“أنا بصيغة أخرى” لكريم بلاد قراءة في سردية الأنا بصيغه الأخرى المختار النواري
منذ أن أطلق فرويد فكرته الشهيرة، التي تصف الإبداع، ومنه الكتابة، مع الأحلام في مصف واحد، واعتبرهما تعبيرا عن المكبوتات والارتكاسات النفسية[i]. والكتابة محكومة بهذا، وخاصة الكتابة السردية، باعتبارها تعبيرا قويا عن الأنا، وتجسيدا صارخا لها، بما تعنيه الأنا من نرجسية مفرطة، وإغراق مخيف في دهاليزها[ii].
وسيرا على هذا النهج، ركزت الكثير من الدراسات السردية على استجلاء جوانب حضور الأنا فيها، ورصدتها من خلال “صورة الأنا والآخر في السرد”[iii]، أو تخصيصها في أعمال الطيب صالح[iv]… ه، أو من خلال… ه.
وتماشيا مع هذا السياق، سيتم التعامل مع المجموعة القصصية لكريم بلاد، المعنونة بـ”أنا… بصيغة أخرى”[v]، فنستعرض تجليات “الأنا” من خلال سبع نقاط، هي:
1ـ الأنا عتبة العتبات؛ ص 1
2ـ الأنا قوة العتبة؛ ص 3
3ـ الأنا صوت السارد؛ ص5
4ـ الأنا حقيقة الشخصيات؛
5ـ الأنا جوهر الحكي؛
6ـ الأنا المؤطِّر الزماني؛
7ـ الأنا المُتموْقِع المكاني.
أولا: الأنا عتبة العتبات:
أول ما يواجهك من نصوص الكاتب – وأتحدث هنا قصدا عن الكاتب كريم بلاد – في مجموعته القصصية “أنا… بصيغة أخرى”، ما تعبر عنه “الأنا” بكل وضوح، وتمتد بطولها – ألِفَيْها اللذين يحفانها من كل جانب – وعرضها – نُونِها المتمددة بين ألِفَيْها – وتخرج إلى العالم بعمقها، الذي يتمثل أولا فيما يجسده رسم الأنا الحروفي من قوة السقطة من شامخ الهمزة، تتناسب مع سرعة اللقفة واللقطة من كفي النون، وتعريق احتضانها، لتُسْلِمها لمَدٍّ قوي، ينحشر في الفم والخياشيم، ليملأ الفضاء المفتوح أمامه، وليسرح عبره، لا يَحُدُّه سوى الصدى. ويتمثل ثانيا فيما تحمله دلالته من شموخ الإفراد، وإباء الفرادة، وعزة العزلة، وأنفة الاعتزاز، وسمق الوحدة، ووحدة الواحد، ومركزية الوجود، ومحورية الكينونة.
وتواجهك لفظه “الأنا” في العتبات، التي احتفظ الكاتب بحق حضوره من خلالها، وأصر على إيصال صوته للمتلقي، وإسماعه إياه، واضحا جليا، صريحا صراحا. ومن هذه العتبات:
1ـ العنوان: “أنا… بصيغة اخرى”: الذي تصدرته الأنا متبوعة بنقط البتر.
2ـ الإهداء: “إلى وفاء من تعرفني في صيغي كلها” (ص 3)[vi]: الذي تصدرته “وفاء”، والتي لا يمكن معرفتها، ولا تعريفها، إلا بمعرفتها بالكاتب: “من تعرفني”، فالذي يحضر “وفاء” هنا هو “الأنا”، ومعرفتها بالأنا، ولا مشروعية لوجودها في العمل إلا من خلال هذا، ولا مبرر لحضورها في حقيقة الكاتب الا بتحققها من خلاله: “وفاء من تعرفني”. (ص 3).
3ـ الإضاءة: “إضاءة“ في صيغتها الإفرادية التنكيرية، تتقدم العمل في صيغة التماس واحد ووحيد، لا يًراد للعمل أن يُقرا بدونه.
العتبة التي حملت توقيع “المؤلف”، وتبدأ بالقول: “أنا السارد متضخمة جدا” (ص 5)، فالسارد مشروع المؤلف وإنجازه، وصنيعه الورقي، تتحكم فيه “أناه”، و لا يمكن التعرف عليه، ولا اقتحام عالمه عليه، إلا بالإمساك بتلابيبه، لأنها تملأ كل فضاءاته، وتسد جميع آفاقه.
يريد المؤلف من القارئ أن يقرأ هذا السرد، وهو ماسك بمفتاح مغاليقه، التي لا يعرف شفرتها إلا هو، لأنه هو واضعها ومرتبها ومحكم نظامها.
الإضاءة تنوير لدهاليز الحكي، وتراتيب التأليف.
الإضاءة هدي لمتاهات الروايات، والتواءات الكتابة.
الإضاءة رغبة في المساعدة على فتح مغاليق الأنا، وتشتيت دياجير صيغها.
الإضاءة عزم على تبديد حجب الذات بحضورها المتعدد، وإصرار على تكسير أقنعة العبارة.
الإضاءة أخذ بيد القارئ، وهديه إلى تخفيف كثافة نسج الحكي، وتوجيه الى تفكيك تعقيدات البناء.
بلون البر والبحر، السماء والأرض، والحضر والبدو، بلون العمران والطبيعة..
بلون الوضوح والغموض، والظهور والخفاء، بين ثنائية اللون: الأسود والأبيض وتعدد الألوان، بين تملكك المساحة بالتقسيم العمراني وانفلاتها بالانبساط الطبيعي.. تتشكل لوحة الغلاف، فتجمع بذلك طرفي الكون، كما أراد لها خالقها الأول، وتتنمط فسيفساء الوجود، كما أراد أن يخرجها المتدخل المستخلف، لتنعكس بتشكلات لونية من لوحة، يتكسر على تقاسيمها السرد، وتنكمش الأنا في زواياها، وتختبئ خلف قطاعها، لعلها تلتقط الأنا بصورها المتعددة: أنا السارد، وأنا الشخصية، وأنا المؤلف. وتقدم من كل صورة صيغها الأخرى.
للأنا في هذا النص صيغ صرفية، تصر على أن تكون في أحيان كثيرة صريحة وواضحة، فتأتي بصيغة المفرد المتكلم في معظم النصوص وتسيطر على كثير منها (هذا الخارج مني (ص 33) ـ النائم المنتبه (ص 39)). وقريب منها انعكاسها على شخصية المخاطب، التي غالبا ما كان النصف الثاني في شخص “نهى” (ص 11، 69)، أو كان غيرها في شخصيات مقابلة، تختفي خلف مسميات عدة (أبي (ص 7) ـ الأستاذ (ص 53) ـ الحكيم (ص 75) ـ الصاحب (ص 83)).
فكانت مرات باسم “كريم”، الموافق لاسم الكاتب، ولبست في مرات أخرى أقنعة التخفي، فانتعتت بـ”مستشار الملك” (ص 59)، و”المريض” (ص 109) والتلميذ (ص 53) ورجلنا (ص 83) والمنتظر (ص 115)؛ واكتفت مرات بضمير المتكلم (أنا ووحوش المدينة (ص 47) أنا والمدينة (ص 75) )، أو حرصت على أن تكون أكثر تمويها، فاسترث خلف الضمائر. وفي أحايين قليلة انجمعت وتكدست في ضمير النحن للمتكلمين، ولا أدري أيراد به التثنية (كريم ونهى)، أم الجمع (الحشود). وكما في ضمير المخاط بالمفرد مقابلا للمفرد المتكلم، كانت مخاطبة الجمع، وحتى مخاطبة الغائب، مقابلا لصيغة النحن.
فالانا ليست نمطية، وإنما هي زئبقية، تحكم بالإطار الذي توضع فيه، فتتقولب بشكله، يحكمها الحضور مثلما يحكمها الغياب ( تمرينات على الموت)، ويحكمها الزمان (قهوة الانتظار)، مثلما يحكمها المكان (حمير القبة).
هل الأنا في أول انتظار هي نفسها في كل لحظات الانتظار.
إن “إضاءة” في صيغتها الإفرادية التنكيرية، وهي تتقدم العمل في صيغة التماس واحد ووحيد، لا يًراد للعمل أن يُقرا بدونه، تلح على القارئ أيما إلحاح أن يأخذ إيحاءاتها هاته بعين الاعتبار.
4ـ الصورة على الغلاف:
بلون الوضوح والغموض، والظهور والخفاء، بين ثنائية اللون: الأسود والأبيض وتعدد الألوان، بين تملكك المساحة بالتقسيم العمراني وانفلاتها بالانبساط الطبيعي.. تتشكل لوحة الغلاف، فتجمع بذلك طرفي الكون، كما أراد لها خالقها الأول، وتتنمط فسيفساء الوجود، كما أراد أن يخرجها المتدخل المستخلف، لتنعكس بتشكلات لونية من لوحة، يتكسر على تقاسيمها السرد، وتنكمش الأنا في زواياها، وتختبئ خلف قطعها، لعلها تلتقط الأنا بصورها المتعددة: أنا السارد، وأنا الشخصية، وأنا المؤلف. وتقدم من كل صورة صيغها الأخرى.
صورة الغلاف التي تتحكم فيها صورة شخصية، نعتبرها محور صورة الغلاف، وبالانعكاس محور العمل الكتابي المجسد، لونيا وتشكيليا، بالصورة. واحتلالها – الصورة الشخصية السوداء – موقعا مهما من صورة الغلاف، مهما تعددت زاوية النظر إليها، من أمام أو من الجانب – الأيمن على وجه الخصوص – من فوق ومن تحت – موضوعة على أعلاها وعلى أسفلها، جلية دامغة أو غامقة مشوشة، مرتبة منتظمة أو مرتبكة مشعثة، مكشوفة ملونة أو مخفية مسودة، ثابتة في واقع أرضى أو خيالية سوريالية.
وعلى درجه اقتناعه، وبراعته في صياغة أساليب إقناعه، وعلى قوة نسج خيوط حكيه، وقدرته على السبك، وإتقان الترابط، ينطلي ذلك على معالجه، حتى ليشك أحيانا أهو بصدد الحقيقة أم بإزاء الخيال؟ أهو أمام مفتر متلاعب أم في مواجهة ؟ بالقَدْر الذي يشبه ما يعيشه مصاب بالفصام، ويجعله هو أولا مصدقا الذي يدور في مخياله.
5ـ الصورة الشخصية السوداء تضعه أمامها وتراقبه، وربما تتحكم فيه، إن لم يكن كليا فجزئيا، أو مزروعة في واقع أرضى. الصورة الشخصية الملونة تقف على رأسها وتخلف الواقع وراءها، وتنظر إليه بالمقلوب، إن لم يغمض عليها جزئيا فكليا. وسواء كانت الصورة واقفة على قدميها أو على رأسها، فإن لون الواقع الأرضي هو لون اليافطة، التي كُتب عليها اسم كريم بلاد – وتلك عتبة خامسة.
6ـ عناوين النصوص الأربعة عشر: كان لفظ “الأنا” مرة أخرى، وبشكل صريح، مسيطرا على معظمها (ثمانية منها)، بافتتاحه لها أولا، وباحتلاله ثانيا كلها (في نص واحد: أنا… النائم المتنبه) (ص 39)؛ أو نصفها (أنا) في سبعة نصوص، ونصفها الثاني – مقابل أنا- الإنساني (أنا… وأبي (ص 7) – أنا… ونهى (ص 11) – أم مواجهها الفضائي (أنا… واللوحة (ص 53) ـ أنا… والبيت الكبير (ص 69) ـ أنا… والمدينة (ص 75)) وكان لفظ “أنا” لا يكتفي بالحضور في العنوان، وإنما يحضر بشكل ضمني في نص واحد، ويسيطر عليه، مهما بذله كاتبه من جهد في العزل والتنكر والاستبعاد، إلا أنه في الأخير يسقط في الرجوع إليه، والغرق داخله (هذا الخارج مني (ص 103)).
وتبقى النصوص الخمسة الأخرى المكسرة لنغمية امتداد الأنا وسيطرتها حينا على التوالي النصي، لإزعاج انسراب النصوص العشرة الأوائل بالنص الثالث (المرأة والمطرقة (ص 19))، والذي في الحقيقة لا يكسر التوالي التيماتي – المرأة – مع ما قبله (أنا… ونهى (ص 11))، وحضر ضمير المتكلم مسيطرا وطاغيا، ومستعدا على فواتح النصوص الأربعة الأخيرة (حمير القبة (ص 83) ـ خلق الإناث (ص 103) ـ تمرينات على الموت (ص 109) ـ قهوة الانتظار (ص 115))، التي كسرت عناوينها طغيانا الأنا الماسك بزمام عناوين ما قبلها، بحيث كان الأنا ضمير الفعل، ومنذ الجملة الأولى، ما عدا نص واحد (خلق الاناث (ص 103)).
ثانيا: الأنا قوة العتبة:
لا تكتفي الأنا بأن تكون مفتاح بعض أنواع العتبات، ولا مفتاح معظم بعض أنواعها الأخرى، حتى تتحول إلى سر قوة العتبات، بدءا باعتماد تقنيات العرض، التي اخترعها الكاتب، وتوسل بها وسائل لتحقيق غايته. ومنها:
1ـ تعدد صيغ الأنا: يؤمن الكاتب بأن الأنا واحدة، خلقا ووجودا، منطقا وتصورا، ولكنها متعددة على مستويات أخرى، منها اللغة (الضمائر في الصرف، مفردا ومثنى وجمعا)؛ ومنها الواقع عبر أدوات كثيرة، منها الدم والتناسل والتشابه والتأثير والتأثر والتفاعل والتقمص والحلول والفناء وغيرها؛ ومنها الافتراض على مستوى المنطق؛ ومنها الإسقاط على مستوى الخيال. وتحضر كل هذه المستويات في النص السردي على اختلاف أنواعه. وقد لجأ إليها الكاتب كريم بلاد على مستوى اللغة في اختيار العبارة الصرفية – الصيغة – (أنا… بصيغ اخرى)؛ وعلى مستوى الواقع الحكائي طبعا عبر الدم (أنا… وأبي (ص 7))، والتناسل (أنا… ونهى (ص 11))، والتشابه (هذا الخارج مني (ص 33))، والتقمص (أنا… النائم المتنبه (ص 39))، والانعكاس (أنا… واللوحة (ص 53))، والتعارض (أنا… والملك (ص 59))، والتفاعل (أنا… والبيت الكبير (ص 69))، والحلول (أنا… والمدينة (ص 75))، والفناء (تمرينات على الموت (ص 109))، والتناسل (المرأة والمطرقة (ص 19) – خلق الاناث (ص 103))، والتعارض (حمير القبة (ص 83))، والحلول (قهوة الانتظار (ص 115)). ومن خلال مستوى اللغة تتحقق باقي المستويات منطقا وخيالا.
ولا تكتفي صيغ الأنا بالحضور المتعدد من خلال العتبات العنوانية، وإنما لها حضور جلي في نصوص العتبات بحيث تأتي في عتبة الإهداء بشكل صريح، يعترف فيه الكاتب واقعا بأنه ليس صيغة واحدة ـ الكاتب ـ وإنما هو صيغ متعددة، لا تستوعبها العتبة الواحدة، ولا الجزء منها، ولا العبارة الواحدة، وإنما هي متعددة وغنية، بصورة تفيض عن حجم الشخصية ومداها وقدرتها، لكي تطال حجومها وامتداداتها وأقدارها.
إن الكاتب بهذا يعترف باحتمال تعدد صيغة اللامنتهي، ويقطع بوجود صيغه العديدة، التي قد يساعد القارئ على حصرها، ويمكن أن يختزل عليه المجهود، فيلخص تلك الصيغ في عبارة واحدة، هي: “كريم بلاد”. وقد ترجم الكاتب في صلب الإهداء تقريبا لهذا التعدد، وبعبارة أكثر تفصيلا، وأقرب توضيحا، بالقول: “إلى // وفاء // من تعرفني في صيغي كلها، وتحترم تقلباتي بين صيغة وأخرى” (ص 3). وكانت الإضاءة نص الإقرار على أريكة الاعتراف في حضرة الطب النفسي، الذي يسيل مداد النفس دون إكراه، وينصت لبوحها دون إزعاج، ويتفهم وضعها دون أحكام. جاء في نص الإضاءة كاملا – وأنا مضطر لعدم بتره، ففائدته في الإنصات لكله: “أنا الساردِ متضخمة جدا، تستوعب النرجس وأسطورته، وتنأى عن فرويد وتأملاته. برغم ذلك أصررتُ على أن أرافقها في رحلة البحث عن أناها، متلبسة بشخوص من الحياة، ومن الخيال، يبرز كريم عَلما، ونهى امرأة كل الحيوات. وظللت في تلك الرحلة قريبا منها أسمع وأرى” (ص 5).
2ـ التقلب بين الصيغ: إن القول في النقطة السالفة بتعدد صيغ الأنا، مفاده أنها لا تثبت على صيغة واحدة، وإنما هي دائمة التنقل بين الصيغ، فلا تكاد تستقر لهنيهة، أو للحظة، وربما للحظات، على صيغة، حتى تشعر بالضيق بها، والضجر منها، وتفكر في الانقلاب إلى غيرها، وكأنها في رحله مع الأنا، لا تكاد تستقر على حال معها، ولا تألف الإقامة في مكان تصل إليه قدماها. وما ذاك المكان إلا فضاء صيغة من الصيغ، ففضلا عن كون الكاتب يعترف بأن الأنا في رحلة دائمة، كما جاء في الإضاءة (ص 5)، بل وكرسه في الإهداء، حينما تحدث عن العودة، التي لا تعترف إلا بالرحلة: “حتى أعود”. الإهداء (ص 3)، بل وخصص الرحلة في الإضاءة، بأن جعلها “رحلة البحث عن أناها” (ص 5)، وخلال الرحلة يُستلزم الحديث عن تعدد صور الحياة: “نهى امرأة كل الحيوات” (ص 5).
ويفرض الحديث عن الأنا التقلب بين العديد من صيغها، التي لا يمكن حصر عددها، ولا ضبط نوعها، ولا حد خاصياتها، ولا تقنين ميكانيزمات تقلبها، ودوافعها وإبانها وتمظهراتها: “أنا السارد متضخمة جدا”. الإضاءة (ص 5). وقد حاول الكاتب اختصار ذلك، فقال في الإضاءة: “أنا متلبسة بشخوص من الحياة” – أي من الواقع – فالتقلب ضارب في العمق، متجذر في التنوع، لا تقاس سعته إلا بما تستوعبه سعة الواقع، وشساعة الخيال: “أنا متلبسة بشخوص من الحياة، ومن الخيال” (ص 5).
3ـ العودة إلى الصيغة الواحدة: حكمنا الكاتب في عنوان نصه السردي بالانطلاق من مسلمة تعدد صيغ الأنا، والتي صاغها في العنوان بعبارة مموهة (أنا… بصيغ أخرى)، وضِمنها الاعتراف بتقلب الأنا بين صيغها العديدة، وصاغها صراحة في الإهداء والإضاءة، وفرضتها طبيعة الرحلة بحثا عن الذات. وقد كانت العودة إلى الأنا متبوعة في صيغتها الواحدة عبر ثلاث خطوات:
أولها بحث الذات عن أناها: لأن البحث عن الذات، وإن كان يحتم المرور عبر محطات البحث، والتقلب بين صيغ عديدة للذات، إلا أنه محكوم بالغاية، التي يرسمها، والنهاية التي يخطها، وهي التوصل إلى الذات، المبحوث عنها ـ أي صيغتها الواحدة ـ وقد كان التصريح بذلك في الإضاءة (ص 5) بشكل واضح، وكما سلف.
ثانيا العودة إلى الأنا العاقلة: طبيعة البحث عن الذات، والمرور عبر مراحل أثناء الرحلة، تُعرِّف على صيغ مختلفة، وصور للذات متباينة، تجلب الرضا لصاحبها عنها، وإلا لما تم التحول عنها، فكلما تشكلت الصيغة غير المرضي عنها، أو لنقل الصيغة غير العاقلة، ولذلك فإن العودة من رحلة البحث لا يمكن أن تتحقق، وأن تتكلم إلا بأن “أعود كما كنت أنا عاقلة” وكما ورد على لسان الكاتب في الإهداء (ص 3).
ثالثا “الأنا“ منطلق وغاية: لقد كانت “أنا” منطلق العمل كتابيا من خلال العتبات العنوانية بحيث سيطرت لفظة “الأنا” على معظم العناوين، وغيرها من العتبات الإهدائية والإضائية، وكانت “أنا” غاية العمل من خلال نهاية بعض العتبات العنوانية الفرعية أيضا (هذا الخارج مني – أنا النائم المنتبه) وبعض العتبات المدخلية الإهدائية: “حتى أعود كما كنت أنا عاقلة” (ص 3)، التي تنتهي بها، وتجسد حقيقة الغاية الموضعية؛ والإضائية التي تفتتح بتحديد الغاية المؤطرة بالمنطلق، فتجمعهما دفعة واحدة: “أنا السارد… وأسطورته”. وتقدم تفصيلا لهذا الارتباط، وشرحا له، بالعودة إلى الواقع، الذي لا يوهم: “أنا السارد… متلبسة الحيوات” (ص 5).
أليس تعدد صيغ الأنا (… بصيغ أخرى) إلا محاولة لطمس هوية الأنا، التي ليست في الحقيقة إلا واحدة “أنا…”، وإن كان الحكي، الذي ما هو إلا محاكاة للواقع، يحاول تلبيسها وتمويهها، وخلق صورها، واختلاق أشكالها، حسب مواقف الحياة الكثيرة، التي تمر منها.
ثالثا: الأنا صوت السارد: ص 5
يعترف الكاتب للسارد بأناه وقوة نرجسيته في مستهل هذه المجموعة (إضاءة ص 5)…
يتبع في العدد القادم
1ـ يمكن الرجوع مباشرة إلى كتاب الأنا والهو لسيغموند فرويد، والذي نشره عام 1923م، وترجمه إلى العربية محمد عثمان نجاتي، دار الشروق، بيروت، الطبعة الأولى 1954، الطبعة الرابعة، 1402ه/ 1982م؛ أو يمكن الرجوع إلى ما كتبه عن الأنا في “معجم علم النفس والتحليل النفسي”، فرج عبد القادر طه، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1989م. وكذلك إلى “مصطلحات علم النفس”، منير وهيبه الخازن، دار النشر للجامعيين، “مصطلحات التحليل النفسي”، جون لابلانش، ج. ب. بونتاليس، ترجمة مصطفى حجازي، سلسلة المنظمة العربية للترجمة.
2ـ علم النفس والأدب، سامي الدروبي، مطبعة المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية، د. ت.
3ـ صورة الأنا والآخر في السرد، محد الداهي، دار رؤية للنشر والتوزيع.
4ـ جدل الأنا والآخر في أعمال الطيب صالح، خالد محمد فرح.
5ـ أنا بصيغة أخرى، كريم بلاد، مجموعة قصصية، المطبعة المركزية، أيت ملول، المغرب، الطبعة الأولى، 2022م.
6ـ تخفيفا للهوامش سيتم التعامل مع متن السرد، ويُشار للصفحة محل الاستشهاد مباشرة بين قوسين: (ص ؟).
ناقد من المغرب