18
النص الشعري: من الطقس إلى الكتابة
إسماعيل محمد فال هموني*
تصديـــــر
- كلُّ كتابةٍ تتجدّد في غُربتها وبغُربتها
عبد السّلام بنعبد العالي
- الكِتَابةُ خيَّانَةٌ للُّغَة
ر. بَارت
- تَسْتَوي الأزمنة في الحُلم
رجَاء بن سلاَمة
- كلُّ الصَّداقاتِ غَامضةٌ
عبد السّلام بنعبد العالي
- الكِتَابةُ خيَّانَةٌ للُّغَة
ر. بَارت
- إنّ كلُّ كتابةٍ تتجدّد في غُربتها وبغُربتها
عبد السّلام بنعبد العالي
تمهيد
منذ أن جاء الشعريُّ منشداً أو أناشيد إلى أن صار كتابة خالفت الشفوي، وحققت للأثر حضوراً لا يبلى، والشعريّ متوثّب على الدوام؛ يتحول من حال إلى حال.
هذه الحال الموتورة الرَّافِلَةُ في التغيير والمخالفة مَا فَتِئَتْ تتجدد وتتغاير حتى تضيق عنها العبارة، وتقصر دونها اللغة، تستمد فرادتها من كُمُونها وتوترها داخل عتمات المجاز.
يكتب تفاصيله في لحظاتٍ مفارقة، منشغلاً بذاته وأسئلتها الحارقة؛ في سعيه الحثيث لأن يلتقط اللامرئيَّ المحجوب والهارب من الضوء.
وهو بفعله ذلك؛ يعبر عتمات الغياب، كمن يستكشف الخفاء من خلال التجلّي. إنه، إذ يكتب أو ينكتب، “يقيم على الأرض”[1] متفرداً بلا نظير.
تلك هي الكتابة بالأشياء الصغيرة؛ الأشياء التي لا تُرى، والمختلجة في عين الذات؛ إنها لحظة البدء التي لا نعرفها، أو لا نملك شهادة ميلادها إلا بالشعريّ وحده.
في حضرة الشعر تخرج تلك الأشياء الصغيرة من مكنوناتها ومخبوءاتها مُندسةَ “في الغموض، ومستترة” بالعتمات لا تدرك إلا بالحال، ولا يدركها ويرتادها إلا “أرباب الأحوال (الشعراء)[2].
ذاك هو الطقس الشعريّ الفاتن، المبهر، الساحر الذي يمتدُّ من البدء اللامعلوم؛ حيث كان الإنشاد أو الابتهال أول ألسنة الحال؛ كأن الشعريّ نداء سماويُّ متعالٍ يتمُّ في تَصْرِيفُهُ في خشوع وامتثال.
طقس الإصغاء أو السماع ترهف فيه الأذن ويمثل فيه القلب لصلاة أساسها الصوت والنداء.
ههنا تَنْتَعِشُ اللغة، وتصير “لغة قداسٍ يقام في حضرة الغياب”[3]، انتعاشة مزهوة بالعراء؛ تُشادُ على التراخي”[4] – كما يقول الأشاعرة – حتى تستطيب “الخروج عن الذات”[5] و”هجرة الموطن”[6] و”تغيير اللغة”[7] ذاتها.
بهذا التوصيف يصير الشعريُّ الموتورُ علامةً بارزة في قراءة النص الشعري اليوم؛ غايتنا من دراسته الحفر في “ما يُغيَّبُ في هذه النصوص عادة”[8]؛ لأن البحث عن الغائب، الذي ترسب في أعماق النص الشعري تجسير للهوة بيننا وبينه من جهة؛ وكشف “للراسب اللاّمعقول الذي يُعقلن ويسطّح”[9] وتمحيص “للمختلف الذي تختزل في المشترك”[10] العام من جهة أخرى.
I- النص الشعري
للنص الشعري أقاليم ثلاثة يحيا بها:
1-1- اللغة المكتملة
لا تكتمل اللغة سوى داخل النص الشعري؛ تتخلى عن نقصانها، وتستطيل ظلالها حتى تبلغ ما قصرت عنه لغة التداول. أو عجزت عنه كل مفردة لغوية خارج دائرة الشعري.
اللغة المكتملة بذاتها، المسنودة بإيحاءاتها، ونظامها الشعريّ المجازيّ الذي يتخلّق واعياً بمشيئته؛ فاتحاً تُخومه على اللانهائي.
لم تعد اللغة وعاءً يَنْقُلُ رسائله إلى غيره؛ فحسب، بل أضحت تمتلك قوة للخلق، وتسمية الأشياء على مزاجها، وبصيغها الشعرية دون التعويل على مرجعيةٍ خارجةٍ عنها.
إنها لغة التحولات والمغايرة التي فارقت زمن نشأتها الأولى؛ وخلقت تقنيناً جديداً تخترقه كيفما شاءت؛ ومتى شاءت.
تتحول من صيغة إلى أخرى؛ لا تُعربُ نحوياً، ولا تُسندُ تركيباً لقواعد ثابتة؛ قدر تكريسها للانتقال الحرّ الذي يخالف “الأصل” أو المرجع الخارجيّ عنها.
ما تعنيه اللغة المكتملة؛ أنها بناء مستقل؛ شرطهُ الوجوديُّ وفاؤه لنسقه الجماليّ الذي يؤثر اللايقين على اليقين؛ والممكن على المستحيل؛ والسعي نحو الأقاصي بدل الانجذاب إلى “المعيار” أو “لحظة التأسيس” الأولى. إنه نظام متوازن ومتوازٍ، يروم التوغل داخل النقصان نفسه؛ وتحويله إلى كمالٍ لا يساوم على التأويل.
إن أعطاب اللغة خارج الشّعر؛ لا ينبغي أن تدلّل على ماهية اللغة داخل الشعر. فاللغة الشعرية؛ لغة ثانية، تخلخل النظام السابق، وتتخذ من أعطابه عصب حياة تؤمن رحلة اللغة داخل الممكنات؛ وخارج المستحيلات. هذه اللغة الثانية الدينامية التي تنبع من رؤيا شعرية في الحياة والكون والإبداع. “فالأشياء تمتلك – عبر العين – تموضعات داخل فضاء شعري محدّد، حيث يقتنص الشاعر أشياء الداخل/ الخارج داخل شباك التجربة الشعرية مجسّدة في كلمات تدل على أشياء”[11].
وفق هذه الرؤية؛ تتأتي اللغة المكتملة من ضرورات البقاء والتحول على حد سواء. أي؛ الذهاب إلى أقصى ممكنات الشعر؛ وتشييد ممارسة شعرية تقوم على الاتساع، والانتشار داخل كل الأفضية الشعرية الجمالية لإحكام البناء داخل نسقٍ متجدّدٍ.
1-2- النص المهاجر
لا يكترث النص الشعري بالتوقف أو الحنين إلى ماضٍ قد انقطع؛ إنه نص مهاجر، مترحّل؛ يرعى الغَيْمَ تحت كل سماءٍ. نصّ يحايث الغياب؛ يلازمه؛ يفرّ من متردمٍ إلى آخر. لا يعوّل على أنسابه وسلالاته؛ بل ينشأ من ذاته، كل جيناته من خصوصياته، التي لم يرثها من فراغ؛ لكنه لم يمتلئ بغيره؛ فقد جاء بنقصانه مهاجراً إلى نقصانٍ لا يعلمه.
نصٌّ يرعى قطعان المجهول في الأبد؛ يتنقل خفيفاً، ويحطّ مثقلاً بتواريخه التي خلقها في سعيه وتشكّله بين شقوقه وتصدّعاته. لا يرتاب من مجهوله، ولا يركن إلى يقينه؛ يزيده وعيه الموتور اقتراباً من التعدّد والكثرة في الوقت الذي يظلّ فيه واحداً ومنفرداً رغم توالُجه مع غيره.
يتعدّد؛ ويتقاطع؛ يفجّر مكنوناته داخل كلامه؛ مستوعباً متلاشياته؛ وضامّاً إليه عظام غيره من غير انتهاك لخصوصياتها؛ ولا مبقٍ لها على أثر يميزها ضمن ثوابته ومتغيراته.
إنه هضم لا خيانة فيه؛ رغم أن “الخيانة هي سمة الكتابة ذاتها”[12]. فالنص المهاجر توليد للمفارقات؛ وتشكيل للمغايرة؛ وهو “ما يفتح اللغة على الخارج”[13] وهذا ما يمكن النص نفسه من الديمومة والاستمرار.
فالنص المهاجر جماع نصوصٍ غائبة؛ أتَى عليها؛ وحوّلها إلى منجز ذاتي، له مدركاته وحدود وعيه؛ بل إن هجرته هي اعتراف بغيره؛ وإن اختلفا صيرورة وانتماءً؛ “إن كل نصٍ ينطوي صراحةً أو ضمناً على نصوص مخالفة”[14] أي أنّ الديمومة تقوم على المخالفة والمغايرة، لا على المماثلة أو المشابهة؛ لأن حياة النص رهينة بالامتداد والبقاء في غيره؛ ومستقلاً بذاتيته.
هذه الكينونة غير الفانية لا تُستنسخ أو تستعاد؛ بل تتبدّل باستمرار؛ في تحول وتجدّد غير قابلين للعقم. كينونة مفتوحة على شساعة الآفاق؛ تتكاثر وتتسارع وتيرتها في ملامح تتكلم بألسنة أخرى لا تعلم هويتها خارج عوالم الهجرة، والهجرة المضادّة.
بهذا المفهوم؛ يكون النص المهاجر طيراناً بين العوالم؛ يظهر ويختفي؛ ومن الصعب عزله، أو إفراده في خانة معزولة. نصٌّ مراوغ؛ يقحمنا في الغرابة ضداً على كل أُلفة أقمنا فيها، أو سَنُقِيم فيها لاحقاً. نصٌّ يلغي القرابة، ويرعى الاختلاف المكرّس للغرابة والهجرة. والهجرة صنف الغرابة؛ والغرابة لسان حالهما عند “كلّ الصداقات الغامضة”[15].
1-3- فتنة التأويل
لن يتكلّم النص الشعري إلا بلسان التأويل؛ ولن يحيا، ويستمر إلا من خلاله. فبإمكان التأويل أن يبعث النص من جديد أو يعيد إليه ألق الحياة، وينقله من حياة إلى حياة أبقى وأعلى. فالنص لا يحيا إلا إذا كان قابلاً للتأويل؛ ومستعصٍ عن النّفاذ إليه كل مرّة.
لذا يفتتن التأويل بالنّص، فالتأويل ليس مرآة للنّص؛ بل هو حياة تفتح أمام النص ليحيا مضاعفاً بأرواح كثيرة. إن التأويل، وهو يعدّل من النصّ الشّعري، يزيده فتنةً، يغيّر خارطة حدوده الأولى، ويجدّد نظرته للبقاء؛ أو يرغمه على حياة أخرى؛ “أي تحويل أو توظيف فكرة ما لخدمة اتجاه ما… لتناسب الفهم الجديد لها”[16].
للتأويل أثره وجاذبيته على النّصوص؛ إذ يمنحها حضوراً أو غياباً حسب الغايات التي تختفي أو تظهر داخل التأويل نفسه؛ والمحكومة أصلاً بنوايا المووِّل؛ وما يضمره من مقاصد مبهمة أو شفيفة.
فالنّص لا يتخذ مظهراً واحداً، بل يتمظهر في “كيفيات مختلفة وراءها مقصدية المرسل”[17]، وغيرها من سياقات النص. الشيء الذي يحتم “اختلاف استراتيجية التأويل من عصر إلى عصر، ومن مجموعة إلى مجموعة؛ ومن شخص إلى شخص”[18].
فالتأويل أيضاً؛ تمثُّل للنص، واشتغال على خصوصياته. أي؛ أنه يلاقي بين رغبتين؛ ويدخل في حوار جديّ مع النص المؤوّل. إنه يقتحم النص، ويقحمه في متاهاتٍ جديدة؛ يرفده بثقافات متعددةٍ؛ وإن جاء هذا الإرفادُ متعارضاً مع النص أو مناقضاً له.
إلاّ أن ما ينبغي التوكيد عليه أن التأويل والنص يظلاّن يتجاذبان المعنى؛ من حال إلى آخر سعياً وراء دلالات متحوّلة ومترحّلة. فالتأويل لا يعيد قول النّص؛ ولا يكرّره بل يحيا به، في مخالفة مقصودة، وتمنّع دائمٍ من النصّ أيضاً. ومع ذلك لا يفقد النّص ماهيته، ولا تضيع منه هويته، قدر ما يُرفع عنه حصار المعنى داخله؛ ويملّكُه التأويل إقامةً متجدّدة فوق زمنه، وداخل نسقه المعرفيّ والجماليّ.
تلك هي فتنة التأويل التي تضاعفُ من قوة النصوص؛ وتعيش النصوص نفسها أزمنة غير أزمنتها؛ فكل تأويل مسار ينطوي على حياة كبرى للنصوص، لأن كل قراءة تأويلية هي إنهاك للألفة؛ و”إقحام للغرابة؛ وزحزحة للغة، وتحطيماً لأوثانها”[19].
التأويل يوسّع من النّصيّة في النص نفسه؛ ويكسبُه أدبيته التي “يدخل بها دوامة التأويل اللامتناهية”[20]؛ حينئذٍ يغدو النصّ الشعريُّ خلقاً آخر، روّضه التأويل؛ وانتهى به إلى درجات في المغايرة لم تكن مدركةً فيه قبل التأويل. حتى وإن استطاع النص أن يحتفظ بسُطُوعه من خلال طبيعته الذاتية؛ فإنه لن يجد كيفيات البرهنة على ذلك السّطوع إلا من خلال أنفاس التأويل.
بهذا المعنى يفتتن النص بالتأويل؛ ويتنصَّصُ التأويل حتى يصيرا مكتملين حياة وبعثاً جديدين. فالتأويل الذي يفخخ الحياة في النص، هو نفسه الذي يعيد اكتشاف حياته من خلال النص المؤوَّل؛ ويتمِّم نقصانه بما كان محجوباً عنه داخله، ويجلّي ما خفى عنه أو تلاشى في لاوعيه، وهو يمارس وعيه من خلال مقروئه، فكل تأويل ضرورة نصيّة ّلاَ تَسُدُّ مَسَدَّ النص؛ ولا تغني عنه”. كما أن النص قدّاح شرارة التأويل؛ منه يتغذى، وبه يستحكم وفي مشيئته وإرادته؛ لكنه لن يكون تعويضاً عنه، ولا بديلاً له.
II– طقوس الشّعر
للشعر طقوسه التي تفرده عن بقية الأجناس الأدبية؛ فالطقس الشعري احتفاليّ بامتياز، يقوم على الإنشاد؛ والصوت؛ والحركة.
الشعر شعاعٌ أساسه الصوت؛ فلا شعر من دون صوت وأذن. فكانت حاجة الشعر إلى المنبر والجمهور ضرورة فعلية؛ حتى يتشرّب السامع الصوت، ويمتلئ به امتلاء كلياً؛ فالصوت حضور بالكلمات؛ والفراغ غياب وعدم. “الفراغ هو الاغتراب الدائم؛ أما الامتلاء، فهو الألفة والاجترار”[21].
الشعر يعتني بالصوت، لأن الصوت سمع يخلد في وجدان المتلقي؛ ويسري في عروقه حتى يصير هوية للشاعر في المحافل الشعرية؛ يعرف بها إنشاداً وإلقاءً. وبهذا تتبوأ الأذن مكانة خاصة عند أهل الشعر، وخاصته، لأن “الأذن حاسة الزمان” تعتمدها ثقافة تاريخ وسرد ورواية، ثقافة شفوية لا ثقافة الكتابة والصورة، ثقافة الصوت لا ثقافة الأثر[22].
وقد رجّح الشعر، في هذه الحالة؛ الأذن على العين؛ لأنّ الأذن “حاسة التلقي” مشرعةً؛ تلتقط دبيب الكلمات؛ لا “أثرها على الوجدان”.
فالأذن، أخلاقياً، “صوت الضميري”؛ أي أنها “سمع وطاعة”؛ لذا كرسها الطقس الشعري محلاً لثقافة “السمع والمحافظة”. إنها يقين واثق؛ وتقليد راسخ؛ وصوت راضخ؛ “ثقافة الأذن على الدوام: “ثقافة سلطةٍ”[23]. وعليه تشترك الأذن والصوت في الهيمنة على الطقس الشعري؛ والتسيّد عليه حتى يتم إنجاز المهمة الجمالية الشعرية في حشود المتلقين.
ومع ذلك يظل الطقس الشعري محافظا على قوته، وشعريته من خلال تفصيلنا لخصائصه وأركانه الآتية:
2-1- الاحتفال
الشعر جنس أدبي احتفالي؛ والاحتفالية سِمَتُه وسَمْتُه أيضاً. الشعر فضاء المتعة، واللذة؛ والبهجة. فطبيعة الشعر الماتعة التي تتمحور على أن يدرك الشعر الواقع بمتعة فنية تنقل الوعي إلى اللاوعي، وتوكل للخيال أن يصنع حياة أخرى على وقائع حقيقية بطريقة مُغايرة للواقع نفسه. والأهم من ذلك أن المتعة الشعرية لا تكون ماتعة إلا بقدر إخفائها؛ وإقصائها في الإخفاء بالاستعارة وغيرها معارفنا عن التاريخ أو الواقع، أو الذات، أو غيرها، بما يجعلها أسراراً جمالية لا تدرك جوهرياً، إلا بشكل شعريّ؛ شعرية تنتظم في اللاوعي كما في الوعي نفسه.
هذه المعرفة/ المتعة لم تعد وقفاً على الأخلاق أو التاريخ، أو الحقيقة، بل هي كامنة في الشعر بخصائصه الجمالية الذاتية التي مكنته من أن يكون “ثقافته”، و”معرفته”، و”عرفانه” من دون حاجة إلى غيره؛ أو نقصان في طبيعته.
فالاحتفال الشعري هو تحقيق المتعة؛ ونشدانٌ لحقيقته. أي، أنه حين يحتفل بذاته، فهو يُنشئ لغته المفارقة؛ وفرادة خصائصه التي تميزه عن غيره من المعارف؛ ويبرز غناه، وكثرته، وتعدده.
ومن ثمّ لزم الإصغاء إليه، ولأصواته، والاحتفاء بدهشاته، والإمعان في صمته.
بهذا المعنى، يكون الاحتفال طقساً فريداً في الشعر، لأنه يمرّن الأذن على العبقرية، ويحرّض الصوت على الامتداد بعيداً فوق الزمان والمكان. أي؛ أن الاحتفال غزارة في المتعة، والالتذاذ بالروح؛ والبهجة بالحلول.
فمعظم النصوص الكبرى؛ شعرياً؛ حفظها الاحتفال؛ و”أَسْطَرَهَا” حتى أضحت ملاذات وجودية للغة، والتاريخ، والإنسان نفسه. فالاحتفال الشعري تحويل دائم للفرح، وتطويع لمساراته من زمنٍ إلى زمن.
2-2- الإنشاد
الإنشاد صوت الشاعر، وليس صوت الشّعر. وهو طقسٌ يحتفل فيه الشاعر حركة وصوتاً؛ فيه يهيمن الإلقاء على الشعر. ليكون الشعر مجرد وسيلة صوتيةٍ يستند عليها الشاعر المصوِّت يفشي بالكلمات، ويرسلها إلى أقصى حدود الإصاخة.
الإنشاد سلطة اللّسان والتباين معاً؛ سلطة تجعل الأذن متلقى الكلام. أي أن الشفاهيّ طقس معرفي يحدّد الجمالية، وشروطها عبر الزمان والمكان.
فما يقبله الإنشاد/ الشفاهي هو الجوهر الناظم للقول الشعريّ. وما يقع خارجه وقائع لا تقبلها الشعرية الشفاهية.
إن التصور البياني الذي وضع إطاره المعيار الجمعيّ جعل القصيدة هي الشعر، وما لا تقبله معايير الإنشاد لا يكون قصيدة أصلاً. وما لا يكون قصيدة لن يكون شعراً. هذا التأصيل لمدونة البيان في القصيدة العربية جعل الإنشاد قاعدة لكل إتحاف شعريّ، أو خلودٍ جماليّ. الإنشاد، هنا، ضرورة جمالية تتوّج الشاعر على رأس الخطاب؛ وتبوئه ممكنات القول الشعري بفرادة لافتة.
فالإنشاد نظام يُعلي من سلطة “النموذج” و”الأصل”[24]. لأن القصيدة روح الجماعة، وجوهر الخطاب؛ وهي بذلك ظل القبيلة، المهيمن في المجتمع البدوي؛ وسلطان الوعي الجمالي الذي يحدّد مستقبل الذائقة الفنية، وحدود الوجدان مكاناً وزماناً.
فلم يعد الإنشاد ترفاً قولياً، بل أضحى حاجةً وضرورة توجّه عناية المتلقي، وتتحكم فيه موسيقياً، وجمالياً.
فالإنشاد تطريب، وتحقق إيقاعي يوسع من دائرة تملك الأذن؛ وبناء التشكيل الموسيقي الموازي لها وفق سياق تاريخي، ومناخات معرفية معينة.
ولأن التطريب يحقق الإمتاع والأنس؛ فقد كان اللسان/ الصوت محلّ تبجيل وتقديس. أي أن التسميع والإلقاء ينبغي أن يكونا خاليين من اللّحون، مفعمين بالترقيص جاذبين لسحر الحركات، وكاشفين عن أسرار الكلمات وكوامنها داخل النفس البشرية.
ليس الإنشادُ امتلاء صوتي، أو انفلاشاً في الفراغ؛ يروم السيطرة على الأسماع فحسب، بل حيازة للمكان، وتطويع للزمان حيث يصير صيرورة تتأبى عن التجميد، وتنعكس في الإيقاع الشعريّ أوزاناً عروضية، ومقاماتٍ موسيقية تتكاثر بها القصيدة؛ وتَتَوَالَجُ بها الأسماع والأصقاع.
2-3- الكِبريَاء
كبرياءُ الشعر فتنته، واختلافه المضاعف الذي يخوله أن يظل فريداً على الدوام. ليست الكبرياء هنا قيمة أخلاقية، إنها ممارسة جمالية تنقل الطرافة والغرابة بين الشاعر والمتلقي.
الكبرياءُ نبتة اللغة حين يُفَرْدِنُهَا المجاز عن المحصور في السائد إلى المتعالي المفارق الذي تبلبل المعنى. أي أن الكبرياء صيرورة الآنِ، والما قبل، والما بعد. أي الحياة التي
لا تستند إلا على ذاتها؛ تحمي أفقها من “التيبُّس” في ضراوة التحولات.
تلك هي الممارسة الواعية التي تعلم مضايق الشعر؛ وتعي أَفْعَالَ في الكلام. ولأنّ الكبرياء طقس يحتفي بالشعر، لا يملّ أبداً من البحث عن النشوة والسمو بها حدّ الرسو على كل الممكنات. أي أنّ الكبرياء تفضي بالطقس الجمالي إلى التساكن مع الانفعالات؛ والانفتاح على سطوع الذات؛ والتباهي بالشاعر حدّ اعتباره مصير الشعري، وأفقه النهائي.
لم تعد الكبرياء بهجة القائل وحده، بل بهجة جمعية ما تفتأ تستحوذ على الوعي المعرفي للشعر.
فالشاعر الفحل/ الفارس كعنترة، أو الشاعر الحكيم كالمعريّ أو المتنبي، أو الشاعر الضّليل كإمرئ القيس، كُبراء الشعر، وأمراؤه لأن نخوة البيان؛ وسطْوة التّسيّد جعلتهم فحولاً، وحكماء وأمراء في مجالٍ شعريّ يهيمن فيه نسق الصوت؛ ومعيار البلاغة البياني.
III– الكتابة نداء أم حق
الكتابة وعي بالشعر وليست تابعة لثوابت القصيدة. الكتابة فعل اليد وأثرها على الورقة، أي جرح يعي حدود الاجتراح الفعلي للمكتوب. الكتابة ضد الصوت؛ الصوت هبة الفراغ؛ والكتابة محوٌ للفراغ نفسه.
ولئن كانت الكتابة شرسة في اقتلاع مقومات القصيدة البيانية، فإنها لا تقيم إلا في “البينونات”. أي، أن الحدود بين الأجناس لم تعد هي المعيار الفاصل بين الأنواع الأدبية. فالشعريّ يقيم في النثريّ؛ والنثريّ لا يتورّع عن الحلول ضيفاً على الشعريّ، والإقامة بين مجازاته كما يقيم الضّيف في بيت المضيف بكل خصوصياته وفراداته.
لم يعد الانتهاك سوى مقوّم بلاغيّ جديدٍ يؤسّس لإمكانٍ شعري جديد يحقق نقصانه في تواصل موتورٍ مع الإمكان نفسه. فالاصطراع بين حدٍّ وحدٍ أضحى متجاوزاً، بل إن الكتابة وجود “يتكلم لغاتٍ، وله أكثر من لسان”[25].
أي أنها فعل يتكاثر، ويتناسل ذاتياً، وما فتئ يتجدد في صيرورةٍ متواترةٍ كمتواليات هندسية لا تعرف حداً ولا تنتهي عند معلومٍ. معادلةٌ شعريةٌ لا متناهية مفتوحة على اللاّتوقع، والمجهول الذي يقود الكتابة إلى عوالمَ لم تكتشف بعد.
للكتابة إذاً؛ تخومٌ ومضاعفة ثاوية في المختلف الذي ينفلت من قيد الترقب أو المألوف السائد.
الكتابة، بفعلها هذا، عروجٌ إلى ما وراء التّخوم.
3-1- الكتابة نداء التّخوم
الشعر كتابة تأتي من الحياة؛ نداءٌ من الأقاصي. “شعرياً؛ يعيش الإنسان على هذه الأرض”[26]؛ لأن النداء هو في جوهره؛ “سؤال حول الشعر”[27] يعلّم الحياة، ويعلّم البقاء. “ولا يكون قادراً على ذلك إلا إذا كان نوعاً من الإماتة؛ ونوعاً من الموت”[28].
فالنداء الذي يأتي من تخوم الموت علامة فارقة في الكتابة والوجهة. إذ هو كذلك
لا يخشى الزّوال أو الفناء كونه مفتوحاً على المستقبل. “فالشعر إذن، هو ما يخترق التاريخ. هو وليده؛ لكنه يتجاوزه”[29]. أي هو الضوء الذي يضيء العتمات؛ ويسبق المراحل إلى الوجود، بل هو من يُبقيها على قيد الحياة.
فالكتابة كونها نداءً؛ ذلك يدرجها في دائرة الحبّ، والموت معاً. أي الجمع بين النقيضين: الحب هو الحضور الذي يتصادى في الكلمات والحياة، والموت هو الغياب الذي يرحل بنا إلى ما وراء التخوم.
أي، نحيا مسافات الشعر. “إنه لقاء غائب لا نراه إلا بين كلماته، لكن في زمن آخر”[30]. لذا تصير الكتابة فوق الزّمن، أي تصير “عُشّ الشعر”.
العش الذي ليس سوى الحب والموت؛ و”الحب يبدأ ما أكمله الموت، والموت يكمل ما بدأه الحب”[31].
هذا البدء اللامنتهي الذي يتداخل فيه الزمن ولا يطوّقُه، لا يحده موت، ولا يفنيه عدم هو الحد الفاصل بين الطقس والكتابة. فالطقس ضرورة محدودة بالصوت والإنشاد، والكتابة قفز أو وثب خارج الحدود، هو هذه اليد التي تكتب “أيها الزّمن توقف”[32].
فاليد تأبيد للحياة، وعشق للمجهول الذي يدخل بنا كل المجاهيل. إنه الحب الذي تصيره الكتابة مصيرها، و”عش الشعر” عند كل نداء.
فالكتابة حقاً أن تذهب بك اليد، حين تكتب، إلى “الحدود التي تصبح معا شبه عصية على الترجمة”[33]. أي أن الكتابة أثر لا تمحوه حدود؛ أي أنها “غشاء البكارة الذي يمنعُ من النفاذ ويصونُ العذرية”[34]. لن تتكرر هذه الكتابة، ولن نستنسخ مرة أخرى، أي أنها كتابة متحولةٌ على الدوام؛ تعلو عن الأشباه والنظائر، تبحث عن الأصول الأولى؛ البدايات التي انطمست في مجاهيل الحياة؛ وبين التخوم، ولم يبق منها سوى النداء/ الأثر الذي يعلّمنا أن “نتجنب فرض التأويل الوحيد على القارئ”[35]. أي أن نتحرر من سطوة الطقس وتبعاته.
2-3- الحقّ في الشّعر
سؤال الحق هو سؤال الحياة، لابد للشعر أن يحقق حضوره، وأبده وراهنيته كما هي الحقوق في الحياة أيضاً، ليس الحق هنا هو تحويل الشعر إلى صراع مع غيره، أو تغليبه على مُخالفيه، بل الحق؛ هو ترسيخه في الحياة حتى يجد في الحياة شجرته التي يكبر فيها، ويستظل بظلالها دون أن يحرق أفياءَها، أو تحرقه أوراقُها.
الحقُّ في الشعر؛ اعتراف بالاختلاف؛ وسعي إلى المغايرة الحقة التي تفضي إلى كتابة شعرية لا تشاكل إلا نفسها في خضم الحياة. لأن
“الاختلاف في الرأي يؤدي إلى الاختلاف في الرؤيا والعكس صحيح”[36].
لا حق بلا اختلاف؛ أي أن الشعر لا يتواجد إلا وسط متعدّدٍ ينضح بالحرية، ويفارق القيود وخواء الزمن الميت. والخواء غير الفراغ. “لأن الفراغ تأمل ينتج فكراً”[37]. والخواء يباس في التفكير، وشلل في الحياة.
أن يكون الشعر حقاً؛ أي أن يصير حاجة أساساً للإنسان؛ وأن يملأ ذاته جمالاً وسعادة، وأن يعيش بسلام.
أن يكون الشعر حقاً؛ أن يجد الخيال متاحه في الحياة؛ أن يصير للمتخيل لغة تدير بقاءه وامتداده في خلد المتلقي؛ أن تستعيد لغة الشعر ألقها وألفتها وغرابتها في الحياة حتى يتألف الغامض والواضح على نسق مؤتلفٍ يفضي إلى رحابة في الوجود والخلود.
أن يكون الشعر حقاً؛ أن يرفض الاستبداد؛ “يعانق الكل حين يكون هذا الكل صافياً؛ أي غير ملتبس وغير مُدنّس بشيء ما؛ ولا مقدّس بصراط”[38].
أن يكون الشعر حقاً؛ أن نجد للفراغ معنى في الآن والهنا، أي أن تتصافى الكلمة بالعثور على أصلها الأول، البدء الفريد الذي كانته، وأن يعثر الشاعر على لحونه، وخساراته في الكلمة نفسها، حينها يكون الفراغ المرسم الذي تشكل فيه حدود الشعر والحياة معاً. أي؛ تتسع الهاوية والغواية لتكونا هوية الكتابة نفسها.
والفراغ بدءُ الأسئلة الحافة بالحياة؛ أي الحِرة التي تقود إلى الشعر والاجتنان في حدائق الحب وحرائقه. كل هذا يجعل الحق في الشعر قائماً ومضطرداً؛ “حيرة الشعر؛ وخيرة التساؤل، وحيرة الكينونة”[39] لأن الحق الشعريّ ضرورة حياتية، وحاجة جمالية؛ يجعل من الفراغ نفسه مسكن السؤال والتأمل على حد سواء.
3-3- مَن يكتب مَن؟
لأنّ يد الشاعر رحالّة؛ لا تقف عند تخوم، أو ترسو على حد؛ فهي جوّالة تجوب المجاهيل والخفيّ، واللامرئي. فقد اختارت أن تكبت بظِلالها” و”ضَلالها” من خلال اللغة التي نفتح بها ما انغلق، وفاض عن التشظّي؛ وانشطر بلوراتٍ لا تعلم هويتها، وإن كانت سياقاتها معلومةً وقائمة بين الأبد، والأشياء المقيمة في السَّديم.
تلك اليد تكتب المخالف والمغاير، والمنغلق. أي، الجرح الأبدي الذي يستعصي على الرتق، جُرْحٌ هو ماء الشعر، ونضارة اليد التي تكتب “النقصان”.
الرحّالة يكتب الأثر؛ لا الحدث. يتبع “الفتنة” الذائبة في مدارات الرّعب. إنه سؤال الذاتِ حين ينتصب: من يكتب الحرائقَ؟
أنا الشاعر/ يدُ الكتابة؛ التي تكون الحطب والرماد معا. بها تشتعل نيرانُ الشعر، وتزهر تحولاتُ الكتابة. أي الأنا الجارحة/ الجريحة التي تفتك باليوميّ؛ ولا تنحلّ فيه، بل تقوده إلى الما وراء” الذي يسكنُ المسافات التي تبعده عن التماهي، وتبقيه قائماً في التلاشي.
تلك اليد/ الكاتبة التي تشرق من القاع الشعريّ؛ بنخوة الجماليّ التي ترنو إلى الأعالي؛ وهي راسخة في الأقاصي، من دون الخيال لا تستطيع اليد/ الكتابة أن تقي ديمومتها في اللغة والحياة. فالخيال انفتاح على البدء الأول، واللغة الخالية من أعطاب التأويل، وجروح التقدير. أي، أن الخيال “مزرعة الدهشة” التي تَبَسْتَنَتْ في الفردوس؛ وجاءت ملفوفة بالخفاء والعماء.
حيث الأسماء ما زالت في بكارتها الأولى، والكلمات خالية من غُبار الألسُن. هذا التبدّي كاشفه الخيال حتى صار حياة جديد لليد/ الكتابة، نجا بها إلى الأسطوري الذي يفضي باليد إلى “حرائق” اللغة؛ وتحققه الذات من الحيازة، وإعادة تسمية الأشياء والممتلكات.
فاليد، أصبحت بحكم المغايرة، أيادٍ كثيرةً ومتعدّدة. تكتب ظلالها وضلالها في تجليات عارمة من الضوء القابع في الفراغ. أي حين تصير الكتابة محواً، ويصير المحو كتابة أو ترقيماً تقيم في الفتنة الأولى؛ وراء ما لا تراه العين؛ بل هي غميسة “يقين الظّنون”[40].
هكذا تصير اليدُ/ الشعر/ الكتابة مخالفة لا ترتكن للسائد أو الرّاهن؛ بل تنشتقّ وتعمنُ في التمرّد والاختلاف في تخارج صريح “لأن الشعر خطاب انشقاقي ينشد تحرير الكائن من سلطة الممنوعات والمحرمات والمتعاليات”[41].
لذا كانت اليد دوما، كما الشعر والكتابة متلبّسة بالشبهات، وريثة الحرائق؛ لا ترعوي عن الفتنة والمخالفة والمغايرة والغرابة. تكتب الخارج، والقَصيَّ من الكلام؛ و”المفتوح على الرغبات، والأهواء؛ والنزوات”[42].
ومن ثمّ تستعيد الكلمات سطوتها وغوايتها وفتنتها، وتتبوأ اليد المكانة العُليا؛ وتكتب هويتها، وقانونها، وسلطتها وإرادتها خاليةً من الرّقيب؛ وغميسة اللذّة، والتمرّد البهيج.
IV– خلاصات واستنتاجات
نخلص، أخيراً، إلى ما يأتي:
عبَر النص الشعري مسارات جمّة، أفردته، وجعلته نواة الاشتغال، وأسَّ الأفهامِ، بل خلقت منه النشأة الأولى. فقد جاء النص الشعري إنشاداً، وصوتاً، يخاطب الحواس من خلال إطراب الأذن، ومن خلال طقوس السّماع؛ أي التعويل على الآنيّ، واللذة المحققة للرّاهن، القائم على التصويت وتجلياته في الحياة.
غير أن النص الشعريّ المكتمل لغة، في إهاب المجاز، وخاصية البليغ التي تخالف اللغة العادية، جعله ينماز بالترحّل، والتنافذ، والهجرة. محققاً هويةً جديدة تغالبً الأبد، وتكرّس المُخالف والمغاير غرابةً وإتحافاً ثم مفتتنا بالتأويل الموسع المُخالف والمُغاير غرابة وإتحافاً. ثم مفتتنا بالتأويل الموسع للمدلول، والدوال، والمقرون بعشق يكشف عن أبعاد النص، ويُثري أعماقه، ويحوّل المعنى إلى دلالات شتّى، والمؤوِّل إلى مؤوَّل باستمرار. أي، إلى فتنة جمالية لا تنقطع في الزّمان، ولا ترتهن بالمكان. فتنة مضاعفة بين النّص وأسئلة التأويل.
إن الشعريّ الذي وُلد في طقوس: الاحتفال، والإنشاد، والكبرياء، جاء محققاً للمتعة، واللذة؛ والبهجة؛ ونافذاً إلى وجدان المتلقي وحواسه بغية تملّكه، والسيطرة عليه.
في سعي منه إلى تكريس حاجة المتلقي الدائمة إليه. تشييداً الخصال القبيلة كالفروسية، والحكمة؛ والقوة، والهيْبة، والمهابة في نسقٍ كانت فيه الغلبة للصّوت، والشفاه.
وعلى نقيض هذه الطقوس، وفاعليتها الإبداعية، جاءت الكتابة نداءً من الأقاصي، مفارقاً للموروث الشعريّ، وتقاليده قائماً على الحرف، وعلاماته، والخطّ وتشكيلاته؛ مؤسّساً لرؤية قادمة من المستقبل؛ ولا تكترث بما سلف.
باليد حررت الكتابة الشعريّ من التبعية للصوتية، وأفردته بالاستقلال عن غيره، والاعتداد بذاته. فالكتابة أثر لا يمحوه النّسيان، ولا تَكْنِزُهُ الذاكرة، ويُسْعِفُنَا في التحرّر من التأويل الأوحد القاهر الذي يُفُرُدُ الشعرية به؛ وينفيها عن غيره.
وعليه فإن الشاعر الرحّالة/ صاحب اليد الكاتبة؛ هو من يجدّد أنفاسه، ويقيمُ مغايراته، وتحولاته حسب تموجات أنامله وأقانيم كتاباته. فالشعريُّ تمردٌ مستديم، وانشقاق ما يفتأ يتكرر، ويتواتر، ينشد التحرّر والخلاص من سلطة المتعاليات، واليقينات الكبرى.
له وحده، ويدُه بوصلته؛ الغرابة والإتحاف.
إحالات
[1] – لحظة المكاشفة الشعرية (إطلالة على مدار الرعب): محمد لطفي اليوسفي؛ الدار التونسية للنشر./ 1992. ص: 33.
[2] – نفسه؛ ص: 25.
[3] – نفسه؛ ص: 54.
[4] – انتعاشة اللغة: عبد السلام بنعبد العالي. منشورات المتوسط/ إيطاليا. ط.1/ 2021؛ ص: 26.
[5] – انتعاشة اللغة: عبد السلام بنعبد العالي. منشورات المتوسط/ إيطاليا. ط.1/ 2021؛ ص: 26.
[6] – انتعاشة اللغة: عبد السلام بنعبد العالي. منشورات المتوسط/ إيطاليا. ط.1/ 2021؛ ص: 26.
[7] – انتعاشة اللغة: عبد السلام بنعبد العالي. منشورات المتوسط/ إيطاليا. ط.1/ 2021؛ ص: 26.
[8] – العشق والكتابة: رجاء بن سلامة. منشورات الجمل/ ألمانيا. ط.1/ 2003؛ ص: 9.
[9] – العشق والكتابة: رجاء بن سلامة. منشورات الجمل/ ألمانيا. ط.1/ 2003؛ ص: 9.
[10] – العشق والكتابة: رجاء بن سلامة. منشورات الجمل/ ألمانيا. ط.1/ 2003؛ ص: 9.
[11] – اللغة الثانية: فاضل تامر. المركز الثقافي العربي/ بيروت. ط.1/ 1992. ص: 26.
[12] – انتعاشة اللغة: عبد السلام بنعبد العالي. منشورات المتوسط/ إيطاليا. ط.1/ 2021؛ ص: 70.
[13] – نفسه، ص: 68.
[14] – نفسه، ص: 64.
[15] – نفسه، ص: 34.
[16] – سلطة النص: عبد الهادي عبد الرحمن. المركز الثقافي العربي/ بيروت. ط.1/ 1993. ص: 7.
[17] – مجهول البيان: محمد مفتاح. توبقال/ ط.1/ 1990. ص: 89.
[18] – مجهول البيان: محمد مفتاح. توبقال/ ط.1/ 1990. ص: 89.
[19] – ع. السلام بنعبد العالي: مرجع مذكور. ص: 83.
[20] – نفسه، ص 83.
[21] – ثقافة الأُذن وثقافة العين: عبد السلام بنعبد العالي. توبقال؛ ط. 1/ 1994. ص: 109.
[22] – نفسه، ص 07.
[23] – نفسه، ص 08.
[24] – الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر: صلاح بوسريف. دار الحرف/ القنيطرة. ط.1/ 2007. ص: 15.
[25] – نفسه، ص: 54.
[26] – النص القرآني وآفاق الكتابة: أدونيس. دار الآداب. ط 2/ 2010. ص: 112.
[27] – نفسه، ص: 112.
[28] – نفسه، ص: 87.
[29] – نفسه، ص: 174.
[30] – نفسه، ص: 175.
[31] – نفسه، ص: 176.
[32] – نفسه، ص: 176.
[33] – الكتابة والاختلاف: جاك درّيدا. ترجمة: كاظم جهاد. دار توبقال، ط 1/ 1988، ص: 53.
[34] – الكتابة والاختلاف: جاك درّيدا. ترجمة: كاظم جهاد. دار توبقال، ط 1/ 1988، ص: 53.
[35] – الأثر المفتوح: اميرهو إيكو. ترجمة: ع. الرحمان بوعلي. دار الحوار، ط.2/ 2001. ص: 22.
[36] – يقول الشاعر (دراسات في الشعر الحديث): أحمد العمراوي. دار الأمان/ الرباط. ط.1/ 2007. ص: 7.
[37] – نفسه، ص: 9.
[38] – نفسه، ص: 20.
[39] – نفسه، ص: 29.
[40] – ولع الأرض: محمد الصابر؛ دار قرطبة/ البيضاء. ط.1/ 1996. ص: 45.
[41] – فتنة المتخيل: 1- الكتابة ونداء الأقاصي: محمد لطفي اليوسفي. المؤسسة العربية للدراسات والنشر/ بيروت. ط.1/ 2002.
[42] – نفسه
ناقد من المغرب