس العلاقة العميقة بين الذات الأمازيغية وبيئتها الثقافية والاجتماعية، حيث يتم تصوير سكان مدينة أكدير ( باعتبارها مسرح أحداث الرواية ) رغم فقرهم الشديد، كأفراد يتمتعون بالسلمية والرضا، وهي قيم تبقى متجذرة في الهوية الأمازيغية التي تربط الإنسان بالطبيعة وتنظر إلى الحياة كمساحة للتعايش والتآلف بدلا من الصراع والتناحر، فلا يظهر الفقر هنا بوصفه حالة ضعف أو استسلام للأنا المحلية، بل كعنصر يعزز تماسكها الاجتماعي ويدفع أفرادها نحو الاكتفاء الروحي، مما يبرز التوازن القائم بين هويتهم الثقافية والواقع المادي الذي يعيشونه. ويبرز المقطع من جهة أخرى قيمة الانفتاح على الآخر، حيث تم استقبال السياح الغربيين بالمدينة بحفاوة ودون أحكام مسبقة ما يعكس قدرة الثقافة الأمازيغية على استيعاب الاختلاف دون أن تفقد خصوصيتها، هذا الانفتاح لا ينبع من موقف براغماتي عابر للأنا بالرواية، بل يمثل فلسفة ثقافية أصيلة ترى في التعددية عاملا لتعزيز الهوية وليس تهديدا لها، ليصبح الانسجام بين السكان والسياح الغربيين دليلا على مرونة الثقافة الأمازيغية وقدرتها على بناء جسور التواصل بينهم، في مقابل العلاقة المتوترة التي تجمع الأنا بالآخر العربي، الذي ينظر إليه بوصفه قوة مهيمنة تسعى إلى طمس هذه الهوية وإخضاعها لخطاب ثقافي أحادي، وهو ما سنتناوله في المقاطع التالية.
هذا المقطع يبرز كذلك تناقضا دالا بين الفقر المادي والغنى الإنساني للأنا في الرواية، إذ تبدو الذات الأمازيغية رغم بساطتها أكثر تماسكا وأصالة من الآخر الغربي الذي يمتلك الموارد الاقتصادية لكنه في الآن نفسه يفتقر إلى الروابط الاجتماعية العميقة التي تمنح الحياة معناها، هذه المفارقة تدفع القارئ إلى إعادة النظر في مفهوم الثروة، حيث تصبح الثقافة والهوية ركيزتين أساسيتين تمنحان الأفراد الشعور بالقوة والاعتزاز بالذات، ما يجعل الأمازيغية ولو بشكل ضمني في هذا المشهد تطرح كإطار أخلاقي ومعرفي يحدد ملامح العلاقة بين الأنا والآخر، ويمتد تأثيره ليطرح أسئلة كونية حول التعددية، التعايش، والقيمة الحقيقية للهوية في عالم يتجه نحو العولمة والانغلاق الفردي.
- المقطع الثاني:
- ” Lala Ijja talli yav d iÇÇgn aÆfay v tfunast ns immukrn, tfav avrum n ufarnu irvan. NkÆni lli ka izrin v tama n tgmmi ns aylli v ngawr ad nsunfu zv tiqqiqt n wass ann n unbdu ” [3]
- ” لالا إجا ” السيدة التي قدمت لنا حليب بقرتها والخبز التقليدي الساخن الذي أعدته. رغم كوننا مجرد عابري سبيل، بعد أن جلسنا بجوار منزلها لنرتاح من شدة حرارة ذلك اليوم الصيفي.
استمرار في نهج الكاتب لإبراز ملامح الهوية الإثنية لشخصيات روايته هذه، ظهرت لالا إجا كشخصية خياليا تعكس بدورها القيم العميقة التي تشكل الوعي الجمعي للأنا الأمازيغية بالمدينة، يتم تصويرها كشخصية مضيافة وكريمة تقدم للغرباء حليب بقرتها والخبز التقليدي الساخن دون سابق معرفة، ما يعكس فلسفة العطاء غير المشروط المتجذرة في الثقافة الأمازيغية، فالكرم هنا ليس مجرد تصرف فردي يخص لالا إجا، بل هو قيمة ثقافية متوارثة تؤكد على أهمية الجماعة والترابط الاجتماعي في الثقافة الأمازيغية، إذ لا يُنظر إلى الغريب كعنصر دخيل بل كضيف يستحق الرعاية والاحترام مادام الأخير يحترم خصوصية الأنا المحلية، ما يعكس الطريقة التي تبني بها الأنا الأمازيغية علاقتها بالآخر الغربي بعيدا عن الصدام أو العداء. كما يبرز المقطع أيضا الروائي صورة الأنا الأمازيغية في ارتباطها العميق بالطبيعة، حيث يتم تقديم الحليب والخبز التقليدي وهما رمزان للعيش البسيط المعتمد على الموارد المحلية، هذه التفاصيل لم يوظفها الكاتب بشكل عشوائية، بل تحمل دلالات إثنية قوية تشير إلى تجذر الهوية الأمازيغية في نمط حياة ترتبط جل مواره بالأرض، بعيدا عن الاستهلاك المفرط أو التأثيرات الخارجية التي قد تؤدي إلى تآكل هذه الخصوصية الثقافية.
- المقطع الثالث:
- ” tatatatapaddatu, ar itgngum buttaxi kra v iwaliwn ns ffavn d kra ivaman, inna nn ukkan ikkan kraä ussan v Clichy ilhu ar isbittic tafransist. Kun as tt ka sgaddan. Kra nttan ur d aÆ ikka mani yaÅi ad sul isawwal awal n darsn. Durt awi s tarwa n tsrdan. Nnan ak ukan is nn bbin kra iva anqqan tiguriwin n id matsn. ” [4]
- تاتاتاتاتحدث، يتمتم سائق سيارة الأجرة بكلمات غير مفهومة، كل من زار مدينة كليشي لبضعة أيام يدعي إتقانه للغة الفرنسية، ويا ليتهم يتقنون الحديث بها. ومنهم من لم يغادر المدينة قط ويرفض التحدث بلغة أبنائها. اللعنة على أبناء العاهرات. يظنون أن بقتلهم لغتهم الأم ستتحسن أحوالهم.
في هذا المقطع من الرواية يتم تناول علاقة الأنا الأمازيغية بهويتها الإثنية من خلال محور اللغة بوصفها عنصرًا مركزيا في تشكيل الهوية والانتماء، ويعكس سائق سيارة الأجرة موقفا صريحا من واقعٍ تعاني فيه الأنا أو الذات الأمازيغية من تهميش لغتها الأم، ما يجعله يدافع عن هويته اللغوية في وجه ما يعتبره تهديدا ناتجا عن محاولات طمسها أو استبدالها بلغات أخرى سواء كانت العربية أو الفرنسية، وتظهر كلمة “تاتاتاتاحدث” كرمز ساخر يعبر عن امتعاض الأنا الأمازيغية من لغة الآخر العربي تحديدا التي تُفرض بشكل غير طبيعي على اللسان الأمازيغي بمدينة أكدير ما يولد شعورا بالاغتراب والتنافر بين الأنا وهويتها الأصلية. وفي هذا السياق لا تعتبر اللغة الأمازيغية مجرد أداة تواصل فقط بل تتجاوزه لتصير رمزا عميقا للانتماء الثقافي والإثني، إذ تعكس الجذور التاريخية والتقاليد الجماعية التي تشكل هوية الفرد والجماعة بالمدينة، ورفض السائق الحديث بالعربية ثم استهزاؤه بمن يتحدث الفرنسية وذلك لمجرد زيارته لمدينة كليشي الفرنسية، يعبر عن مقاومة واعية لما يراه هيمنة ثقافية تسعى إلى تهميش لغته الأم وبالتالي هويته و ثقافته، هذا الموقف النقدي من الآخر اللغوي يعكس صراعا ثقافيا أعمق يرتبط بمحاولة الحفاظ على الهوية الإثنية للذات في مواجهتها لقوى الهيمنة التي تمارسها لغات مركزية أخرى وافدة على فضائها كاللغة الفرنسية واللغة العربية.
ويشير هذا المقطع من منظور آخر إلى التوتر البارز الذي تعاني منه الأنا الأمازيغية بين التمسك بهويتها الأصلية والانصياع لإملاءات الآخر الثقافي ما يعكس واقعا معقدا تشهده المجتمعات متعددة الثقافات، حيث يتم تقديم لغة الآخر كرمز للحداثة والرقي المجتمعي بينما يتم تهميش اللغة الأم بوصفها عائقًا أمام التقدم، واستخدام الكاتب للسخرية في هذا المشهد ما هو إلا تعبير صريح عن الإحساس بالمرارة والغضب تجاه هذه الديناميكية الثقافية، ويعكس كذلك وعي الأنا بضرورة مقاومة محاولات الإقصاء التي تتعرض لها هويتها اللغوية و الثقافية. كما يشكل هذا المشهد أيضًا نقدا اجتماعيًا للوعي الزائف الذي يدفع البعض إلى التخلي عن لغتهم الأم لصالح لغات يعتبرونها أكثر مكانة اجتماعية أو ثقافية، وامتعاض السائق في المقطع من هؤلاء يعبر عن إدراك الأنا العميق لأهمية الحفاظ على اللغة الأمازيغية ليس فقط كوسيلة للتواصل بل كجزء لا يتجزأ من هوية جماعية تحمل قيما وتاريخا ومعاني رمزية تتجاوز حدود الكلمات.
- المقطع الرابع:
- ” Ur as ism Ziri macc yan t isaqsan v ism ns ar as ittrar mad s as ism : Ziri … Ziri iga win willi ur ranin ad munn d ulli, ad kcmn tagrurt, ad cttan inna d yagurn v wafar n wiyyaä. Ziri dars iga tifawt, iga amzruy, iga tavlavalt immimn iv tssudm takurrut n umzzuv ns. ” [5]
- لم يكن اسمه في الأصل زيري، لكن كل من سأله عن اسمه كان جوابه دائما هو زيري … زيري هو اسم الذين يرفضون السير مع القطيع، يرفضون دخول الحظيرة، أو تناولوا بقايا طعام الآخرين. زيري هو النور بالنسبة له، هو التاريخ، هو صدى جميل حين يداعب أذنيه.
يتناول الكاتب في هذا المقطع الروائي إختيار الأنا الإثنية تغيير اسمها الحقيقي إلى اسم أمازيغي خالص “زيري” كتعبير عن تشبثها العميق بهويتها الثقافية واللغوية الأمازيغية، ويعكس هذا الاختيار وعيا فرديا وجمعيا بأهمية استعادة الرموز الثقافية الممثلة في اللغة والأسماء التي تحمل دلالات تاريخية ومعنوية راسخة في لا وعي الأنا الجماعي عبر التاريخ، و يبرز اسم زيري هنا كرمز للانتماء والتحدي كما يجسد رفضا واضحا للتنازل عن الخصوصية الثقافية للأنا المحلية في سياق تغلب عليه هيمنة الآخر العربي، ويُظهر الكاتب في هذه الصورة كيف تحول اسم زيري إلى تعبير عن هوية متجددة حيث يعبر عن النور والتاريخ والصوت الحي في حياة الشخصية، أما من الناحية الدلالية فيرتبط الاسم بمعاني المقاومة والاختلاف إذ يشير إلى أولئك الذين يرفضون الانصياع للمألوف أو ” السير مع القطيع ” بتعبير الكاتب مما يجعل منه رمزا للتمرد الإيجابي والحرية الفكرية، أما في السياق الثقافي الأمازيغي فيمثل الاسم عودة إلى الذات الأصيلة التي تحمل معاني النقاء والانتماء إلى هوية إثنية تتجاوز الحاضر لتربط الفرد بجذوره التاريخية. ومن الناحية أخرى فالمقطع هنا يشير إلى صراع الأنا الإثنية مع ضغوط الانصهار في هويات ثقافية أخرى وافدة عليها كما يتمثل هذا الصراع في رفض الشخصية لاسمها الأصلي الذي قد يمثل انفصالا عن جذورها الأمازيغية وتبنيها لاسم ” زيري ” كبديل يعبر عن رغبتها في إعادة بناء الذات وفق قيم وأطر ثقافية ترتبط بلغتها وتراثها، ليصبح الاسم إذن وسيلة لاستعادة السيطرة على الهوية الفردية والإثنية في مواجهة محاولات الطمس أو التهميش.
- صورة الآخر الإثنية في رواية ” ismäal n tmagit “
تمثيل الآخر في الرواية كتهديد للذات أو الأنا و هويتها من جهة ثم تمثيله كإغراء لها من جهة ثانية يعكس جدلية معقدة تجمع بين الخوف والجذب في علاقة الأنا بالآخر، وهي جدلية تعبر عن توترات الهوية في سياق إثني وثقافي مشحون يظهر الآخر في الرواية بوصفه عنصرا يحمل تهديدا مزدوجا للأنا، فهو من جهة يمثل قوة خارجية تسعى إلى طمس الهوية الأصلية عبر فرض لغته وقيمه أو أنماط حياته وهو ما يمثله الآخر العربي في الرواية، ومن جهة أخرى يشكل مصدر إغراء بما يحمله من وعد بالتطور أو الانتماء إلى ثقافة مركزية أو مهيمنة وهو ما يمثله الآخر الغربي. هذا التداخل بين التهديد والإغراء جعل الآخر في شقيه العربي والغربي رمزا محوريا في تشكيل الصراع الداخلي للأنا بين الحفاظ على أصالتها والاندفاع نحو التغيير.
ويتمثل الآخر كتهديد عندما يعبر عن قوى الهيمنة الثقافية التي تعمل على تهميش هوية الأنا الإثنية وهو ما يظهر عادة من خلال محاولات الآخر العربي فرض لغته على حساب اللغة الأم أو تسويق قيم مشرقية تتعارض مع القيم التقليدية التي تتميز بها الأنا المحلية بمدينة أكدير، ما مكننا من القول بأن الآخر هنا يمثل صورة لقوة خارجة عن الذات تسعى للسيطرة على المجال الثقافي والاجتماعي للأنا ما خلق صراعا حادا بين المقاومة والخضوع، إضافة إلى أن هذا التهديد لم يقتصر على الجانب المادي أو سياسي فقط بل هو تهديد رمزي أيضا، يُظهر الآخر العربي بوصفه خطرا يداهم البنى الثقافية التي تشكل هوية الأنا وتجعلها فريدة. أما على الجانب الآخر فيُصور الكاتب الآخر الغربي كإغراء جذاب يمثل بديلا ثقافيا واجتماعيا يَعِد بالارتقاء أو الانتماء إلى طبقات أو هويات ذات مكانة أعلى، هذا الإغراء قد يتمثل في اللغة والمظهر أو أنماط الحياة التي تعتبرها الأنا رمزا للرقي والتقدم، ومع ذلك، فإن هذا الإغراء يحمل في طياته صراعا داخليا يتمثل في التنازل عن الجوانب الأصيلة من الهوية مقابل تبني ما يقدمه الآخر الغربي من الإغراء، هذا الأخير لا يقتصر دوره في مجرد عملية جذب بسيطة للأنا في النص بل هو اختبار لمدى قوتها في الحفاظ على ذاتها بينما تنفتح على الجديد.
من خلال هذه الثنائية، تظهر الرواية كيف تصبح العلاقة مع الآخر ساحة للتفاوض المستمر حول الهوية، فالأنا الإثنية في مواجهة التهديد والإغراء لا تقف موقفا ثابتا، بل تتأرجح بين المقاومة والتبني، وهو ما يعكس طبيعة الصراع الثقافي في المجتمعات التي تعاني من ضغوط إثنية أو استعمارية، هذا التهديد والإغراء يعملان معا على تشكيل ديناميكية معقدة تضع الأنا في حالة مواجهة دائمة مع أسئلة الانتماء والأصالة والاستمرارية.
- صورة الآخر العربي كتهديد للأنا الإثنية
نسعى من خلال هذا المحور إلى استجلاء ملامح التوترات التاريخية والثقافية بين الآخر العربي والأنا الأمازيغية كما تعكسها هذه الرواية، فقد حاول الكاتب تقديمه مقدما إياه كرمز للهيمنة والاستغلال، ويتم تصويره كقوة تهدد الهوية الأمازيغية عبر توظيف أدوات مختلفة من أبرزها الدين إذ تظهر الرواية كيف أن الأخير ورغم كونه عنصرا يوحد الشعوب روحيا، أستُخدم كوسيلة لإقصاء الثقافة الأمازيغية تهميشها لصالح هيمنة الآخر العربي في الرواية، كما يسلط المحور الضوء على الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية لهذا التوتر وهذه الهيمنة من خلال تقديم الآخر العربي كمستغل للأنا الأمازيغية في سياقات متنوعة، من التراتبية الاجتماعية المفروضة عليها داخل المدينة إلى الاستغلال الجنسي الذي يتستر خلف مظاهر السلطة الدينية أو الاجتماعية وتبرز الرواية هذه الديناميكيات من خلال تصوير الأنا الأمازيغية كضحايا لهذه الأنماط من الهيمنة، ما يعكس محاولات متواصلة لتعرية الأيديولوجيات التي كرست هذه الصور النمطية، وهو ما سنتناوله من خلال المثالين التاليين:
- المقطع الأول:
- ” Ziri nttan mqqar bdda gis iggut wawal, ur ar sul ittiri ad t issugt d willi ittassn izikr i ixf. Immav yad d yan gitsn tizi as inna s wawal n banu annaäir, zË av kra n tfrxin mÇÇinin ad ur lkmnt uÇum, ad ak fkav tivrad nk ” [6]
- رغم أن زيري كان كثير الكلام دائما، إلا أنه لم يعد يطيق الحديث مع الذين يعقدون رؤوسهم بالحبال. لقد تشاجر مع أحدهم ذات يوم، عندما طلب منه الأخير، بلغة بني النظير، أن يحضر له فتيات قاصرات مقابل بعض المال.
تتجلى صورة الآخر العربي في هذا المقطع بوصفه تهديدا حقيقيا للأنا الأمازيغية من خلال عدة مستويات سردية ورمزية، ويبدأ النص بتجنب زيري ذكر العجوز السعودي بالاسم مكتفيا بوصفه من خلال عناصر مظهره الخارجي ( الذين يعقدون رؤوسهم بالحبال )، وهو تصوير يحمل دلالة مزدوجة: الأولى تتعلق بإبراز الاختلاف الثقافي والإثني بينه وبين الأنا المحلية، والثانية تتجسد في تقزيمه وتجريده من الفردانية ما يكرس الإطار النمطي الذي يعكسه السرد، ليتواصل تحليل صورة الآخر عبر الإشارة إلى لغته حيث يوصف أسلوب حديثه بـ” لغة بني النظير”، وهي إشارة تاريخية ذات دلالة إثنية تتصل بأصل الآخر العربي القبلي القادم من المشرق البعيد، ما يدل على الانفصال الجغرافي والثقافي بين الأنا والآخر، هذه الإشارة اللغوية لا تقف عند البعد المكاني فقط بل تعكس أيضا موقفا نقديا تجاه الأسس الثقافية التي يحملها الآخر العربي هنا والتي تُعرض بوصفها غريبة عن واقع الأنا الأمازيغية، ثم ينتقل النص إلى كشف الجانب الاستغلالي لهذا الآخر، حيث يطلب العجوز السعودي من زيري أن يحضر له فتيات قاصرات من بنات مدينة أكدير ليمارس عليهن شدوده الجنسي مقابل المال، هذا المشهد يمثل ذروة التهديد الذي يشكله الآخر العربي للأنا الأمازيغية حيث يتم استغلالها ليس فقط اقتصاديا بل أيضا أخلاقيًا وجنسيا، وهو ما يعمق الفجوة بين الطرفين ويؤكد على رؤية الآخر بوصفه خطرا وجوديا يتعدى حدود الهيمنة الثقافية ليصل إلى انتهاك الكرامة الإنسانية، ويختم الكاتب المقطع بإشارة إلى كره زيري للعرب عموما مما يعكس شعورا متجذرا بالرفض والاحتقار تجاه هذا الآخر نتيجة لتراكمات تاريخية وتجارب شخصية تتسم بالاستغلال والهيمنة، و يشكل هذا الكره في السياق السردي استجابة دفاعية من الأنا الأمازيغية في محاولة للحفاظ على هويتها وصمودها في مواجهة تهديد الآخر العربي الوافد إلى فضاءاتها. هذا التحليل يكشف عن البنية الرمزية والسردية التي يستخدمها الكاتب في هذا المقطع لتقديم الآخر العربي كتهديد للأنا الأمازيغية، معتمدا على تقنيات تصويرية وتاريخية تعكس التوترات الإثنية والثقافية بين الطرفين، ما يجعل المقطع يمثل نموذجا غنيا لدراسة العلاقات المعقدة بين الأنا والآخر العربي في الأدب الأمازيغي مسلطا الضوء على كيفية توظيف السرد لإعادة صياغة هذه العلاقات من منظور إثني ناقد.
- المقطع الثاني:
- ” Asaoudi iv ka isva tasäulin, nv sin igrtal i tmzgida iozzu dar kullu middn, izäar ad aæ isv larpam n tfrxin n tmazirt. Ayt tmazirt yuda tn iv nn ka iga afus v ujjbir ns, iÇÇal v tama nsn yan mnnawt. ” [7]
- يكفي أن يقتني السعودي بعض الأواني أو الحصير للمسجد ليصبح محبوبا لدى الجميع، وبعدها يمكنه شراء حتى شرف فتيات المدينة. أبناء المدينة لا يهمهم سوى ما سيجود به عليهم من أموال، ثم أن يصلي بعض الركعات بجوارهم.
تتجلى صورة الآخر العربي في هذا المقطع من الرواية من منظور إثني خالص، يقدمه الكاتب بوصفه تهديدا وجوديا مباشرا للأنا الأمازيغية، ليس فقط على المستوى الثقافي بل أيضا على المستوى الأخلاقي والاجتماعي، ويُصور الآخر العربي هنا كشخصية انتهازية توظف الدين والمال لفرض سلطته على المجتمع المحلي، معتمدا على هذين العنصرين كوسيلة لاختراق البنية الاجتماعية والتلاعب بقيمها، لا يتناول ابراهيم العسري هذه العلاقة من منظور محايد بل ينقلها بنبرة ازدراء واحتقار واضحين، تعكس موقفه الحاد تجاه هذا الآخر الذي لا يُنظر إليه كعنصر تكاملي بل كمصدر إفساد واستغلال.
ويظهر المقطع كذلك كيف أن القيم الدينية، التي يُفترض أن تكون وسيلة للتقارب الروحي والأخلاقي، أُستخدمت هنا كأداة لإحكام السيطرة، فبمجرد قيام السعودي بالتبرع ببعض الأواني أو الحصير للمسجد يجعله محبوبا لدى الساكنة المحلية، مما يشير إلى استغلال الجانب الروحي لكسب القبول الاجتماعي وتهيئة الأرضية لممارسات أكثر هيمنة، هذا التصور يضع الأنا الأمازيغية في موقف ضعف أمام إغراءات المال والتدين الظاهري للآخر، حيث يُظهر الكاتب أبناء المدينة وكأنهم سذج يختزلون علاقتهم بالآخر في مدى عطائه المادي وقدرته على تقديم بعض الامتيازات الرمزية التي تمنحه سلطة اجتماعي مطلقة. لكن الأخطر في هذا المشهد هو الربط بين الدين والمال كشكل من أشكال السيطرة التي تتجاوز المظاهر الخيرية لتصل إلى الاستحواذ على ” شرف فتيات المدينة “، هذه الجملة تعكس موقفا صادما من الآخر العربي، الذي يُنظر إليه هنا كقوة تخريبية تستغل حاجة وفقر الأنا المحلية لتحقيق مآربه، في إشارة واضحة إلى استغلال النساء كجزء من الهيمنة الاجتماعية والاقتصادية، وهنا، لا يتوقف الكاتب عند وصف الاستغلال بل يقدمه بصورة ازدرائية كأن سكان المدينة أنفسهم متواطئون في هذه المعادلة، حيث يتم تصويرهم كأفراد لا يهمهم سوى المال وما يمكن أن يجود به الآخر العربي عليهم، دون اعتبار لقيمهم الأخلاقية أو لهويتهم الثقافية.
هذا التصوير يجعل من الآخر العربي نموذجا استعماريا داخليا، يستخدم النفوذ الاقتصادي والديني لفرض وجوده وتغيير ملامح المجتمع الأمازيغي، وهو ما يشكل تهديدا صريحا للأنا الإثنية التي تجد نفسها أمام قوة ناعمة تسلبها استقلاليتها الثقافية، لدى لا يخفي الكاتب تحامله على هذا الآخر فيسخر منه بشكل ضمني، كاشفا عن التناقضات التي يحملها، بين تديّنه الظاهري وسلوكه الاستغلالي، وبين خطابه الأخلاقي وممارساته التي تمثل انتهاكا صريحا للقيم المحلية، بهذه الصورة، يتحول الآخر العربي إلى خصم إثني، لا يتشارك مع الأنا الأمازيغية بالمدينة سوى الفضاء الجغرافي، لكنه يظل غريبا عنهم في منظومتهم القيمية ويمثل بالنسبة إليهم تهديًا مستمرا لهويتهم وخصوصيتهم الثقافية.
- صورة الآخر الغربي كإغراء للأنا الإثنية
تظهر رواية ” ismäal n tmagit ” صورة الآخر الغربي بوصفه نموذجا مغايرا للآخر العربي بل نقيض له، حيث يتم تقديمه بصورة إيجابية تشكل إغراء للأنا الإثنية الأمازيغية، ويمثل هذا الآخر الغربي في السرد رمزا للتقدم والانفتاح والقيم الإنسانية ما يخلق تباينا حادا مع الصورة السلبية لنقيضه العربي، ويُبرز الكاتب كيف تسعى الأنا الأمازيغية في الرواية إلى التفاعل مع القيم الغربية كوسيلة للتحرر من قيود الهيمنة المادية والثقافية التي يمثلها الآخر العربي وتُصور الآخر الغربي كشريك محتمل للأنا في تحقيق التقدم والتطور مع التركيز على أوجه التفاهم والتكامل التي يمكن أن تجمع بين الأنا الأمازيغية والآخر الغربي، هذا التصوير الإيجابي يعكس رغبة الأنا في إعادة تشكيل هويتها على أساس الانفتاح والتفاعل مع العالم الخارجي بعيدا عن ثقل التقاليد والقيم التي يتم فرضها عليها من قبل الآخر العربي، وسأتناول صور الإغراء هذه من خلال مقطعين فقط على سبيل المثال لا التحديد:
- المقطع الأول:
- ” Dar k a iwi sin isgÅasn d yan mnnaw yyirn tizi lliv k id niwi. Nkki ula innak, iv trit ad as sul ttinit immi, ur ad lli nttili s tarwa, nzzri ur d yat tikklt ur d snat. Nssfld i yan ubrrap n yat tgrawt n ufulki, masd s ar ttellin s mad d issnkarn igigiln lli d ifl umpgagga n Ugadir, nssudu taylalt s Mrruk nwats tamdint n Ugadir, aylli d yagurn n ixrban v tmdint n Ugadir. ” [8]
- كنت تبلغ من العمر سنتين وبضعة أشهر يوم أحضرناك إلى الديار يا بني أنا و أمك، إن كنت لا تزال ترغب في مناداتها بأمي مرة أخرى. كنا محرومين من الأبناء، زرنا العديد من الأطباء دون جدوى. حتى سمعنا نداء من جمعية خيرية تدعوا إلى تبني يتامى زلزال مدينة أكدير. حينها، ركبنا الطائرة المتجهة إلى المغرب، وقصدنا مدينة أكدير، أو ما تبقى من أنقاضها.
يتجاوز إغراء الآخر الغربي للأنا الإثنية في المقطع الروائي السابق التفاعل الإنساني الظاهر، بعد صدمة الزلزال الذي أصاب مدينة أكدير سنة 1960 ، ليكشف عن علاقة عميقة ومعقدة تنطوي على استمالة واستدراج يُمارسان على الأنا الإثنية الأمازيغية سواء من خلال العوامل النفسية أو الثقافية أو الرمزية، في هذا السياق يستعرض المقطع أعلاه كيف استطاع الآخر الغربي الممثل في الزوجان المتبنيان لصمويل منذ صغره أن يغرياه ويوجهاه نحو رؤية مغايرة لعالمه الأصلي من خلال القوة الناعمة التي يمتلكونها، ويبدأ الكاتب المقطع بوصف حادثة التبني في ظل كارثة الزلزال وهي النقطة التي تحول فيها مصير صمويل جذريا، هذا الإغراء بدأ باستغلال حاجة الأنا الإثنية الماسة بعد الكارثة ليظهر الغرب في موقع المنقذ الذي يتدخل في اللحظات الحرجة، ويقدم الزوجان الغربيان نفسيهما كملاذ آمن بديل عن الفقدان والخراب الذي خلفه الزلزال، هذا التدخل يحمل في طياته رسالة ضمنية مفادها أن الآخر الغربي يمتلك حلولا للمآسي التي تعجز الأنا عن مواجهتها بمفردها ما يولد لدى الأنا شعورا نفسيا بالاعتماد على الآخر الغربي في محنته.
وتكشف اللغة المستخدمة في المقطع أيضا عن ديناميات أخرى لاستمالة الأنا الإثنية في الرواية من خلال عبارات مثل ” كنا محرومين من الأبناء ” التي تحمل طابعا عاطفيا قويا يُظهر الآخر الغربي في صورة الزوجين الحنونين، وهو ما يعكس رغبة في بناء علاقة عاطفية متبادلة بينهم وبين الأنا، هذه اللغة تخاطب اللاوعي لدى صمويل حيث يتم تفعيل إحساسه بالحاجة إلى الانتماء الأسري وهو إحساس بات غائبا نتيجة فقدانه والديه، كما أن استخدام لفظ “بني” في بداية الخطاب يُظهر الآخر في موقع الوالد البديل الذي يمنح الحماية والرعاية وهو أسلوب يهدف إلى استمالة الأنا عبر إشباع احتياجاتها العاطفية.
أما من الناحية الثقافية فإن هذا الإغراء يمتد ليصل إلى حد إعادة صياغة الهوية الإثنية للأنا، ففعل التبني ذاته يتجاوز البعد الإنساني ليصبح عملية إدماج قسرية في منظومة ثقافية مغايرة لمنظومة الأنا الأصلية، فالغرب الممثل في الزوجين، لا يقدم فقط دعما ماديا أو عاطفيا لصمويل بل يعيد تشكيله كفرد ينتمي لثقافة الغرب من خلال التربية والتعليم، أما الإشارة إلى السفر عبر الطائرة من سويسرا إلى المغرب فيرتبط بانتقال ثقافي ضمني أكثر من كونه مجرد إنتقال مكاني حيث يتم انتشال صمويل من بيئته الأمازيغية وإدماجه في بيئة غربية تختلف في قيمها وثقافتها. لا يتوقف الإغراء عند المستوى الشخصي لصمويل في هذه الصورة بل إمتد إلى الكاتب نفسه الذي ينظر إلى الغرب باعتباره فضاء يوفر الحماية والفرص المفقودة في السياق المحلي بمدينة أكدير، واختياره وصف الزوجين السويسريين بهذه الطريقة التي تنطوي على التعاطف والإنسانية يعكس تأثره بالإغراء الذي يمارسه الغرب عموما بحيث تظهر هذه العلاقة وكأنها إعادة توازن بين عوالم متناقضة، وفي الأخير يمكننا القول بأن هذا المقطع يُبرز كيف يعتمد الآخر الغربي على صورة مثالية لنفسه في عملية إغراء الأنا الإثنية، فيظهر نفسه كقوة منظمة ومتحضرة قادرة على التدخل في الأزمات، والرحلة التي قام بها الزوجان إلى المغرب لا تُصور كفعل استعماري مباشر بل كفعل إنساني نابع من الرغبة في المساعدة وهو ما يعزز صورة الغرب كحامل للقيم الأخلاقية العليا، وهذا ما يجعل الآخر الغربي يبدو متفوقا و قادر على انتشال الأنا من معاناتها.
- المقطع الثاني:
- ” iga Mr Thibault yan v middn ar ittlmat tamazivt tizi lli v a stt ffaln islmadn n tmazirt lli itÇallan aäan d ussan i Bnnasr d Sääam. Mr Thibault mrad ur d alln ns tiÇrwalin d wazzar ns achbun, iv isawl rad as ukan inna yan : “ mani igan darun aksimn nvd imsgginn ? ” [9]
- أصبح السيد تيبولت واحدا من أبناء المدينة، يتعلم اللغة الأمازيغية في الوقت الذي يتخلى عنها أساتذة الوطن، المستلبون من طرف عبد الناصر و صدام. ولولا لون عينيه الأزرق وشعره الأشقر، لربما تساءلت عند حديثه؛ إلى أي قبيلة ينتمي؟ هل إلى قبيلة أكسيمن أم قبيلة إمسكين؟
تتسم صورة الآخر الغربي في هذا المقطع بتعقيد وإيحاء رمزي يُظهر الآخر كفاعل ثقافي وإنساني استطاع التأقلم مع الأنا الإثنية الأمازيغية بشكل كبير من خلال فهمه واحترامه لخصوصية هذه الأنا الثقافية واللغوية، وتظهر شخصية السيد تيبولت هنا بصفته ممثلًا للآخر الغربي بشكل عام كنموذج يعكس قدرة الغرب على الاندماج سريعا في البيئة المحلية داخل مدينة أكدير ليس فقط عبر التفاعل السطحي مع الأنا داخل هذا الفضاء بل من خلال تبني عناصر جوهرية من الهوية الأمازيغية مثل اللغة التي تمثل أهم رموز الانتماء والاعتزاز بالإثنية لدى الأنا في الرواية، ولإبراز إغراء الآخر الغربي للأنا في المقطع، حاول الكاتب الكشف عن ذلك من خلال حالة الاغتراب التي تعاني منها الأنا المستلبة ( الممثلة في فئة من الأساتذة ) من طرف الآخر العربي والتي تخلت عن لغتها وثقافتها الأمازيغية لصالح تبعية أيديولوجية مفرطة لعبد الناصر وصدام، كونهما ليسا مجرد شخصيتين سياسيتين فقط بل يمثلان منظومة فكرية وقيمية تعمل على اجتثاث الهوية الأمازيغية وإحلال هوية أخرى مكانها مشرقية، مما يعمق التناقض بين النموذجين العربي والغربي، ليتم تقديم الأخير في صورة إيجابية تتسم بالمرونة والانفتاح الثقافي، فالسيد تيبولت لا يكتفي بالعيش في المدينة كزائر فقط بل تحول ليصير جزء من نسيجها الاجتماعي من خلال تعلمه اللغة الأمازيغية ما جعل هذا الفعل يحمل دلالات متعددة، أولها كون هذا الأخير يعكس احتراما عميقا للهوية المحلية الأمازيغية واستعدادا لفهمها من الداخل وهو ما يُظهر الآخر الغربي في صورة إنسانية متفوقة أخلاقيا، ثانيا يشير هذا الفعل إلى رفض الغرب ممارسة الهيمنة الثقافية المباشرة على الذات المحلية أو الأنا، بل يتجه نحو التفاعل معها على أساس المساواة والتقدير المتبادل، هذا التعلم للغة أضفى على شخصية السيد تيبولت طابعا شبه أمازيغي وهو ما أكده الكاتب في وصفه لمظهره الخارجي.
خاتمة
من خلال ما تناولنا في هذا المقال يمكننا القول بأن رواية ” ismäal n tmagit ” لكاتبها ابراهيم العسري تهيمن عليها الصورة الإثنية للأنا كما بعض الأعمال الروائي للجيل الثاني( إذا جاز التعبير) من رواد الرواية الأمازيغية، ويعدّ إبراهيم العسري بصفته أحد هؤلاء الرواد نموذجا لهذا الاتجاه، حيث استلهم تجربته الذاتية كأحد أبناء الجالية المهاجرة بأوروبا لرسم ملامح علاقة الأنا بالآخر في سياق مدينة أكادير، غير أن مقاربته لهذه العلاقة لم تكن محايدة، بل جاءت مشبعة برؤية أيديولوجية تعتبر الإبداع الأدبي أداة للمقاومة الثقافية في مواجهة ما يراه هيمنة عربية على الفضاءات الثقافية والاجتماعية الأمازيغية بالمدينة. وفي هذا الإطار، يمكننا قراءة روايته بوصفها امتدادا لخطابه النضالي ضمن الحركة الأمازيغية، حيث يتبنى موقفا نقديا حادا تجاه الآخر العربي، مقدّما إياه في صورة انتهازية يسعى من خلالها إلى إخضاع الذات الأمازيغية عبر سلطتي المال والدين، وهو طرح يتقاطع مع سرديات ما بعد الاستعمار التي تفكك ديناميات السيطرة الداخلية، بالمقابل، يعيد تشكيل صورة الآخر الغربي مانحا إياه طابعا إيجابيا مفرطا، وكأنه البديل الممكن لعلاقة متوازنة بين الأنا والآخر في فضاء مدينة أكادير تحديدا والمغرب عموما، هذه المفارقة تفتح المجال لتساؤلات نقدية حول طبيعة هذا الانحياز وحدود الموضوعية في تقديم الآخر، مما يدعو إلى مقاربة أكثر توازنا تراعي التعقيد الذي يحكم العلاقات الثقافية والهوياتية في السياق الأمازيغي المعاصر.
طالب باحث في سلك الدكتوراه في مركز دراسات الدكتوراه في العلوم الإنسانية والاجتماعية، وحدة البحث:
الثقافة الشعبية، إشراف: د. رشيد ركيبي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية عين الشق، جامعة الحسن الثاني في الدار البيضاء
[1] حسن حنفي حسنين: الهوية، ط1، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 2012، ص11.
[2] ابراهيم العسري: Ismäal n tmagit ، مطبعة IDGL، الرباط، 2012،. ص11.
[3] ابراهيم العسري: المصدر السابق، ص 12.
[4] المصدر نفسه، ص31.
[5] المصدر نفسه، ص37.
[6] المصدر نفسه، ص42-43.
[7] المصدر نفسه، ص98.
[8] المصدر نفسه، ص15.
[9] المصدر نفسه، ص50.