لا يزال الفنان التشكيلي الإمام دجيمي يستمر في سبر أغوار التراث الصخري في الصحراء ومساءلته إبداعيّاً وجماليّاً من خلال تنظيم معرض تشكيلي متنوِّع يضمُّ اللوحات الصباغية والإرساءات التشكيلية Installationsوالفوتوغرافيات المعبِّرة عن وعي الفنان بقيمة هذه الآثار، لذلك جعل تجربته الفنية ممتدة وشكلا من أشكال التحسيس بأهمية المتروكات واللقى والنقوش الصخرية التي تتعرَّض يوما بعد يوم في الصحراء للتفتت والانقراض والضياع والاندثار بسبب عوامل الطبيعة من جهة، وبسبب عمليات النهب والسلب التي تمارسها جهات برَّانية دخيلة في غياب حماية حقيقية مؤسَّسة وتصدٍّ واسع لكل اعتداء يمس الذاكرة الثقافية والتاريخية الصحراوية..
ومعلوم أن التراث المادي الصحراوي يحبل بالعديد من الآثار والشواهد المادية الضاربة في العراقة والقِدم، من ذلك النقوش الصخرية التي تعد ذاكرة مشتركة وحافظة جمعية تختزل في عمقها نقوشات صخرية قائمة على التعدُّد والتنويع. وبالنظر إلى طبيعتها (التاريخية والفنية)، يتضح على أنها تؤرِّخ لفترات مهمة من حياة بدو الصحراء، إذ أن الرسومات المكتشفة-التي تختزنها الصخور والأشكال والرموز والتصاوير المفردة (الموتيفات) التي تغطيه- تعكس، في نواح تعبيرية كثيرة، أنماط العيش في الصحراء في مراحل وظروف بيئية متعددة إلى جانب عديد من الآثار والبقايا التي تكشف عن الدلائل والرموز والرسومات التي تشير إلى تنظيمات بشرية وتشكلات حيوانية قديمة وعناصر ملموسة مازالت تحفظ أثر حياة سحيقة كانت هناك.
فهذه النقوش تبدو مختزلة ومنمنمةEn miniature وفي صورة هندسية مبسطة تغيب فيها التفاصيل والجزئيات، لكنها تحتفظ بالملامح العامة (المقروءة) للعناصر المرسومة، ومنها الأشكال الحيوانية، وبخاصة فصيلة الأبقار والأغنام والظباء، وبعض التشكلات الحيوانية الأخرى كالنعامات والزرافات والفيلة، فضلاً عن بعض الكتابات والرموز التجريدية التي تؤثث فضاء الصخور ذات اللون الأزرق الداكن الضارب نحو السواد ببعض درجات عتمته وعن النتوءات والبروزات التي تكسوها.
الفنان الإمام، وبمعية زملائه بالمنتدى الوطني لشباب الصحراء، يريد هذا المعرض متجوِّلاً على إيقاع نمط عيش رحل الصحراء ليراه الناس على نطاق أوسع في فضاءات رحبة، وذلك من خلال تحويله إلى قافلة متنقلة “أَزَلاَيْ”(*)للتعريف والتحسيس بأهمية المحافظة على التراث الثقافي الصحراوي المرتبط أساسا بالنقوش الصخرية، وما لحق هذا التراث من تدمير وسرقة وتخريب قافلة فنية تشكيلية تحسيسية وتوعوية تقام بأمكنة مفتوحة على العموم وتجوب عدَّة مناطق وجهات، وتضم معرضاً للصور الفوتوغرافية الخاصة بالنقوش الصخرية واللوحات التشكيلية والإرساءات المستلهمة من هذا الموروث البصري الغني، إلى جانب إنجاز شريط وثائقي حول هذا الموروث الثقافي المادي والمجهودات التي بذلت من أجل صونه وحمايته.
فاللوحات والقطع التشكيلية التي يجود بها هذا المعرض تجسد في بنياتها الجمالية رسائل متعددة صاغها الفنان الإمام بتقنيات تركيب المواد وانصهارها على شكل قطع صغيرة متكوِّمة داخل إطارات خشبية وزجاجية ترسم في تكدُّسها مراحل التفتت والاندثار الذي ينخر جسد التراث الصخري في الصحراء، وكذلك اعتماد أسلوب التشميع والتقطير والكشط والدعك إلى جانب أساليب تلوينية متنوِّعة مزج فيها صباغة الأكريليك بدقيق الرخام والرمل وبعض الصبغات والملوّنات التقليدية، كالزعفران ومسحوق الجوز Brou de noix، وذلك لإعطاء القماشة أوجها متعددة من القراءات البصرية..
خيالات وأطياف ورسوم ظلية متطايرة في الفضاء وتكوينات شاخصة مفعمة بخطوط رخوة وأخرى منثالة على شكل إسكيزات سريعة التنفيذ تؤسر الأشكال والنماذج المرسومة، فضلا عن كتل وأحجام مصبوغة ورشماتEstampes متصادمة على إيقاع خطاب تشكيلي متناغم يستمد مسوغاته وأسسه القزحية من وهد الصحراء ومن تربتها الواسعة والممتدة..
ولا شك أن الفنان الإمام ليحاول من خلال هذا المعرض/ القافلة المساهمة في كتابة وإعادة كتابة جزء من تاريخ الأثر وأثر التاريخ في الصحراء رغم ما يرافق ذلك من إكراهات، لكن بأفق جمالي مفتوح وحالم يشعره بانتمائه وبمسؤوليته كفنان وكإنسان..
*- كلمة تعني بالحسانية قافلة الإبل التي أخْتِيرَت وسَتُساق للبيع، وبالأمازيغية الصنهاجية تعني القافلة المحملة بألواح الملح.
ناقد فني وفنان تشكيلي من المغرب