الرجل الذي لا ألقاه إلا مبتسما المختار النواري*
يرحل الراحلون..
ويغدو الوافدون..
وتعمر مسارب الحياة بالغادي والرائح،
والآتي والفارح،
والذاهب والنائح،
والسائح والجائح.
والناس بين ذلك في شغل شاغل..
بين ناع مفزع،
يجمع حوله كل باك مستصرخ نادب؛
وبين بشير مفرح،
يجلب إليه كل هال محتبر،
ضاحك مستبشر.
وكلا الجمعين يقفان،
أو يوقفان،
عند محطتين من محطات الحياة:
الولادة والوفاة..
الزيادة والنقصان..
البداية والنهاية..
الأول والآخر..
الانطلاق والوصول..
الحركة والتوقف..
الوجود والعدم.
وبينهما مسالك ومعابر،
ومآخذ ومفاتن،
ومساوئ ومحاسن،
وضجيج كثير وصخب،
وهدير ولجب،
وسكون وسكن،
وهدوء ورصن.
وشغل وانشغال،
وبطل وابتطال،
وتقلب وانقلاب،
وغلبة واغتلاب،
وخيبات وخسائر،
ومكاسب وظفائر،
وتيه وسراب،
وقصد وصواب،
وصدق واجتراء،
وكذب وافتراء.
وقليل هم الذين يتركون بصمتهم
ويحفرون على مسالك الحياة أثرهم
ويرسمون على وجوه الناس عِبَرهم.
ويكتبون في تاريخ العبور مسارهم.
ومن بين ذلك القليل كان علي الكريم.
فارحمه اللهم برحمتك يا رحمن يا رحيم.
علي كريم..
الإنسان النبيل الشهم
الرصين الحصيف الفهم
اللطيف الغض الطري
الخلوق الطيب الحيي
الكريم المعطاء الندي
الحقيق المحقاق النهي
المطواع المرضي الرضي
الشاكر الشكور الهني
القانع القنوع الغني
العالي المعتلي السني
الجميل المتجمل البهي
الغاض الغضوض السهي
الحالم الحليم الصفي.
هكذا كان علي الكريم…
ولا تستكثرن هذا عن صديقي وفقيدي
الذي أحدثك عنه
فليس كل هذا كان علي الكريم،
بل كان هذا شيء منه.
ولو حكيت عن كله
ما استوعبته الكلمة،
وإن هو استوعب اللغات بكلماتها؛
وما وسعته الصفحة
فبياضه أنقى من بياضها
ولا تنفع إلا بتسويدها
وهو كان نافعا ببياضه
مترفعا عن السواد.
كانت تَرَفُّعه خلة
وترفع غير اختلالا،
وكانت جرأته خُلقا
وجرأة سواه اختلاقا.
علي الكريم..
بمجرد ما ينطق الحلق اسمك ينتشف، وما يستعذب اللسان حلاوتك يرتشف، وما يستعرض القلب ذكراك يلتهف، وما يستحيي الشعور لُطفك يرتهف.. فلا النشف يصد عنك، ولا الرشف يغري بك ،ولا اللهف يدني منك، ولا الرهف يحنن إليك.. لأنك كنت أقوى من كل نشف، وأعذب من كل رشف، وأروى من كل لهف، وأرق من كل رهف.
ستبكيك المنابر بكاء
وتسح دمعها تهتانا
تدين بدين الإنسانية الرحيبة.
وكفاك برب الإنسانية ديانا
ستبكيك المداشر والقرى
والسهول والجبال عرفانا
وتبكيك كل أرملة سعيت
لتكون عند عض الدهر لها اطمئنانا
ويبكيك الأيتام إذ كنت
حين تنكر القرابات لهم عوانا.
ويندبك الجمعويون والمنتدون
وقد كنت لهم بهديك رشدانا
ويفتقدك صناع الخير كلما انتووا
أن يبنوا بنيانا
ويرووا عطشانا
ويشبعوا جوعانا
ويستروا عريانا
لطالما داويت الخلاف ببشرك
وأخطت الشقاق بحسن سيرك
والتزمت الحياد بإدارة ظهرك.
وقربت البعاد بتعشير خطوك.
وهدّأت الفوران بسرير نجوك
وتعاليت عن ضيق الحساب بأصيل نجرك.
وأفحمت مصطادي العكر بفساحة بحرك
وأخرست ليالي المترصدين بطلعة بدرك.
ما رأيتك يوما إلا متدثرا ببسمك
ولا رُئيت إلا ملتحفا بجميل رسمك.
علي الكريم.. كان رجل الكل، يمسح الكسف عن جبين ذي القَل، ويزيل الهوان عن نفس ذي الذُّل. لا يمنع نفسه مساعدة أي أحد، ويسخر قدراته لخدمة الآخرين على الأبد. رجل المواقف إذا دعت، وسيد الحاجات إذا بدت، لا يبخل بما أُوتي، ويلبي إذا نُودي. يعد ويفي، يُمَنّي ويكفي، يؤانس ويدفي، يؤاخي ويصفي، يقارب ولا يجفي، ويجاهر ولا يخفي. يداوي بنبيل عطفه كلوم الزمان، ويسترد ما سلبه الدهر من أمان.
كان علي الكريم إنسانا
إنسانا حقا تصورا وعيانا
وصمتُه فصاحةً وترجمانا
وكلامُه محشو بلاغة وبيانا
يستميت في نصرة اللغات نصرانا
ويكسب لها معركة ورهانا
وكفاها ان تكون لسانا
وأن تنقل القصد إحسانا
لم يكن متعصبا غاليا دهّانا
ولا مفتريا مدعيا بهتانا
عامل الألسن حبا وتحنانا
وبذاك وزن الأمازيغ ميزانا
ودعى إلى نصرته إيمانا.
علي الكريم..
عهدناك صاحب قضية، ولك فيها بصيرة رضية، ملتزما بها أي التزام، منافحا عنها بكل إقدام، تنفق في سبيلها جهدك، وتصرف لأجلها عمرك. تحمل همها وتدافع، وتناضل في سبيلها وترافع، يعمر بهمها قلبك، وينطق برسوخها نبضك، فأنت جنوبي سليل، وأمازيغي أصيل، يسوق الحقائق ولا يبهرج، وينطق بالحجج ولا يلجلج، ولا يبغي غير الحق بدلا، ولا يروم عنه حولا. أبغض الأمور إليه الشوفينية المتعصبة، وأحقرها عنده العنصرية المتغلبة. لا يكره عربا ولا عجما، معتقدا بدينه اعتقادا صحيحا، مؤمنا بربه إيمانا فصيحا. لا يداهن ولا يماري عدو ربه. ولا يغمض عينه عن عدوانه وغصبه، ولا يلوي عنقه عن احتياله ونصبه، ولا يلجأ إليه طلبا للفتات، ولا يأخذ عنه دروس البهات.
علي الكريم..
تبكيك المدارس التي طرقت أبوابها
معلما ومرشدا ومكونا طلابها.
ويفتقدك روادها الذين كانوا
يستمطرون علمك ونصحك
ويستسقون رعيك ورشدك
ويمتحون سعيك وهديك.
تبكيك المدارس التي آنست رحابها
وأحفيت نعلك في إنهاج سبلها
وأرضيت ضميرك بحضورك فيها
وحمدت رضا ربك بمداومتك عليها
وأسلت مداد قلمك في تصحيح خللها
وأتعبت مناشفك في تدارك بللها.
وزينت ألواحها، وأكرمت طبشورها
وشرفت ذكرها، وبيضت منشورها
وأعلنت مطمورها، ونثرت محشورها.
وأحببت العمل ليلا ونهارا
وأدمنت العطاء سرا وجهارا
وساعدت الطلبة صغارا وكبارا
وتطوعت في الخير بدارا.
وبلطفك عملت الكثير سِرارا
ونقول ما علمناه عنك اذكارا
وها نحن نذكرك ذِكرا لا اشتكارا.
علي الكريم..
عرفناك رجلا ولا كالرجال، مخلصا لعمله، محبا لعلمه، أستاذا كفئا حقا وحقيقة، لا كمن يحملون الاسم ولا صفة، متفانيا في كل ما يقوم به، طلب منه أم لم يطلب، أشرك فيه أم لم يشرك، دعي إليه أم كان داعيه، وساعيه وراعيه، يعمل دون استثقال منه لما يقدم، وبتواضع عن الحديث عند التوفيق، وإذا أثنى عليه اعتذر وابتسم، وأطرق حياء؛ وإذا أثقل عليه اصطبر وانكب إخلاصا ووفاء.
فيا لروعتك حقيقة وذكرى، ويا لخجلنا منك طريقة وعبرة.
يا لشهامتك حيا وميتا، ويا لضياعنا فيك.
فارقد قرير العين، فلك إخوة يحبونك، ولا يزالون يذكرونك.
تارودانت في 24 شتنبر 2024
الأستاذ علي الكريم أستاذ اللغة الأمازيغية وديداكتيكها بالفرع الإقليمي للمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين ـ تارودانت، لبى نداء ربه يوم الاثنين 05 ربيع الأول 1446ه/ 10 شتنبر 2024م.
أديب من المغرب