الرئيسية / الأعداد / الهايكو وفلسفة اللغة – الجزء الثالث – توفيق أبو خميس*

الهايكو وفلسفة اللغة – الجزء الثالث – توفيق أبو خميس*

الهايكو وفلسفة اللغة – الجزء الثالث 

توفيق أبو خميس*

 

” اللغة والفكر كقطعة نقدية واحدة وجهها الأول الفكر ووجهها الثاني اللغة وإذا فسد أي وجه من الوجهين فسدت القطعة، فالفكر النسبة للغة كالروح بالنسبة للجسد”.

_مولر

يعتبر نهج إستخدام اللغة من أكثر السلوكيات التي يبديها الإنسان ويوليها تعقيداً وبراعة سواء كان نطقاً أو كتابة، وذلك بإنتقاء المفردات الدالة على المعنى الصحيح ضمن سياق النص وترتيب هذه المفردات بجمل وعبارات تكون مفهومة وبشكل جلي تماماً عندما يتلقاها مسمع المتلقي ابن ذات اللغة أو الملم بها جيداً.

وكما نعلم إن من أحد أهم الأساسيات التي ترتكز عليها بنية الهايكو بساطة اللغة والبعد كل البعد عن البلاغة ومن أحد أركانها علم البيان(التشبيه، المجاز، الكناية ..) وهذه يختلف تماماً عما نعنيه ببلاغة المفردة والتي نعني بها هنا دقة التوصيف الذي تحققه تلك المفردة.

وهذا يتطلب من الكاتب الإلمام بعض الشيء بمعاني المفردات قبل استخدامها في كتابة نصوصه، فهناك مفردات يُظَّن بإنها ترادف بعضها البعض، وهي في الحقيقة ليست كذلك وإنما تقع تحت (الفروق الدلاليَّة)

حيث يعتبر الترادف ظاهرة لغوية موازية للفروق الدلاليَّة، فإذا وجدنا كلمتين تدلان على معنى واحدٍ، فقد نحكم على أن بينهما ترادفاً، بشروطٍ وقيودٍ وضعها العلماء قديماً وحديثاً، وإذا لم يتحقق هذا الترادف لوجود فرقٍ ولو بسيطاً بينهما في المعنى؛ فيندرج اللفظان تحت ظاهرة (الفروق الدلاليَّة).

وعلى ذلك علينا أن نفرق حين نتحدّث عن الخوف، وحين نتحدّث عن الخشية، فهناك فرِّق بين المفردتين. وكذلك الحال مع (المشاهدة والرؤيا) و(جاء وأتى) و(الفعل والعمل) و(القعود والجلوس) و(الإعطاء والإيتاء) و(السنة والعام) و(الشك والريب) و(اللوم والتثريب والتفنيد) وغيرها الكثير الكثير.

عن بعض النصوص التي أجاد كتابها بتوظيف المفردات الدالة والتي وافقت سياق النص وعلى سبيل المثال لا الحصر أرفق النصوص التالية:

1-

حديقة عامة

ترى ماذا يشاهد

الضرير ؟

علي محمد القيسي/العراق

في هذا النص أستخدم الأستاذ علي القيسي الفعل “يشاهد” ولم يستخدم الفعل يرى أو ينظر في السؤال الاستفهامي الاستنكاري فمفردة “رؤية” تعني ملاحظة أو الوعي بـ (شخص أو شيء ما) بإستخدام العيني. “النظر” يعني توجيه العينين في إتجاه معين. أما “المشاهدة” فتعني النظر إلى (شخص أو شيء ما) لفترة زمنية والإنتباه إلى ما يحدث. فتحديق الضرير لفترة طويلة نسبياً ولدت هذا السؤال لدى الهايكيست علي القيسي

ويأتي الاستفهام الاستنكاري عادة للتعبير عن إنكار أمر ما أو استهجانه، والهدف من السؤال هنا ليس طلباً للحصول على إجابة، بل إظهار استغراب السائل

2-

صهد-

يضيف الراعي

لفتين لعمامته

مريم لحلو/المغرب

في هذا النص جاء إستخدام بلاغة المفردة ولما لها من دور في خدمة التكثيف والإيجاز في النص وهي من أساسيات بنية الهايكو، ففي السطر الأول جاءت كلمة صهد وفي معناها باللغة حرارة الطقس الشديدة، وباستخدام هذه المفردة ساعد الهايكيست بإختصار عدد كلمات السطر الأول بشكل خاص ومجمل النص بشكل عام

3-

على حافة البئر

الدلو

يملؤه المطر

سامح درويش/المغرب

 

في النص الثالث جاء إستخدام البساطة في نقل المشهد في أجمل صورها حيث أجاد الهايكيست بإستخدام مفردات بسيطة جداً وتوظيفها برسم مشهدية بصرية صادقة تحدث هنا وهناك، مبتعداً كل البعد عن التزويق اللغوي، والمجاز والفانتازيا التي لا داعي لها .

‏وهنا أكرر مقولة لودفيغ فويرباخ عن البساطة حيث يقول: “الأسرار الأكثر عمقاً تسكن الأشياء الطبيعية الأكثر بساطة”.

في الهايكو دائماً ما تدهشني بساطة اللغة، وعندما يلجأ الهايكيست المبدع لأسلوب التبسيط  في كتابة نصوصه فهو كما يقول بيكاسو: “يقوم بتجسيد عمق المعنى المضمر في نفسه من خلال حذف ما ليس دالاً، و من هنا نفهم عبارة ليوناردو دافنشي الشهيرة ” البساطة هي الرقي المطلق”.

في البدء تبدو لنا الأشياء بسيطة ، ثم نتعلم أكثر فتصبح معقدة ، وتالياً يتعمق فهمنا و تجربتنا أكثر، فتصبح بسيطة أكثر وأكثر.

لهذا يقال أن البساطة التي تقع على الجانب الآخر من التعقيد هي “الفهم العميق”، أو كما يقول المثل الصيني: “كل الأشياء معقدة قبل أن تصبح بسيطة.”

ناقد من الأردن

 

 

 

عن madarate

شاهد أيضاً

في مقاربة الهايكو من ثرثرة القراءة إلى تكثيف المقاربة ) محمد بنفارس

في مقاربة الهايكو من ثرثرة القراءة إلى تكثيف المقاربة محمد بنفارس* 1/ في التقديم:  في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *