أخبار عاجلة
الرئيسية / الأعداد / الغموض: مفتاح الفهم ومعضلة البحث المستمر- عبد العزيز الخبشي

الغموض: مفتاح الفهم ومعضلة البحث المستمر- عبد العزيز الخبشي

الغموض: مفتاح الفهم ومعضلة البحث المستمر.

عبد العزيز الخبشي*

هل الغموض مجرّد نقص في المعرفة أم أنّه طاقة حيوية تحرّك الفكر الإنساني؟ هل هو مجرد غياب للحقيقة أو جزء من جوهر الوجود الذي لا يمكن للإنسان فهمه بشكل كامل؟ في هذا التساؤل يكمن واحد من أعمق التحديات التي يواجهها الفكر البشري، حيث يكمن في الغموض ليس فقط حاجزًا أمام الفهم، بل أيضًا عنصرًا محفزًا للتأمل والاكتشاف المستمر. إذا كان الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر قد اعتبر أن الإنسان يعيش في حالة من “الغموض الدائم”، فإن هذه الحالة ليست ناتجة عن نقص الفهم بقدر ما هي سمة أساسية من سمات الوجود الإنساني. وبالتالي، يتساءل الإنسان أمام هذا الغموض: هل نحن في حالة من البحث المستمر عن الحقيقة أم أن الغموض هو جزء لا يتجزأ من طبيعة الوجود ذاته؟

الفلسفة الغربية تذهب في هذا السياق إلى أنه يمكننا تجاوز الغموض بالبحث العقلاني والتمحيص المستمر. فالفيلسوف الألماني فريدريك هيغل، في محاولته لفهم تطور الفكر، طرح نظرية الديناميكية بين المتناقضات، إذ قال إن الحقيقة لا تُحقق إلا من خلال الصراع بين الأفكار المتعارضة، وبالتالي فالغموض ليس مجرد حالة من الشك، بل هو المحرك الذي يسمح بتطور الوعي البشري. في هذه اللحظة، يصبح الغموض ليس مجرد نقطة توقف للفهم، بل محفزًا يتطلب من الإنسان التفاعل معه بحثًا عن الحقيقة التي تتجاوز مستوى الفهم التقليدي. فكما يرى هيغل، الحقائق تتكشف عبر الصراع بين هذه المتناقضات، حيث يصبح الغموض أداةً ضرورية لتحقيق النضج الفكري.

لكن الأمر لا يقتصر على الفلسفة الغربية وحدها في التعامل مع الغموض. في الفكر الشرقي، يعكس الغموض رؤية مختلفة تمامًا حول التعامل مع المعرفة. في الطاوية، على سبيل المثال، يُعتبر الغموض جزءًا من الحكمة التي ينبغي أن يتقبلها الإنسان ويتعامل معها في انسجام مع الطبيعة. في هذا السياق، نجد أن لاو تزو، مؤسس الطاوية، يعتبر أن “التاو الذي يمكن تسميته ليس هو التاو الأبدي”، في إشارة إلى أن الحقيقة الكونية هي في ذاتها غامضة ولا يمكن للعقل البشري إدراكها بشكل كامل. كما أن فكر الطاوية يشير إلى أن التعامل مع هذا الغموض يتطلب العيش بتناغم مع الكون دون محاولة تجاوز أو فهم كامل للوجود. الطاوية هنا لا تراه عائقًا، بل عنصرًا جوهريًا في فهم العالم.

الأمر ذاته يمكن ملاحظته في الفلسفة البوذية، التي تدعو إلى عدم التعلق بالمعرفة المحدودة والاعتراف بالغموض كجزء أساسي من الوجود. في هذا السياق، يُنظر إلى الغموض كعنصر دافع للنمو الروحي، حيث يشير بوذا إلى أن الوعي البشري لا يمكنه أن يدرك الوجود بشكل كامل، وأن الحكمة الحقيقية لا تأتي من المعرفة الظاهرة بل من التقبل والتأمل في عمق الأشياء.

لكن الغموض لا يتوقف عند الفلسفة وحسب، بل يتعداها إلى مجالات أخرى من الحياة البشرية، خصوصًا في السياق الاجتماعي والثقافي. في المجتمع المعاصر، يصبح الغموض أداة تساهم في تشكيل الواقع الاجتماعي والسياسي. كما يرى المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، فإن الغموض في العلاقات الاجتماعية يُستَخدم من قبل القوى الحاكمة للتلاعب بالمعرفة والسيطرة على الأفراد. “السيطرة على المعرفة” هي أحد أشكال الهيمنة التي تساهم في إخفاء الحقائق وتوجيه الوعي الجماعي بعيدًا عن الحقيقة الأصلية. في هذا السياق، يصبح الغموض أداة فعّالة من أجل إبقاء الناس في حالة من اللايقين المستمر، مما يسهل الهيمنة السياسية والثقافية.

وبجانب تأثيره في المجال الاجتماعي، يُعتبر الغموض أيضًا عاملًا مهمًا في التأمل النفسي والتفاعل مع الذات. فالفيلسوف الفرنسي ميشيل دو مونتين يرى أن الغموض ليس مجرد سمة وجودية في العالم، بل هو جزء من الصراع الداخلي للإنسان في مواجهة نفسه. إنه يكمن في هذا التوتر بين ما يدركه الإنسان عن نفسه وما لا يستطيع إدراكه. هذا الصراع الداخلي هو الذي يقود الإنسان إلى مرحلة من الوعي المتزايد والتأمل العميق في ذاته. يُظهر الفيلسوف الألماني كارل يونغ فكرة “الظل”، التي تشير إلى الأجزاء المظلمة من النفس التي لا يمكن للوعي البشري إدراكها بشكل كامل. الغموض هنا ليس مجرد حالة من الارتباك العقلي، بل هو عنصر أساسي في النمو الشخصي والتحقق الذاتي.

الغموض يظهر أيضًا في السياق الديني بشكل بارز. في المسيحية، يُعتبر الإيمان بالغموض جزءًا أساسيًا من العلاقة بين الإنسان والإله. الفيلسوف المسيحي توما الأكويني اعتبر أن الله هو “الحق المطلق” الذي لا يمكن للعقل البشري إدراكه تمامًا. في الإسلام أيضًا، يُنظر إلى الله باعتباره “العالم الغيبي” الذي لا يستطيع الإنسان أن يدركه بشكل كامل. هذا الغموض يتطلب من المؤمنين الإيمان والاعتراف بحدود المعرفة البشرية، وبالتالي يكون الإيمان سبيلاً للتعامل مع هذا الغموض.

وفي السياق الأخلاقي، يعكس الغموض التحديات التي يواجهها الإنسان عند اتخاذ قراراته في الحياة. فالأخلاقيات ليست دائمًا مجرد قوانين ثابتة، بل تتداخل فيها العديد من المتناقضات والتحديات التي تخلق حالة من الغموض. كما يوضح الفيلسوف إيمانويل كانط في “نقد العقل العملي”، فإن الأخلاق لا تتبع دومًا منطقًا عقلانيًا بسيطًا، بل تتطلب التفاعل مع الحالات المعقدة التي قد تثير تساؤلات غير محدودة. في هذه الحالة، يصبح الغموض الأخلاقي جزءًا من المعضلة الإنسانية التي يجب أن يواجهها الفرد في سعيه لتحقيق التوازن بين الواجب والنتائج.

وفي النهاية، تظل الغموض بمثابة حجر الزاوية في الوجود الإنساني. ليس هو مجرد نقص أو فشل في الفهم، بل هو دافع للبحث المستمر والتأمل العميق في معاني الأشياء. فالغموض هو ما يحدد عمق الفكر البشري وقدرته على التفاعل مع الواقع، ويحثه على تجاوز الظواهر السطحية ليصل إلى جوهر الأمور. من خلاله، نستطيع اكتشاف الحقيقة وامتلاك الأدوات التي تساعدنا في فهم أعمق للوجود، وبالتالي يصبح الغموض ليس فقط جزءًا من العيش، بل هو حافز للنمو الفكري والروحي المستمر.

ناقد المغرب.

عن madarate

شاهد أيضاً

توقيع الشاعر الحسن الگامح لديوانه “مراكش التي” في معرض النشر والكتاب الدولي بالرباط

توقيع الشاعر الحسن الگامح لديوانه “مراكش التي” في معرض النشر والكتاب الدولي بالرباط   شهد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *