الرئيسية / الأعداد / أوجه التباين بين الحركة التصويرية والهايكو – حسني التهامي*

أوجه التباين بين الحركة التصويرية والهايكو – حسني التهامي*

أوجه التباين بين الحركة التصويرية والهايكو

حسني التهامي*

 

تأثر شعراء الحركة التصويرية في بداية نشأتها بالهايكو الياباني، بخاصة في مراحلها الأولى. ظهر هذا التأثر جليا من خلال البيان الذي أصدره “إزرا باوند” (Ezra Pound 1885 – 1972) الذي دعا فيه إلى التعامل المباشر مع الأشياء، والابتعاد عن العبارات المنمقة التي تحول دون بساطة الصورة الشعرية ووضوح الفكرة العامة بالنص.  كما نادى إزرا باوند بجمالية الاختزال والتخلص من الكلمات الزائدة التي لا تسهم في تشكيل الصورة أو عرض الموضوع. فيما بعد تحرر إزرا باوند و”آمي لويل”)  Amy Lowell 1874 –1925) وغيرهما من شعراء الحركة البارزين تدريجيا من القيود الشكلية للكتابة، وآثروا التعبير عن تجاربهم الخاصة ومشاعرهم الذاتية، وكانت صورهم الشعرية تميل في كثير من الأحيان إلى التجريد.

يرجع التمايز بين ثقافتي الشرق والغرب إلى أنّ تفكير الإنسان الغربي يختلف تماما عن الطريقة التي ينظر بها الشرقي للأشياء. فالعقلية الغربية تعتمد على التحليل المنطقي للظواهر؛ لذا “يميل العقل الغربي أكثر إلى التفكير المنطقي والتحليلي. لم يستطع شعراء الحركة التصويرية القيام بـ”المعالجة المباشرة للشيء” ولم يتجنبوا التجريد واللغة الخيالية في أشعارهم، إضافة إلى ذلك اختلافهم عن بعضهم البعض في طريقة الكتابة وبالتالي فإن الشعر التصويري لم يكن شكلاً شعريًا متجانسًا  كالهايكو على الجانب الآخر يسعى العقل الشرقي إلى إيجاد الحقيقة بشكل حدسي، (1)  وهذا ما يؤكّد اعتماد الذهنية الشرقيّة على التوقعات والتنبؤات في رؤيتها للأشياء للوصول إلى احتمالات دون الاعتماد على التحليل المنطقي، وبالتالي تنعكس هذه الرؤية بشكل تلقائي على الأنماط الأدبية التي يسهمون في إنتاجها. ولعلّ هذا ما يفسر اعتناق اليابانيين لشكل الهايكو كنمط شعري منذ أن نشأ إلى وقتنا الحاضر، بيد أن شعر الهايكو ينماز بالتشابه في أسلوب الكتابة رغم اختلاف الرؤى بين شعرائه.

لذا كثيرا ما ينعكس هذا التباين والاختلاف بين الثقافتين على بعض قصائد الهايكو وشعر الحركة التصويرية ، وساهم أيضا في اتساع فجوة هذا الاختلاف في المنتج  الشعري خصوصية اللغة المستخدمة في الكتابة . ترى “جوردن .إم.جرابر(Gudrun M. Grabher)  “أنّ صعوبة كتابة هايكو بالإنجليزية يرجع إلى أنّه: “بالنسبة لشاعر الهايكو، الضفدع هو الضفدع، والقمر هو القمر، والمطر مطر، والعصفور عصفور، الشيء يظل كما هو عليه” (2)؛  وبالتّالي فمهمّة شاعر الهايكو نقل الأشياء على صورتها الواقعيّة دون تدخّل منه.

على الرغم من ذلك التباعد والانفصال بين الثقافتين –الشرقية والغربية – كانت هناك محاولة من الطرفين لتحقيق نوع من التوافق. ولعلّ ذلك يتجلّى في ردَّ (باوند) على رسالة الرسام الأمريكي ذي الأصول اليابانية ايسامو نوغوتشي Isamu Noguchi الذي يُظهر بالفعل انفصال الثقافتين ، ولكن كان هناك دائمًا أمل في التوفيق بينهما أو على الأقل محاولة تحقيق ذلك: “أنتم تهبوننا روح اليابان، أليس كذلك؟ …تقريبا لا أعرف شيئا عن بلادكم – بالتأكيد إذا كان الشرق والغرب سيفهم بعضهما البعض، فلابد أن يأتي هذا الفهم تدريجيا من خلال الفنون”  (3)؛ فعلى الرغم من التباين بين البيئات والثقافات واختلاف ذهنية الشعراء من بلد لآخر فهناك رغبة حقيقية في التعاطي مع الفنون والآداب وتقاسم روح الجمال فيما بينهم. لقد حاول التصويريون الاقتراب في نصوصهم من روح الهايكو، وبدا ذلك جليا ليس فقط في الكتابات الأولى لشعراء الحركة لكن أيضا في أعمال شعراء أمريكيين لاحقين “كجاك كيرواك” Jack Kerouck) و”ريتشارد رايت”Richard Wright)  (وغيرهما.

في حين ألقت الطليعة الأوروبية بظلالها على شعراء الهايكو اليابانيين في منتصف القرن العشرين، أشار إلى ذلك الشاعر والمترجم” إريك سيلاند” ( Eric Selland) المقيم في طوكيو وهو يتحدث عن تجربته الشعرية المتأثرة بالحداثة الأوروبية قائلاً إنّه: “يكتب هايكو طليعيًا بشغف متأثرا بالدادية الأوروبية (4) ظهرت الحركة الدادية كرد فعل لما أحدثته الحرب العالمية الأولى من دمار مادي ومعنوي نتج عنه نوع من الفقد الجماعي للإحساس بالواقع. فيما بعد أنتج الشاعر اليابان “بانيا ناتسوشي”   (Ban’ya Natsuishi) متأثرا بالواقعية الأوربية – نوعا من الشعر أسماه ” الهايكو جنداي” أو الهايكو الحداثي وأسس لما يُعرف بـ “هايكو العالم” قدم من خلاله أسلوبا جديدا للكتابة في هذا المجال

كثيرا ما يركزُ شاعرُ الهايكو الياباني على التفاصيلِ الدقيقةِ في الطبيعةِ، فهذهِ الأشياءُ الصغيرةُ ترمزُ لأعمالٍ عظيمةٍ في حركةِ الكونِ والحياة. وليس أدلَّ على ذلك من نصِ الضفدعةِ لـ”ماتسو باشو” 🙁 1644–1694/Matsuo Basho)

بركةٌ قديمةٌ ساكنةٌ

ضفدعٌ يَقْفزُ إلى..

صوت الماء  (5)

ربما لا ينتبهُ الإنسانُ العاديُ للكائناتِ الصغيرةِ بالكون، بينما يتسم ُ شاعر الهايكو بالملاحظةِ الدقيقة والثاقبةِ للأشياء. يعتمد نَصُ الهايكو في واقعِ الأمرِ على الحسِ والحدَس، يقومُ شاعرُ الهايكو في هذه الحالةِ بدورِ الوسيطِ الذي يستخدمُ حواسَّه لنقلِ لحظةٍ معينةٍ في الطبيعة، ومع ذلك يلعبُ دوراً في إظهارِ الجمالِ غيرِ المرئيِ، أو غير المعروفِ لهذا المشهد الطبيعي دونَ تدخلٍ منه في مجرياتِ الحدثِ مُطلقاً. يعبّر (هاكوتاني Hakutani)عن هذا الأمر بقوله: “بينما يصفُ شاعرٌ مثل باشو ظاهرةً طبيعيةً بشكلٍ واقعي، فإنه ينقلُ تصورَه الفوري بأنَّ الطبيعةَ عميقةٌ للغايةِ وصامتةٌ تمامًا. (6) تمثل الضفدعةُ في النص أعلاه الإنسانَ كمحور أساسي لهذا الوجود، وطرطشُتها للماءِ ما هي إلا تلكَ الأعمال البسيطة للإنسانِ في الكونِ الهائلِ الذي تُمثله البركة. لكنَّ هذه الأعمالَ البسيطةَ التي تقوم به هذه الكائنات الصغيرة مهمةٌ ومركزيةٌ، إذ تستمرُ بتأثيرِها حركةُ الكون والحياة.

لننظرْ إلى نص آخر لباشو :

أيُّ هُدُوءٍ!

إلَى جَوفِ الصَّخْر،

يَتَسَلَّلُ صَوتُ الزيزَان  (7)

استخدم الهايكست حاسةَ السمعِ لنقلِ صورةِ الطبيعة الحسية عبرَ الكلماتِ التالية: “هدوء” “يتسلل” و”صوت”. توحي كلمة”هدوء” في السطر الأول بالعزلةِ، بينما يكسرُ حدةَ الهدوءِ تسربِ صوتِ الزيزِان إلى الصخور. عمد باشو بلغة بسيطة إلى إظهار دور الكائنات الصغيرة كالزيزان التي يتسرب صوته بين الصخور الضخمة فيحدث تغييراً، وهذه تقنية عادة ما كان يستخدمها باشو لإحداث نوع من المفارقة.

تقتربُ بعضَ قصائدِ التصويريين من نَهجِ شُعراءِ الهايكو تجاهَ الطبيعة، مثال ذلك قصيدة “ضباب الخريف  “لآمي لويل”  (Amy Lowell)، وهي من الأعمالِ المبكرة التي كُتبت بذهنيةِ الشاعرِ التصويري:

أيعسوبٌ أم ورقةُ قيْقب

ذلك الذي يستقرُ بهدوءٍ على الماء؟  (8)

يمثلُ هذا النصُ مرحلةً شعريةً تقتربُ من وعيِ الشاعرةِ بفكرة الهايكو؛ فلا نكادُ نلمحُ ذاتَ الشاعرةِ في النص حيث تتركُنا مع الطبيعةِ بمضوعيةٍ تامة. تتسمُ القصيدة أيضا بالإيجازِ والتكثيف، تصورُ الشاعرةُ حركةَ الطبيعةِ الصغيرةَ بالكلماتِ وتتركُ الأشياءَ تتصدر المشهد دونَ إقحام الذات. لم تستطع الشاعرةُ رؤيةَ الأشياءِ التي ترسو على وجهِ الماءِ نتيجةَ الضبابِ الذي يحدُ من قدرتِها على الرؤيةِ بوضوح، انعكست هذه الضبابيةُ والحيرةُ أكثرَ في السطرِ الأخيرِ من خلالِ سؤالٍ لم تضع الشاعرةُ له جوابا!

لا يخلو الهايكو في الواقع من العنصرِ البشري على الرغمِ من علاقته المباشرة بالطبيعة واتخاذه عناصرَها مادةً أولية للتأمل، وفي هذه الحالةِ تكونَ الطبيعةُ هي المجال الساحر والباعث الأول على التأمل، وهي الركيزة الأساسية في بناء معمارية نص الهايكو وإخصابه دلاليا. يؤكد “هاكوتاني” على أنه: “إذا تعامل الهايكو مع الحياة البشريةِ، يجبُ النظرُ إلى هذه الحياةِ في سياقِ الطبيعةِ بدلاً من المجتمع فكثير من نصوصِ باشو جسدتِ العلاقةَ بين الفردِ والطبيعة (9) كما في هذا النص :

بَيْنَ الحِينِ والآخرِ، الغيومُ

تُريحُ الروحَ مِنَ

التَّحديقِ فِي القمرْ  (10)

في هذا النص لا ينفصلُ العنصرُ البشريُ عن الطبيعي حيث يصورُ الشاعر ُحركةَ الغُيومِ في السماءِ وهي تحجبُ القمرَ وفي الآن ذاته نلْمحُ ذات الشاعرِ بوضوحٍ في كلمةِ “الروحِ” التي تَعْني أن الشاعرَ كان على مسرحِ الحدث، يُرَوّحُ المشهدٌ الطبيعيُ عن النفسِ ويتيحُ لها المجالَ للتأملِ في بهاءِ القمر؛ مع ذلك لا تمثلُ الذاتيةُ عائِقاً يَحولُ دونَ المشهديةِ وتناغمِ جزئياتِها الحركيةِ، إنها تنسجمُ مع روحِ الهايكو لأن المشاعر تنبثق من الطبيعة وليست من ذات الشاعر. فعلى شاعر الهايكو أن يتحد مع الطبيعة ويتحدث عنها بطريقة خاصةٍ، لأنه الأجدرُ بمعرفةِ جوهرِ الأشياءِ، والجوهرُ هُنا هو الشيءُ ذاته، ولكي تفهمَ جوهرَ الشيءِ فلابدَّ من العودةِ إلى الطبيعة والتماهي معها.

على الجانبِ الآخرِ دأبت طبيعةَ الشاعرِ الغربيِ ونمطَ عقلهِ التحليليِ على ألّا يقبلَ الأشياءَ بمُسلماتِها، ولا ينظرَ إليها كما هي حتى عندَ تعاملِه مع الطبيعة. ولننظرْ إلى قصيدةِ ” الشوارع” لـآمي لويل:

أثْنَاءَ تجْوَالي فِي شَوَارِعِ المَدينة الثَّمَانُمائة،

لمْ أرَ أجملَ

مِنْ نِسَاءِ البيوت الخضراء،

بأحزمةٍ مجدولةٍ مُذَّهبة،

بفساتينَ ذاتِ أكمامٍ طويلةٍ،

مُلَّونةٍ مثل حبيباتِ الخشب

أثناءَ سيرِهِّن ،

ترفرف فتحاتُ ثيابهنِّ ،

وتتوهجُ البطاناتُ الحمراءِ القانيةِ مثل أوراقِ القيِقبِ ذاتِ الأسنانِ الحادة

في الخريف  (11)

إنَّ ذاتَ الشاعرةِ حاضرةٌ بشكلٍ مُباشرٍ، في التقاطِ تفاصيلِ الأشياءِ الدقيقةَ بجمالياتِها أثناء تنزهِها في الشوارع. فالجمالُ ليس جمالاً طبيعياً، لكنه ذلك الجمالُ النابعُ من فوضى المدينة. لفت انتباهَ الشاعرةِ جمالُ النساءِ اللائي يتمايلن، وأُعجبت بحركتِهن أثناءَ سيْرِهنَّ، تتكشفُ هنا الذاتيةُ المُباشرةُ في السطر الثاني، حيثُ تقرُ الشاعرةُ أن النساءَ اللائي وقعتْ عيناها عليهنَّ هُنَّ أجملُ النساءِ على الإطلاق.

تنتقل الشاعرة من الوصف الذاتي إلى الموضوعي، حيث تُدرج الأسطر الأخيرة من القصيدة صورَ الطبيعةِ. تعجب الشاعرةُ بـالثوب الاصطناعي وتشبهه بـ “أوراق القيقب ذات الأسنان الحادة”، وهذا التطفل على الطبيعة الذي يأتي في اللحظةِ الأخيرةِ مثير للاهتمام وجدير بالملاحظة. بعد الوصف الطويل وتصوير الإعجاب بالنساء، تختتم لويل نصها – بعد وصف النساء الطويل والتعبير عن الإعجاب بهن – بجملة ” أوراقِ القيِقبِ ذاتِ الأسنانِ الحادة في الخريف ” التي تزخر بكثير من المراسلات الطبيعية لما تعتبره الشاعرة / المراقبة النشطة للمدينة، لقدجعلت تلك الجملة النص مزيجا مركباً من تفاصيل ذاتية وموضوعية.

References:

1- M. Graber, Modernism Revisited: Transgressing Boundaries and Strategies of Renewal in …: Victoria Pâtea‏، Paul Scott Derrick, 2007, p. 141)

2-Ibid, p. 138

3- Hakutani, Y., Modernity in East-West Literary Criticism: New Readings. London: Fairleigh Dickinson University Press, 2001, p. 68

4- Selland, E. (The Modernist Tradition in Japan: Some Introductory Comments. (C. Review, Ed.) Chicago Review , 1993, pp. 196-  202

5- Hakutani, Y,  2009, p. 7

6- Ibid, the same page.

7- Shiro Tusjimura, original artwork by Matsu Basho, (Basho, The Complete Haiku), Tr. By Jane Reichhold, KODANSHA INTERNATIONAL, Tokyo • New York • London, 2008, 138.

8- Hakutani,  2001, p. 89.

9- Morgan, T. L. (2011). Inverting the Haiku Moment: Alienation, Objectification, and Mobility in Richard Wright’ s ‘Haiku: This Other World’ in the Other World of Richard Wright” , Perspectives on His Haiku. Jackson university of mississippi: Jianqing Zheng, 2011, p. 92،

10- Bowers, F. (2012). The Classic Tradition of Haiku: An Anthology. Mineola, NY: Dover Publications, 2012, p. 19

11- Jones, 2001, p. 120

 

ناقد من مصر

عن madarate

شاهد أيضاً

في مقاربة الهايكو من ثرثرة القراءة إلى تكثيف المقاربة ) محمد بنفارس

في مقاربة الهايكو من ثرثرة القراءة إلى تكثيف المقاربة محمد بنفارس* 1/ في التقديم:  في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *