تحرص الكاتبة الروائية المصرية عبير نعيم في أعمالها على تناول القضايا الاجتماعية بأسلوب عميق، يحمل في ثناياه النقد الواعي والفكر اليقظ، وفي روايتها «لا عذراء في المدينة» تلجأ من البداية إلى عنصر الإثارة والتشويق؛ فبعد إسهابها وإطنابها في رسم ملامح شخصية «القاضي ميزار» وحياته التي يعيشها؛ يُفاجأ القارئ أن هذا الرجل شخص آخر، كان جارًا للقاضي ميزار الذي قُتِل قبل سنةٍ، وقد استطاعت الكاتبة أن ترسم في تلك المشاهد التخيُّلية التي توهَّمها ذلك المريض الذي يسكن في المنزل المقابل لمسكن ميزار، صورًا عميقة لا يشكُّ من يطالعها في أنها حقيقة وأن صاحبها هو «ميزار»؛ كقوله «مررت بالردهة الكبيرة المؤدية إلى مكتبي، أنظر في صور عائلتي وهي مصطفَّة على الجدران، يعلو زجاجها التراب.. أنزلتُ كل صورة على حدةٍ أقبِّلها، وبين كل قبلة وأخرى لحظة إيلام موجع تخترق صدري بسكِّين الفراق المؤلم»، بل إنه يستحضر من ذاكرته ما حدث يوم مقتل أسرته، وعودته إلى منزله ليجده مفتوحًا ويسمع همهمة الاستغاثة بين أكوام الدماء، ويذكر قصة القرد الذي كان بِصُحبة القاتل الذي نَسِيَه في المنزل بعد إتمام جريمته.. هذه الصور التي ترسمها الكاتبة تضفي على الشخصية واقعية يُستبعَد معها أن تكون من خيالات شخص مريض.
وبعد ذلك تبدأ الكاتبة في عرض نماذج من ثنائية الصراع بين الخير والشَّر، فالشَّر ملتصق بمعظم شخصياتها، ولذلك جعلتْ عنوان روايتها «لا عذراء في المدينة» أي: لا بريء، والكاتبة تتناول أحداث هذه الرواية في ثلاثة مسارات متوازية، على النحو الآتي:
أولًا: بيان بالجرائم: وفي هذا الصدد نجد كمًّا من الجرائم، يمكن إيجازها وفق هذا النحو:
جرائم «لارا»: وهي فنانة تشكيلية لها نوع مفضَّل من الصور؛ فهي «رسَّامة الموت»، تقوم كل سنة في أثناء حفل عيد ميلاد ابنها الذي تبنَّته، بقتل طفلٍ من أصدقائه، ثم ترسم في إحدى لوحاتها ذلك الطفل المقتول، وبعد أن تبدع في رسمه؛ تحصل لوحتها على جائزة قيِّمة، وهي ماهرة في إخفاء أدلة جريمتها، تقول عن لوحاتها: «في كل لوحة قصة لا يعرفها غيري».
ولا تنتهي قصة الشَّر لدى «لارا» عند هذا الحد؛ بل مارست مكرها ونفثت كيرها ضد ابنها بالتَّبنِّي «ساري»؛ فقد كانت تخشى أن ينفرد بثروة «ميزار» بعد موته لكونه ذكَرًا، فتواصلت مع طبيب من أصدقائها فنصحها أن تضع جرعة من الهرمونات الأنثوية في كوب اللبن الذي يشربه الولد؛ حتى يتحول إلى أنثى بمرور الوقت، وكانت تضلِّل زوجها حين يسألها عن تلك التغيرات التي يلاحظها في جسد الولد، فتخبره بأنها تغيرات عادية، وتستغل كونها طبيبة نفسية، في إقناعه، ويكتشف الولد «ساري» حقيقة تدبير «لارا»، فيقرر الانتقام، وهو يعتقد أن «ميزار» شريك لها في خطَّتها، ومن حُسن حظ «ساري» أنه اكتشف أن الخادمة ليست خرساء كما تتظاهر، فهدَّدها بفضح أمرها إن لم تنفذ طلبه، واتَّفقا على أن يتظاهر هو أمام «لارا» بشرب كوب اللبن المليء بهرمونات الأنوثة، ثم يعطيه للخادمة لتعطيه لميزار كي يشربه.
وبالفعل تنجح خطة «ساري» ويرى «ميزار» يفعل ما كان يفعله هو، وزيادة في الانتقام يذهب «ساري» إلى «ميزار» بالدُّمية التي كان يعاقبه على تقبيلها واللعب بها، ويطلب «ساري» منه أن يقبِّلها كما كان يفعل هو، ويضغط بالدُّمية على أنفاسه، وهنا نجد تعبيرًا بليغًا من الكاتبة وهي تقول على لسان «ساري» متحدثًا عن «ميزار» الذي طلب منه أن يبعد الدمية عن وجهه: «صوتها الرقيق جعلني أتراجع للوراء مِن على أنفاسها وهي تقول: كُفَّ عن مداعبتي وهيَّا نعلِّق «بالونات» عيد ميلادك بسرعة، وسأختبئ بعد حضور الضيوف»، ومن أبرز الجماليات هنا أن «ساري» تكلَّم عن «ميزار» بضمير الأنثى؛ كأنه اقتنع أنه تحول بالفعل إلى أنثى.
جرائم ميزار: ارتكب «ميزار» عدة جرائم؛ منها:
اختطاف ابنة أخته: كانت كاميليا أخت «ميزار» مدلَّلة في أسرتها؛ كونها البنت الوحيدة، وقد جمعتها قصة حب مع مدرس البيانو «شادي»، لكن أخاها «ميزار» حارب هذا الحب، فتزوَّجا سرًّا، ولما رأى ميزار كثرة تردُّد شادي على منزلهم؛ طرده، لكن كاميليا صارحت زوجة أخيها ميزار؛ الذي تظاهر بعد ذلك بالترحيب بالأمر، ثم طلب من أخته أن تتنازل له عن ميراثها مقابل إعلان زواجها، وحين ولدت ابنتها في المستشفى؛ أخذت «لارا» المولود، ثم جاء الطبيب إلى كاميليا بطفل ميت يخبرها أنه وليدها.
التواطؤ مع صاحب المصنع: كانت خادمة «ميزار» قبل أن تعمل لديه، لها زوج فقير يعمل في أحد المصانع، يستطيع بالكاد توفير القوت لزوجته وابنهما، وفي أحد الأيام يقرر أن يضاعف عدد ساعات عمله في المصنع ليستطيع أن يشتري حذاء جديدًا لابنه يذهب به إلى المدرسة، وغطاء رأس لزوجته يحميها من برد الشتاء، لكنه في ذلك اليوم تعرَّض لحادث في المصنع وقطعت الماكينة إحدى رجليه، وذهب إلى المستشفى وتمَّ بترها، وحين قام أحد زملائه بمساعدة زوجته وأقام دعوى قضائية ضد صاحب العمل بعد أن فصل زوجها بسبب عجزه؛ استطاع صاحب العمل أن يحصل على حكمٍ بِرَفض الدعوى بحجة أن العامل أساء استخدام الماكينة، والقاضي الذي أصدر ذلك الحكم هو «ميزار».
تبرئة مغتصبي الطفل: كان طاهي منزل ميزار له ولد صغير يذهب معه أحيانًا إلى بيت ميزار، لكنه سئم من هذه الحال؛ فقد رأى والده يعود إلى البيت ببعض الفتات من بقايا طعام أسرة ميزار، بينما كان الولد الصغير يحلم أن يصبح طبيبًا، وفي يوم خرج قطَّاع الطرق على الطفل وأبيه فأخذوا ما معهما من مالٍ وضربوا الأب حتى سقط أرضًا، وهتكوا عرض الطفل، وأحيلت القضية إلى المحكمة، فقضى ميزار ببراءة المتهمين وهو يعلم أنهم جناة والأدلة متوافرة، وتمضي الأيام وينتقل الولد للعمل في بيت ميزار حتى ينتقم منه ومن أسرته.
أخطاء الخادمة: هذه المرأة كانت تقاوم الواقع، تنزل إلى الشوارع لتبيع عقود الفُل، ثم تعود إلى المنزل ببضاعتها خاوية اليدين، لكنها سقطت بعد ذلك واستجابت لرغبة بعض الساقطين، ويبدو أن زوجها لاحظ سقوطها؛ فقد رفض أن يرتدي الطرف الصناعي الذي اشترته له، وقال لها: «تكفيني رِجل واحدة غير ملوَّثة»، وبعد ذلك احتضن ابنهما وألقى بنفسه من فوق السطح فماتا معًا، أما هي فتقرر الانتقام، فبدأت تتردد على منزل القاضي ميزار وتطلب المساعدة حتى وافقت زوجته على أن تعمل خادمة لديهم، ثم بدأت تمارس سرقة كل ما هو ثمين لديهم، حتى أصبحت أكثر ثراء منهم.
ومن أخطاء هذه الخادمة أيضًا أنها قتلت «شادي» ضمن خطة انتقامها من عائلة «ميزار»، مع أنه لا ذنب له، و»ميزار» نفسه كان يكرهه.
لغز التوأمين وبراءة ميزار: يبدو أن الكاتبة أرادت أن توظِّف قصة الأخوين هابيل وقابيل، وأن تجعل الخير والشَّر وَلِيدَيْ أسرة واحدة، بل ولحظة واحدة أيضًا؛ فجاءت في روايتها بتوأمين «ميزار» القاضي العادل رمزًا للخير، و»سيزار» الشِّرِّير الذي كان يحقد عليه، واستغلَّ الشَّبه الشديد بينهما وحبسه في مكان بعيد وانتحل شخصيته، واعترف بأنه كان يتعمد تبرئة المجرمين لأنه كان يرى فيهم صورة نفسه، فكان يرى في تبرئتهم تبرئة لنفسه، وقد أصابت الكاتبة في اختيار الأسماء حين جعلت اسم الشِّرِّير المنتحل «سيراز» وهو اسم قريب في حروفه من السوء، بينما اسم الأخ الطيب «ميزار» وهو قريب من المزايا.
ثانيًا: النقد الاجتماعي: ومن النقد الاجتماعي في هذه الرواية قول الطفل المغتصَب: «نظرات الطلبة والمدرسين ليست كنظراتهم من قبل؛ في كل نظرة ألف سؤال يريد إجابة، بدأ المدرسون يتخذون موقفًا مني، كأنني أنا الجاني وليس المجني عليه»، والكاتبة تسوق هذا الكلام على لسان الولد، بأسلوب النقد والاستهجان؛ فقد تواطأ المجتمع ضده وكان ينبغي أن يدافع عنه، حتى المدرس الذي جاء به أبوه ليعلِّمه داخل المنزل بعد أن رفض الذهاب إلى المدرسة؛ تحرَّش به ظنًّا منه أنه فريسة سهلة، لكن الولد ركله في بطنه فسقط من فوق الكرسي، وعلم أبوه فكاد أن يقتل المدرس لولا أنه لاذ بالفرار، وما زال العار يلاحق ذلك الطفل، حتى إنه بعد أن مات الأب حزنًا؛ لم يجد ذلك الابن الصغير عملًا يعول به نفسه وأمه سوى أن يكون عامل نظافة في محل أحذية، ومع ذلك نجده يقول: «كنت أشعر بنظرات صاحب المحل تطاردني بتهمتي التي لا أعرفها، بينما الجناة لا ينظر إليهم أحد!!».
ومن النقد الاجتماعي أيضًا ما ورد في قصة الخادمة بعد إصابة زوجها وعجزه عن العمل، ومحاولاتها التي قامت بها من أجل مساعدته من خلال بيع عقود الفل، تقول: «نظرتُ على الوجوه بين إشارات المرور، الكل جائع، أوقفتُ رجلًا مُسِنًّا يقود سيارة فارهة، مددت يدي له بعقد الفل، تحسَّس يدي، عرفت أنه واحد من الجياع رغم سنِّه»؛ فهي امرأة أرادت أن تظل شريفة، لكن المجتمع كان متسلِّطًا عليها، وفي قول الكاتبة «نظرت على الوجوه» جاءت التعدية بحرف الجر (على) وليس (إلى)؛ لمناسبة لسان الحال؛ فهي تتحدث عن التعبيرات التي ترتسم على الوجوه.
ثالثًا: الحكمة: وفي الرواية أيضًا شذرات من الحكمة؛ منها قول «ساري»: «البشر يسيرون بسرعة كبيرة، لا أعرف لماذا يسرعون هكذا، لا يعرفون أن أقدارهم ستقابلهم حتى لو أبطؤوا المشي!!»، وقد جاءت هذه الكلمات في سياقها المناسب على لسان الشخص المناسب؛ لأن هذا القائل «ساري» قد تعرَّض لأزمته المتعلقة بزيادة الهرمونات الأنثوية، بشكل تدريجي، ودون إرادته أو رغبته، وهذه الأزمة بهذا الشكل يناسبها أن تجيء هذه الحكمة على لسان من تعرَّض لها.
ومن كلمات الحكمة أيضًا قول الخادمة قبل انتحار زوجها: «جاء الصباح، نظرتُ إلى قرص الشمس المتعامد على سطح المنزل، وجدتُ أشعَّته صريحة لا تخجل من الشروق كل يوم، فقررت أنا أيضًا ألَّا أخجل حتى تشرق بسمة ابني وزوجي، حملتُ عقود الفل..»، وقد جاءت هذه الكلمات من الحكمة في سياقها المناسب على لسان هذه المرأة؛ لأنها كانت تحمل عقود الفل وتذهب لتبيعها حتى تجد قوت يومها هي وزوجها العاجز وابنهما، لكنها كانت تعود إلى المنزل خاوية اليدين، فكان مناسبًا لها أن تتعلم تكرار المحاولة من الشمس التي تشرق كل يوم بعد أن تغيب.
شاهد أيضاً
الرواية القصيرة جدا مبررات الولادة وآفاق التطور – حميد الحريزي
الرواية القصيرة جدا موجبات الولادة، وأشتراطات التجنيس الأبداع الأدبي مرتبط إرتباطا وثيقا بحياة الأنسان، ومنذ …