تعد قصة «انقلب السحر عليّ» للكاتب نور الدين بنعيش نموذجا أدبيا يعكس التناقضات البشرية في سياق اجتماعي مليء بالازدواجية. يتمحور النص حول شخصية شعيب، الفقيه الذي يحمل في طياته تناقضا كبيرا بين المظهر الخارجي والجوهر الداخلي. النص يسلط الضوء على أزمة القيم والأخلاق في بيئة اجتماعية تبدو في الظاهر متمسكة بالدين والتقاليد، ولكنها في الباطن تعيش حالة من النفاق والازدواجية. من خلال تحليل هذه القصة، يمكن الغوص في أعماق النفس البشرية، فهما للصراع الداخلي الذي يعيشه الإنسان بين ما يظهره للآخرين وما يعيشه فعليا في داخله.
اللغة التي استخدمها الكاتب في القصة تمتاز بالبساطة والسلاسة، مع اعتماد على الوصف الدقيق الذي يسمح للقارئ بتصور المشاهد والشخصيات بشكل واضح. رغم بساطة اللغة، إلا أن الكاتب لم يغفل عن استخدام بعض الأساليب البلاغية التي تضيف للنص عمقا أدبيا. على سبيل المثال، يُستخدم الوصف المجازي في تصوير ابتسامة شعيب كـ»ملاك الفجر»، وهو تعبير يوحي بالهدوء والطمأنينة، مما يعكس تناقضا مع حقيقة شخصيته التي يتضح لاحقا أنها ليست بهذا النقاء. هذا الاستخدام للمجاز ليس مجرد زينة لغوية، بل هو عنصر محوري في إيصال التناقض الذي يعيشه شعيب، فهو يظهر كإنسان طيب ومتدين ولكن في الداخل يتصرف بشكل مغاير تماما.
الكاتب أيضا استخدم أسلوبا سرديا يعتمد على ضمير الغائب، مما يتيح للقارئ مسافة تأملية بينه وبين الشخصيات، ليتمكن من تقييم تصرفاتها من منظور خارجي. هذا الخيار الأسلوبي يسمح بتسليط الضوء على تناقضات الشخصية الرئيسية (شعيب) بشكل أوضح. كما أن الحوار القصير الذي يظهر في النص جاء مكثفا وهادفا، حيث يركز على كشف الجانب الحقيقي لشخصية شعيب من خلال تفاعلاته مع الفتاة والعجوز.
واستخدام «شعيب» كفقيه، وهو شخص يفترض به أن يكون نموذجا للأخلاق والقيم، يزيد من حدة التناقض الذي تعكسه القصة. من خلال وضع الفقيه في مواقف تكشف ضعفه الإنساني وانجرافه وراء رغباته، يطرح الكاتب تساؤلات عميقة حول معنى الالتزام الديني والأخلاقي، وما إذا كان هذا الالتزام نابعًا من قناعة داخلية أم مجرد قناع اجتماعي.
البنية السردية في القصة تتسم بالتدرج الواضح في تصاعد الأحداث، حيث تبدأ القصة بوصف بسيط لحياة شعيب، وتتصاعد مع ركوبه الحافلة ومحاولته إغواء الفتاة، وصولا إلى الذروة في نهاية القصة عندما تكشف الفتاة عن هويتها. هذه البنية التقليدية تعزز شعور الترقب لدى القارئ وتسمح بتقديم الشخصية الرئيسية تدريجيا، مما يعزز فهم القارئ للتناقضات التي تعيشها الشخصية.
القصة تعتمد على مبدأ الانكشاف التدريجي، حيث يبدأ النص بتقديم صورة عن شعيب كفقيه محترم، لكن مع تقدم الأحداث تتكشف تناقضاته الداخلية. هذا الأسلوب في البناء السردي يشبه إلى حد ما تقنيات الرواية النفسية، حيث يتم استكشاف الذات الداخلية للشخصية من خلال مواقفها وتفاعلاتها مع الآخرين.
وفي هذا السياق، يلعب عنصر المفاجأة في نهاية القصة دورا حاسما في تحقيق الأثر الأدبي المطلوب. فبعد أن ظن شعيب أنه نجح في إغواء الفتاة، تأتي المفاجأة عندما تسلمه الورقة التي تكشف هويتها، وتجعل شعيب يدرك فداحة خطئه. هذا التحول في النهاية يعكس قوة السرد وقدرته على تحوير القارئ من موقف متوقع إلى موقف غير متوقع تماما، مما يضفي على القصة بعدا فكريا حول العواقب المحتومة للأفعال.
شخصية شعيب تمثل التناقض البشري في أوضح صوره. من ناحية، هو فقيه يحمل في داخله كتاب الله، ومن ناحية أخرى، هو شخص يهوى المغامرات النسائية ويستغل مكانته الدينية لتحقيق رغباته الشخصية. هذا التناقض يجعل من شعيب شخصية مركبة ومعقدة، ليست بسيطة أو نمطية. الكاتب يعرض هذه الشخصية بشكل متوازن، فلا يحكم عليها بشكل صريح، بل يترك للقارئ فرصة التفاعل مع تناقضاتها وفهم دوافعها.
شخصية الفتاة، رغم أنها تبدو في البداية ضعيفة وخجولة، إلا أنها تظهر في النهاية قوة كبيرة عندما تكشف عن هويتها وتواجه شعيب بحقيقة ما فعله. هذه الشخصية تمثل نموذجا للمرأة التي تعرف حدودها وتستطيع الدفاع عن نفسها بذكاء وهدوء، مما يجعلها شخصية مهمة في النص، ليست مجرد وسيلة لتمرير رسالة القصة، بل عنصر محوري في تصاعد الأحداث.
العجوز في الحافلة تمثل عنصرا ثانويا لكنه مهم، حيث تظهر كشخصية مساعدة تساهم في توجيه الأحداث بشكل غير مباشر. تفاعل شعيب مع العجوز يظهر جانبه المتلاعب، حيث يساعدها ليس بدافع الإحسان بل بدافع التخلص منها لتفسح له المجال للجلوس بجانب الفتاة. هذا التفاعل يعكس طبيعة شعيب الانتهازية حتى في المواقف التي يفترض بها أن تكون نبيلة.
القصة تحمل في طياتها عدة رموز ودلالات عميقة. الفقيه شعيب يمثل الرياء الاجتماعي، وهو رمز لكل من يظهر التدين والالتزام الظاهري، ولكنه في الحقيقة يعاني من صراعات داخلية وأخلاقية. الفتاة، من جهتها، تمثل قوة الأخلاق والعقلانية، فهي لا تنجر وراء حيل شعيب رغم محاولاته المتكررة.
الحافلة تمثل مسرحا للحياة اليومية، حيث يلتقي الناس من مختلف الخلفيات والطبقات الاجتماعية، وتحدث فيها التفاعلات التي تكشف عن طبيعة الأشخاص. الحافلة أيضًا ترمز إلى رحلة الحياة، حيث يبدأ الإنسان هذه الرحلة بأمل كبير ولكنه يواجه مواقف واختبارات تكشف عن حقيقته.
الورقة التي تسلمها الفتاة لشعيب في نهاية القصة تحمل دلالة قوية، فهي ليست مجرد وسيلة لفضح نواياه، بل ترمز إلى الحقيقة التي لا يمكن إخفاؤها مهما حاول الشخص التستر وراء الأقنعة. الورقة هنا تصبح رمزًا للكشف عن الذات والاعتراف بالأخطاء.
التيمات الرئيسية التي تتناولها القصة تشمل الخداع والنفاق الاجتماعي، والصراع بين الرغبات الشخصية والقيم الأخلاقية، والتناقض بين المظهر والجوهر. كما تطرح القصة تساؤلات عميقة حول معنى التدين والالتزام الديني، وما إذا كان ذلك نابعًا من قناعة حقيقية أم مجرد وسيلة لتحقيق مصالح شخصية.
تعد قصة «انقلب السحر عليّ» نموذجا أدبيا يعالج قضايا اجتماعية وإنسانية عميقة من خلال سرد سلس ولغة بسيطة لكن فعالة. تمكن الكاتب من رسم شخصية شعيب بشكل معقد يعكس التناقضات البشرية بين الظاهر والباطن، في حين تأتي النهاية لتكشف عن عواقب الرياء الاجتماعي والنفاق الشخصي. القصة تحمل رسالة أخلاقية قوية مفادها أن الحقيقة لا يمكن إخفاؤها، وأن الخداع مهما طال زمنه، سينكشف في النهاية. إنها دعوة للتأمل في أفعالنا وتصرفاتنا، والتحقق مما إذا كانت نابعة من قناعة حقيقية أم مجرد قناع نخفي وراءه حقيقتنا.
*******
قصة قصيرة: « انقلب السحر عليّ «
الكاتب : نورالدين بنعيش
بجلباب أبيض تظهر عليه آثار بقع المطر المغبر، وعمامة صفراء، لا ليحمي بها رأسه من شدة البرد، بل ليخفي بها الشيب الذي غزا شعر رأسه كله، بالرغم من أن عمره لم يتجاوز الأربعين بعد. كتاب الله الذي يحمله في صدره هو مصدر رزقه الوحيد، وبفضل بركاته، أصبح فقيها في الدوار، له مكانة محترمة بين سكان القبيلة، لا ينازعه فيها أحد، وكلامه دائمًا يؤخذ على محمل الجد.
لا تفارقه الابتسامة، كابتسامة ملاك الفجر، خفيف الظل، حين تتحدث معه ينفذ كلامه المعسول إلى النفس بسرعة البرق، كنفاذ السهم في القلب. حبه لنفسه مبالغ فيه بعض الشيء، وهو جبل على حب النساء، يهوى الدخول معهن في مغامرات، لأنه يعرف مسبقا أنه يربح رهاناتها بحكم شخصيته القوية والمؤثرة فيهن.
لهذا لقب بـ»زير النساء»، فهو من اختار هذا اللقب لثقته المفرطة بنفسه. صعد شعيب الحافلة، وجال كعادته بعينيه في الركاب، يبحث عن غايته، لا عن كرسي يجلس عليه ليستريح من تعب انتظار الحافلة التي وصلت متأخرة إلى المحطة.
كطائر من الطيور الكواسر، اهتدى شعيب إلى فريسته. اتجه نحوها حتى اقترب من المقعد، حيث كانت تجلس إحدى الفتيات ذات جمال يشد الناظر إليه، وبجانبها امرأة عجوز. قضى شعيب وقتًا لا بأس به واقفا في وسط ممر الحافلة، ينتظر الفرج. تسلل إليه الملل وبدأت تظهر عليه علامات التوتر، ولكن المرأة العجوز أذهبت عنه الضجر عندما سمعها تصفق بيديها اللتين نحتهما الزمن لتوقف السائق.
عندما لم تتوقف الحافلة، قامت المرأة من مقعدها وعاودت التصفيق للمرة الثانية. حديث السائق مع مرافقه بصوت عال جعله لا يسمع شيئا. انتفض شعيب صارخا: «أي محمد! المرأة تطلب منك أن توقف الحافلة». خفف السائق السرعة تدريجيًا وتوقفت الحافلة. ساعد شعيب السيدة العجوز على حمل أمتعتها، وكأنه يستعجل هبوطها. نزلت المرأة بعد أن أمطرته بالدعاء.
أخيرا تنفس شعيب الصعداء، وجلس بجانب الفتاة، مبدياً غضبه من السائق كمحاولة منه لاستدراجها للحديث، وبذلك يكون قد أزال ستار الخجل عنها. لم تقم الفتاة بأي رد فعل نحوه، واكتفت فقط بنظرة يتيمة إليه ثم أدارت وجهها نحو النافذة وفتحتها لتجفف حبيبات من عرق الخجل المنتشرة على وجنتيها، كندى الفجر على بتلات الزنبق.
شعر شعيب بخيبة أمل شديدة في أول اختبار أجراه معها، وتمتم قائلاً: «رد الفعل هذا أمر عادي وطبيعي جدًا». ثم أضاف: «لن تفلت مني». تنحنح، ثم التفت إليها قائلا: «هذه قطعة من الشوكولاتة، هي هدية لي من أحد الأصدقاء. يحصل لي الشرف إن أنت تقاسمتها معي». وواصل مبتسمًا: «ليكن في علمك، الهدية لا ترد». لم يترك لها مجالًا للرفض، فتسلمتها مكرهة وشكرته على كرمه.
إحساس غريب انتاب شعيب، وحتى لا يترك الصمت يخيم عليهما ويضيع عليه هذه الفرصة، بادرها بالحديث: «أنا شعيب، فقيه دوار أولاد المختار». هزت الفتاة رأسها دون أن ترد عليه بكلمة واحدة.
الحافلة توشك على الوصول إلى المحطة، و»زير النساء» ما زال بعيدا عن هدفه، ولم يظفر بعد بالفتاة التي أفقدته أعصابه وبعثرت كل أوراقه. دون أن يملك نفسه، بادرها بالكلام: «أريد رقم هاتفك، لو سمحتِ، لنبقى على اتصال».
بوغتت الفتاة بطلبه، وبدون أي تردد، أخرجت من محفظتها مذكرة، قطعت منها ورقة وكتبت عليها بضع كلمات، ثم سلمتها له.
وأخيرا، ابتسم الحظ لشعيب، ونشوة الانتصار رسمت على شفتيه ابتسامة عريضة. لقد هزم كبرياء الفتاة وحقق بعضا من مراده، لكن المسار ما زال طويلا لأن الحافلة قد وصلت إلى المحطة.
نزل الركاب بما فيهم الفتاة، وبقي شعيب يتأمل أميرته من وراء النافذة حتى اختفت عن نظره. فتح الورقة، ولم يجد فيها رقم الهاتف، بل جملة عريضة جاء فيها: «أنا ابنة الحاج المختار، صاحب ضيعة التفاح. لقد حضرت في عقد قراني مع ابن شيخ الدوار الحاج القادري، وأنت من قرأ الفاتحة. فهل تذكرت الآن بمن كنت تتشَبب، أيها الفقيه المحترم؟!»
ضرب شعيب جبهته التي تصبب منها عرق بارد بكفه، قائلا: «لقد انقلب السحر عليّ»، ثم أسرع إلى المسجد لرفع آذان المغرب…
شاهد أيضاً
تداخل الأجناس الأدبية في رواية «في انتظار مارلين مونرو» لمحمد أمنصور – حميد بومزوغ
تقديم: تعد الرواية الجنس الأدبي الأبرز القادر على نقل كل تفاصيل الحياة و خصائصها وسماتها …