بدأ الكاتب المبدع محمود شقير بكتابة القصة القصيرة في الستينيات حيث يعتبر واحداً من أبرز كتّاب القصة القصيرة الذين أخلصوا لهذا الفن وقاموا بتطويره وإبرازه ليحتل المكانة المتميزة التي تليق بهذا الإبداع.
تحتوي المجموعة القصصية بعنوان: «صورة شاكيرا» على تسع وعشرين قصة منها ست قصص عن شخصيات عالمية معروفة وتفاعل المجتمع الفلسطيني معها وخاصة شريحة الشباب الفلسطيني، وأما باقي القصص فهي حول شخصيات محلية من المجتمع الفلسطيني، والتي تشترك مع القصص السابقة في بعض الملامح الأسلوبية والدلالات الاجتماعية والإنسانية.
أما عن مكان القصص فهو في الأرض المحتلة ماعدا قصة «رقص». زمن القصص هو زمن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
حملت كتابات الكاتب المبدع محمود شقير نقداً لاذعاً للمجتمع ونقمة على الكثير من سلوكياته كالنفاق والتملّق والجهل والتخلف، وقد استخدم صوراً تمثيلية يصف فيها الفلسطينيين كضحية للاحتلال الإسرائيلي كي يبث غضبه على ما يرى من ممارسات لا يقبلها، وقد بدت هذه القصص إحدى أعمدة الفن الواقعي فهي الأصدق تمثلاً لأساليب الواقعيين، بكل ما حملته من الصور وفي صراحة الرصد فيها.
لم يعتمد الكاتب المبدع محمود شقيرعلى أبطال خارقين، كما أنّ شخصيّات الأبطال لا تُعالج عنده من خلال وصفها الشّكلي أو الحركي في معظم الحالات، إنّما من خلال وجودها ضمن اللّقطة الفنيّة التي يُحضّرها محمود شقير بشكل بارع جداً.
لا يصف محمود شقير شخصياته القصصية بإسهاب، كما أن الصّفات الشكليّة هي صفات ثانوية عادة لا تذكر إلّا لأهميّة خاصّة بها، كما فنان الكاريكاتور يَرسم محمود شقير شخوصه وأبطاله بصفات قليلة كما اسكتش صغير، لكنه كافٍ لإعطاء صورة كافية عن الشخصية، بحيث يمكن للقارئ تجسيدها وإحياءها في ذهنه فوراً. لا تتميّز القصص بمعظمها بحدث يكبر ويتعاظم أو بحبكة قصصيّة معقدة، إنّما هو بلغة سلسة يجيب عن الكثير من الأسئلة بأسئلة أخرى. وتكثر في قصص (صورة شاكيرا) لسعات السخرية والتهكم والاستهزاء والمشاغبة التصويرية مع تأطير الملامح العابرة التي تدهمه، والأخاديد العميقة التي تجذبه أو تلك التي ينجح في تجنُّبها! مع نقد اجتماعي مبطن ومكثف.
يمكننا وصف أسلوبه بالكتابة بالكوميديا السوداء فهناك في قصصه الكثير من المفارقات التي تدعو للحزن والتأمل وتثير السخرية.
في قصة صوف
يصف الكاتب الراعي البدوي الذي يرعى نعاجه ثم ينام فيقدم صورة بليغة عن قسوة الحياة في الأرض المحتلة، والكلب النائم كناية عن إحساسه بالأمان مؤقتاً، والحمار الذي ينهق وكأنه يقول أنا موجود. أما المرأة فهي تغزل الصوف بمغزلها اليدوي على فخذها العاري فكأن الكاتب يشير بهذه الصورة إلى محاولة المرأة غواية البدوي. ثم يأتي بائع الحلوى فنبدأ بالتفاؤل بأن هناك ثمّة شعور بالفرح وسط الفقر والمعاناة من قسوة الحياة. الكلب يشم رائحة ذئب قريب فينهض مجفلاً وهو ينبح وكأن الكاتب يتهكم بالاحتلال الإسرائيلي والذي يشبهه بالذئب فكلاهما لا يمكن في وجودهما الشعور بالأمان.
في قصة حيرة
يروي كهل يجلس في سيارة قائلاً هناك بنت جالسة في نفس السيارة ترنو عبر زجاج النافذة وتتذكر انفصالها عن حبيبها بمرارة وكأن الراوي يغوص في أعماق نفس البنت من خلال انطباعه عن مشاعر الحزن في ملامح وجهها، يجلس بجانبها كاتب يفكر بحبكة لقصته ويبدو هنا أن الراوي يقصد أنه استنتج من المظهر الخارجي للشخص الجالس بقرب الفتاة بأنه كاتب لديه هواجس دائمة حول مايقوم بكتابته من نصوص، تهبط البنت من السيارة، يهبط الكاتب هو الآخر من السيارة يبتسم للبنت ويضع يده بيدها والبنت مندهشة تسحب يدها في اللحظة الأخيرة ثم يمضيان كتفها ملاصق لكتفه ويداهما متقاربتان هنا يلعب الراوي دوراً جديداً ألا وهو مراقبة السلوك الغريب والمستهجن للبنت والكاتب، ثم يتساءل الراوي الكهل الذي يشكك بنفسه وبما رآه: هل كان ثمة كاتب مع البنت ؟هل كان ثمة بنت أصلاً؟ وكأنه يهمس في أذننا قائلاً لقد كتبت لكم قصة من محض الخيال، أو يريد القول أن جميع استنتاجاته خاطئة، وهنا يكمن جوهر السخرية في هذه القصة حيث نقد الكاتب المبدع الكهل (الراوي) وشخّص النواحي السلبية لديه في أنه يخترع قصصاً فيها افتراء على الغير.
في قصة حظ
يتردد الكاتب المغمور على مكتبة ويصطحب معه كتاباً يقرأه ونادراً ما يشتري كتاباً (يريد الراوي هنا الإشارة إلى ميل الكاتب المغمور إلى لفت الأنظار). كان إحدى أسباب تردده على المكتبة أن أحد زملاءه قال له بأنه من الممكن أن يلتقي مع نساء عاشقات للأدب والأدباء: (تلك الجملة تدل على السخرية). كان قد أصابه الملل من حياته الزوجية مع أم البنين التي كفّت عن التجاوب معه بعد وليدها السابع (تتجلى نزعة الذكورة لدى الكاتب المغمور في تلك الجملة وكأن الزوجة مسؤولة وحدها عن الوضع الراهن الذي وصلت إليه من جراء إنجابها خمسة ذكور). هو كاتب لكن لا يجيد كتابة الشعر التقى في المكتبة بامرأتين ابتسمتا له وسألتاه إن كان شاعراً فأجابهما بأنه ناثر وليس بشاعر فتركتاه. رغم ذلك بقي يتحدث مع أصدقائه المعنيين بالأدب حول تلك الابتسامتين (لأنه شعر بانتصاره لحصوله على ابتسامتين من المرأتين). وهنا أيضاً تتجلى نزعة التهكم لدى الكاتب محمود.
في قصة ترقّب
يقول الراوي: في الليل تغرق مع زوجها في تواصل حميمي (الحب في زمن الحرب والاحتلال الإسرائيلي). هي تعمل معلمة في مدرسة قريبة، وهو يعمل موظفاً في مدينة بعيدة يجتاز كل يوم طريقاً طويلاً وثلاثة حواجز يرابط عندها جنود الاحتلال الذين من الممكن أن يختلقوا مختلف الحجج فيقتلوه عندما تستبد بهم رغبة القتل وهذا ما يجعل الزوجة تعيش في خوف وقلق دائمين على زوجها (يبيّن الكاتب هنا كيف تتقاطع العلاقة الزوجية مع الوجود المرفوض لجنود الاحتلال في المدى الذي يتحرك فيه الزوج عبر الحواجز). يصوّر الكاتب المبدع من خلال هذه القصة الواقع المر الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال، لتركيز الانتباه على ما يشتمل عليه هذا الواقع من انحراف عن أبسط معايير حقوق الإنسان والكرامة البشرية، ولتحقيق هذا التركيز، لابد من وضع الآخر الجلاد – تحت مجهر الفن- وفضحه، ولتبيان خطر تصرفاته، وفي المحصلة فإن هذا يشكل تعبيرًا عن الحالة العامة التي يعيشها الشعب الفلسطيني، شعب تواق إلى حياة طبيعية، لكنه لا يستطيع ذلك بسبب وجود الاحتلال، ولن يستطيع ذلك إلا بزوال الاحتلال والظفر بالحرية.
في قصة رقص
وصلوا إلى المكان المخصص لهم في الطرف القصي من المدينة. وصلوا من كل جهات الأرض وعلى مقربة من البحر كانت اجتماعاتهم الطويلة مكرّسة لقضية واحدة دون غيرها(من المؤكد أنها القضية الفلسطينية). في اليوم الأول تبادلوا الذكريات (أكثروا من سرد القصص التي تدور حول التين والزيتون) وهذا يدل على انتمائهم الدائم لبلادهم ومحبتهم لها. في اليوم الثالث أطال النظر في المرأة التي انفصل عنها. في اليوم الرابع احتدم الخلاف بينهم كان السبب عائد إلى بحر بعيد في الأذهان(غزة…….. فلسطين). في اليوم الخامس يعاني كبيرهم من إرهاق مفاجئ سببه السهر المضني للعثور على صيغة يقبل بها كل القادمون من أطراف الأرض ينقلونه إثر ذلك إلى المستشفى( يشير هذا إلى الحالة العامة التي يعيشها المثقفون الفلسطينيون من خلافات سياسية وإيديولوجية وهذا ما يشكل خطراً على وحدة قراراتهم وتشتتهم في مواجهة المحتل)، بينما ينام الرجل مع مطلّقته، ثم يطمأنّ الجميع على كبيرهم بأنه اجتاز مرحلة الخطر.في اليوم السادس تبادلوا العناوين. في اليوم السابع توصلوا إلى اتفاق حول الهدف الذي اجتمعوا من أجله. نصبوا حلقة للرقص وطلبوا من زوجة القائد الذي لم يقتل بعد(كل قائد فلسطيني هو مشروع شهيد) كي تشاركهم الرقص تتقدم زوجة القائد وتطلق الشرارة الأولى للرقص ثم تتوقف عن الرقص، يقف الرجل الذي تصالح مع مطلقته مفكّراً في خطة للتملّص منها.
في قصة خطوبة
تنتظر الفتاة الخطيب الموعود بقلق وتخامرها الظنون بأنه من الممكن ألا يأتي ربما ارتبط بغيرها ربما افترت عليها إحدى النساء بكلام غير لائق عن سلوكها ربما اعترضته دورية وقادته إلى السجن وهذا ما يحدث غالباً في الأرض المحتلة.
أخيراً تشاهد الفتاة من الشرفة خطيبها قادماً فتعلن ذلك بفرحة غامرة لجميع الحضور من أفراد العائلة ومنهم الجد الذي يحتجز الخطيب ذو العينين الصغيرتين ولا يترك للحفيدة فرصة للانفراد به. ترصد هذه القصة الوساوس والهواجس التي تعتري قلب الفتاة والمرتبطة بالقضايا الاجتماعية (الافتراء بكلام غير لائق)، والهم الفردي كالعنوسة في المجتمع الفلسطيني والهم العام بالتواجد الدائم لدوريات الجنود الاسرائيليين التي هي نتيجة للاحتلال الصهيوني لفلسطين.
في قصة صورة شاكيرا
اختار الكاتب عنوان القصة للسخرية من الناس الذين يهتمون لسبب أو آخر بمشاهير الناس من الغرب. يتوجه الشاب طلعت شقير للمرة السابعة إلى مكتب وزارة الداخلية في القدس، لتجديد وثيقته التي بدونها لا يمكنه السفر طلحة يعاني من الوقوف في الطابور من التزاحم من تجاوز بعض الشباب على الدور. بتوصية من منظمة (إسرائيلية) أهلية تتدخل لتسهيل عرض أوراق تجديد هويته، ينادي الحارس(روني) على طلحة (شكيرات) بدلاً من طلعت شقير وكأن الاحتلال يحاول تبديل الأسماء بأسماء عبرية، ولتشابه الاسم يسأله الحارس إن كان يعرف شاكيرا، فيجيبه طلحة بأنها ابنة عمه، ويعده بأنه سيحضر له آخر ما أرسلته له من أشرطة وسيديات، وهنا يكشف الكاتب اضطرار الفلسطيني للكذب والمجاملة والتملّق كي يحصل من سلطات الاحتلال على بعض وثائقه الضرورية.
يهدي طلحة شكيرات الحارس (روني) أشرطة وسيديات شاكيرا، ويعلّق صور شاكيرا (التي يحبها)على جدران منزله. يبدو لنا هنا طلحة الفلسطيني وكأنه لا يهتم بمقاومة الاحتلال، وينحصر اهتمامه بشاكيرا.
يخبر طلحة والده بالأمر وأن شاكيرا سوف تكون لهم طاقة فرج يستعينون من خلالها على استصدار وثائقهم. يمتعض الوالد في بادئ الأمر لأن شاكيرا مغنية وراقصة ثم يوافق. يدور لدى عمي صراع داخلي بين الأخلاقيات التي يتمسك بها وبين مصلحته في كونه سوف يستفيد في استصدار بطاقة هوية بعد ضياع بطاقته في القدس وهذا ما يظهره لنا الكاتب. يخترع عمي حكاية عن (جد) شاكيرا الذي هاجر إلى لبنان، وأحب هناك امرأة مسيحية وتزوج منها بعد أن تمسّح، ومن ثم هاجر أحد أبنائه إلى ( كولومبيا)، وهناك أنجب شاكيرا.
يرافق عمي ابنه طلحة في التوجه إلى مكتب الداخلية للالتقاء بالحارس المعجب بشاكيرا يشير له طلحة كي يراه ولكن (روني) لا يستجيب، بعد مناداة الحارس بعدّة لغات يسأله الحارس عن غرضه فيذكّره عمي بأنهما من أقارب شاكيرا فيأمرهما الحارس بالاصطفاف بالدور.عاد عمي مع ابنه خالي الوفاض واعتزل الناس ثلاثة أيام قام أثناءها بنزع صورة شاكيرا عن الحائط.
أخبرني ابن عمي فيما بعد أنه سيذهب إلى الحارس (روني ) مرة أخرى ومعه مجموعة من أغاني ابنة العائلة شاكيرا المحبوبة.
الخاتمة:
يرصد الكاتب من خلال تلك القصص الحركة الداخلية للواقع في فلسطين المحتلة القلق والخوف والترّقب والحيرة التي تلازم الفلسطينيين الذين يعيشون في ظل حكم الاحتلال الصهيوني، وأثر ذلك في علاقاتهم مع بعضهم البعض ومع المحتل، كما يرصد العلاقات الاجتماعية بين الفلسطينيين الذين يجمعهم الحب، والذكريات، والأحزان، والأشياء التي تفرّقهم كالتملّق والكذب والافتراء.
اتّسم أسلوب الكتابة بالسهل الممتنع، والابتعاد عن الزخرفة اللغوية، وتوفير متعة القراءة للمتلقي، وخلق شخصيات فنية لديها سمات خاصة قادرة على جذب الانتباه، واستنطاق للبيئ
الرئيسية / دراسات / محطات في المجموعة القصصية»صورة شاكيرا» للكاتب الفلسطيني المبدع: محمود شقير – أمل صيداوي
شاهد أيضاً
تداخل الأجناس الأدبية في رواية «في انتظار مارلين مونرو» لمحمد أمنصور – حميد بومزوغ
تقديم: تعد الرواية الجنس الأدبي الأبرز القادر على نقل كل تفاصيل الحياة و خصائصها وسماتها …