الفيلم القصير بالمغرب : إكراهات وتحديات.
الحسين أيت مبارك.
السينما واشتراطات اللحظة الراهنة.
تعد الآداب والفنون مرايا الثقافة والمجتمع، لذلك ينبغي أن تتوافر فيها القدرة على تَحَمُّلِ هموم الناس والتبشير بأحلامهم[1]، وتستوفيَ نعوتَ تمثيلِ الهوية والشخصية الوطنية، وتُرافِقَ مُواطني الأمة التي تُنْتَجُ فيها في طباعهم وتتفق معهم في أمزجتهم، غير أن واقع صناعتنا السينمائية يعلن انحرافه عن هذه الشروط إلى الانكفاء على موضوعات مستهلكة ومكرورة، يفسرها خلو الساحة من اللمسة الاحترافية في كتابة السيناريو وفي الإخراج كما في المونتاج والإنتاج والإدارة الفنية وغيرها. وهذا ما يجعل المجال منذورا للضحالة إلا أن تتداركه العزائم المخلصة والجيوب العامرة، ويرتفع العاملون بالقطاع عن التماس السهولة، لأن الصناعة التي لا تُلْجِئُكَ إلى المشقة لا يعتد بها ولا بالنفاذ فيها، وأن تنخرط صناعتنا في أجواء التنافس الحاد وصراع الأفكار، وصراع المدارس والمرجعيات، لأن الصراع هو “براديغم القوة”، إذ لا يعزب عن فطنة الناس أن الحياة لا يمكن أن تنساق في مجرى واحد أو تجري على ثيمة منفردة، ذلك أن جل الأفلام لا تبرح ثيمة “العروبي”، مما يقذف بها في مواطئ الابتذال، وحتى إن عدلت عن هذه الثيمة تميل إلى تمثيل حالة عابرة أو موضة تتهددها القُلْعَةُ والارتحال.
تراهن القراءة الثقافية للفنون والآداب على اتصال هذه المجالات بملابسات الراهن وأسئلة اللحظة الحضارية، إذ أخذ الزمن في التسارع شيئا بعد شيء، حتى بلغ السرعة القصوى، مما يستلزم تبئير الظواهر وتفادي الحشو والاستطراد. لذلك لا غرابة أن نشهد انخراطا لافتا في لعبة الزمن القصير والمكثف، ونرى ميلاد أجناس قولية وبصرية تواكب المستجد وتلائم نمط التلقي الجديد وتستفز العقل والوجدان معا. بهذا التصور شهدنا ميلاد النص الشعري المكثف أو النص الومضة (الهايكو)، والنص القصصي القصير جدا، وتقلص حيز الأغنية الزمني بالمقارنة إلى الأغنية الكلاسيكية الطويلة، مثل أغاني أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ونجاة الصغيرة وفريد الأطرش واسمهان وغيرهم. وكذلك الشأن بالنسبة للسينما التي أبدعت أنماطا جديدة قصيرة وقصيرة جدا، بحيث من الأفلام ما لا يلبث إلا نُسَيْئَات يسيرة (لا تتجاوز أحيانا خمس دقائق)، لكنها بفائدة ومتعة عظيمتين.
بيد أن الفرق بين السينما وغيرها من المجالات الفنية والإبداعية الأخرى هو أن الفيلم القصير عتبة ضرورية وجسر مُلْزِمٌ للمخرج ليَعْبُرَ من الهواية إلى الاحتراف، ومن الاعتماد على الإمكانيات الذاتية إلى الاستفادة من الدعم التقني واللوجستيكي والمادي من قِبَلِ الجهات الوصية على القطاع.
فما بُدٌّ من الإقرار بأن المجد لن يكون دانيا إلا لمُلْتَمِسِهِ والحريص عليه ومن يكدح في حيازته، ولا مراء أن سوق السينما لن يقوم على ساقه إلا إذا ذللته سماحة اليد وتوافر المدد، ذلك أن بالمال يجتمع البال، فهو من الشروط اللازمة واللازبة للنجاح والاستمرارية. فبسبب من نقص الدعم نجد أن هذا المجال يعاني من إكراهات عدة وإرغامات يترتب عنها الآتي:
- عدم تعامل المخرج بجدية مع هذا النمط من الأفلام، إحساسًا منه بأنه في سياق عابر وفي مسار انتقالي لن يمكث فيه إلا بالقدر الزمني الذي يتيح له التحول إلى الأفلام الطويلة، فيتسرب الضعف، بسبب ذلك، إلى الصورتين البصرية والسمعية، ويطبع التسرع تقنيات المونتاج والكولاج والكادراج أو التأطير، وحركات الكاميرا والتقطيع وغيرها.
- غلبة الشعور بأن الحاجة والعوز قد ألجمت عالم الفن حتى لتبدو علامات النقص والضعف بارزة في صناعة المشاهد واصطفاء الفضاءات، وما يصاحبها من إضاءة وإكسسوارات وملابس وديكور وغيرها.
- تغليب الطابع التسجيلي على حساب شبه تغييب للتخييلي نظرا إلى التركيز المبالغ فيه على الثيمات المهيمنة التقليدية، والتي غالبا ما تكون مركز الجذب على المستوى التداولي، إن في الخطاب الإعلامي أو في النقاشات العمومية وما إليها، ويكون الهدف من ذلك هو الاستئثار بشرائح واسعة وفئات متنوعة من المشاهدين. والحال أنه يغيب العمق الإبداعي وعنصر الابتكار في صناعة الحلول، أو حتى في القدرة على استدماج التلقي باصطناع النهايات المفتوحة والمستفزة لعقل المشاهد بغية إشراكه، ليس فقط في الانفعال بل في الفعل أيضا. وربما أن هذا هو الهدف الأكبر الثاوي خلف الصناعة السينمائية برمتها. فلا جرم من احترام عقول المشاهدين واستدراجهم إلى التفاعل مع العوالم المتخيلة وتشغيل عقيدة التأويل، برغم قصر المدة الزمنية التي يستغرقها الفيلم، فقد نجد في النهر ما لا نجده في البحر، وقد يثير فيك الفيلم القصير الناجح من المشاعر والانفعالات والتفاعلات ما يعجز عنه الفيلم الطويل، مع استهلاكهما للثيمة ذاتها وللإشكالات عينها؛ فمن الأفلام ما يطول حتى لا تظفر من طوله إلا بتعذيب حجمه وتذنيب نجمه كما يُقال.
السينما وسؤال الموارد.
لا شك أن ضعف الوسائل وشح الإمكانيات لن يفضي إلا إلى منتوج مطبوع بالفجاجة والإسفاف، إن على مستوى الفكرة أو الشكل أو هما معا، فلا يمكن لِمَن كَرَثَتْهُ الضآلة إلا أن يكرس الضحالة. ونعلم أن الصناعة الفيلمية لا تتأسس على الفكرة وحدها وإنما تتضافر فيها جملة من المكونات لتوليف كيمياء متمازجة ومتناسجة، منها الصورة والفضاء والإضاءة والموسيقى والملابس، ومجمل ما يدخل في ما نسميه بإدارة الممثل من حركته في الفضاء ونمط الحوار واقتداره على تمثل الحالات النفسية والشعورية والجسدية التي تتعاور الشخصية، وتمثيل الحالة الإنسانية المراد تبليغها، مع تضمينها قيمة جمالية مضافة تستجيب للعناصر الدرامية والسردية وغيرها.
في ضوء هذه الهالة نتساءل: إلى متى سيظل الفيلم القصير مجرد جسر للعبور؟ وإلى متى سيظل هذا النمط رهين الاختبار المحكوم بثنائية النجاح والإخفاق؟ علما بأنه يستلزم منح كلِّ مرحلة من مراحل صناعة الفيلم حقها ومُستحقها بدءاً بكتابة السيناريو، “ثم تحويل هذا السيناريو اللغوي المكتوب إلى سيناريو بصري مرسوم، أي تحويل القصة اللفظية إلى مشاهد ولقطات مرسومة على الورق في عملية تسمى الديكوباج، فيما يُحدد رقمُ تصوير اللقطة، ومكانُها، وحجمُها، ومدتها، ووصفها، ووقتُ تصويرها، والديكور المصاحب لها، والعدسة المستخدمة في تصويرها، وما شابه ذلك من خصائص توضع في صفحات تصمم من خلال نماذج توضيحية خاصة تستخدم من أجل هذا الأمر.”[2]
بعد ذلك تأتي مرحلة التصوير الفعلي، تعقبها مرحلة المونتاج[3] وهي لحظة بناء المعنى الحقيقي للعمل وبناء جماليته وإيقاعه بترتيب اللقطات وتنسيقها وحذف الزائد منها وغير المفيد، لتأتي البداية مبهرة وجذابة ومُؤَطِّرة، ويكون ما بعدها متماسكا سرديا ومشهديا ودلاليا، وصولاً إلى نهاية مؤثرة ومقنعة وقادرة على بصم أثر غائر في نفسية المتلقي، مع الاشتغال، في ثنايا كل ذلك، بالتكثيف والإيحاء وكل ما يتصل ببلاغة الخطاب السينمائي من إجاعة للمشاهد وإشباع للتخييل والدلالة، إذا استبحنا لأنفسنا استعارة تعريف من تعاريف البلاغة ومؤداه “إجاعة اللفظ وإشباع المعنى”.[4]
وبيان ما سلف هو ضرورة إشباع الصورة للعبور مما تسميه “مارتن جولي” بالمستوى التعييني الذي يكتفي بالوصف المجرد والمعنى النمطي الجاهز، إلى المستوى التضميني، وهو المستوى الذي يخاطب ذكاء المتلقي ويستدرج طاقاته الكامنة ومجموع مداركه وخبْراته الثقافية؛ بمعنى أن التمثيلات البصرية تستثير عدداً من التمثلات الذهنية، التي تقودك حتما إلى الكشف عما يسميه أمبرطو إيكو بالبنية الغائبة “La structure absente”.
تركيب استشرافي.
لتحقيق الانزياح عن النمطية ينبغي الأخذ بجمهرة من الأسباب، نذكر منها:
- ضرورة التفريق بين ذوق الجمهور العام وذوق النخبة، ذلك أن كثيرا من الأفلام تذيب المتعة في ماءٍ عَكِرٍ من الرمز والغموض بغية إرضاء أذواق أعضاء اللجان، ولا نرتاب في أن الاستجابة للمعايير الثقافية والنقدية العليا على حساب ذوق الجمهور وآفاق توقعهم جرثومةٌ مُبيرة للمجال، ما يدرأنا إلى الاستفهام بعمق وصدق معا : ما الغاية من الصناعة السينمائية؟ أن تكثف من العوالم الرمزية وتنتج الغموض؟ أم أن ترضي نخبة محدودة وفئة معدودة من النقاد رجاء نيل الجوائز والأوسكارات؟ أم أن الأمر يتجاوز ذلك إلى حيازة الانتشار والتداول واكتساح الشبابيك؟
لا يحتاج الجواب ـ في تصوري ـ إلى التفكير مليا، فالسينما صناعة واستثمار يتجاذبها القطب الفني والقطب الاقتصادي. بهذا نكون بإزاء معادلة اقتصادية ربحية يتم فيها ترجيح كفة الاستيلاء على ذائقة الجماهير على استيفاء شروط النخبة أو اللجان النقدية.
- تأسيسا على الشرط الأول ينبغي أن تداعب المشاهد الأحلام الرخية التي تختال في خيالات الناس، وتنهج لهم طرقَ الكمال ومسالكَهُ، بالنظر إلى أن السينما توظف لغة الحلم كما يقول فيليني.
- تنمية الوعي بدور السينما النفسي والتنفيسي، إذ تُسَرِّي عن الناس همومهم في أقسى اللحظات وأعنف الأزمات، فضلا عن دورها الدعائي بوصفها واجهة إعلامية حقيقية، تملك زمام الجمهور أكثر مما يفعل الإعلام، ولا أدل على ذلك من أن حركات الممثلين وطريقة كلامهم والموضة التي يظهرون بها في اللباس وقصات الشعر وغيرها تُشكل أنموذجا للاحتذاء والمحاكاة من قبل معظم الناس، أضف إلى هذا أن الصور الراسخة في أذهان الناس عن أمريكا أو مصر أو الهند مثلا هي التي رسختها السينما وليس الإعلام.
- المزاوجة بين المحتوى التخييلي والبعد التسجيلي، شرط أن يبقى البعد التسجيلي صامتا، ولكنه ناطق في صمته، وذلك باغتنام التنوع الإثني والثقافي والتاريخي والجغرافي الذي يميز المغرب. فهذا البلد لوحة يؤثثها الجبل والسهل والصحراء والبحر، ويتعايش في كنفه العرب والأمازيغ ولكل منهما عادات وتقاليد في منتهى الغنى والثراء، وتعاقبت عليه دول وثقافات وحضارات لا مشاحَّةَ في آثارها وتضافرها في تشكيل الذهنية المغربية.
- نؤمل، بالنتيجة، الظفر بصناعة سينمائية مُوَاطِنة، تناضل عن الهوية والانتماء، وتجاهد لتلميع الأنطولوجية المغربية.
- إبراز العراقة الحضارية للمغرب عبر ممارسة الحفر التاريخي والأنثروبولوجي في تراث هذا البلد المادي واللامادي على السواء.
- التخفيف من القضايا التقليدية التي استهلكت الجهود، ولم تعد تتيح مساحات كافية للابتكار والتجديد، ومحاولة النبش في الهامشي والمنسي والمهمل.
على سبيل الختم.
إن معضلة المجال السينمائي في بلادنا أنه تُرِكَ يسبح وحيدا في أودية غير محروسة، دون توجيه ولا تأطير ولا دعم مادي أو معنوي.
وأنا أرى أنه إن أردنا أن نرأب إلى المراتب السنية وأن نستوي في الآفاق التنافسية، أن نهتم، علاوة على ما سبق، بمنظومة الرصد الموازية والمحايثة لهذه الصناعة؛ و وِزان هذا أن النقد لم يمسَّ السينما إلا مَسَّ المترفق الذي لا يستغور المكامن، دع عنكم الحديث عن خصاص رهيب في الأقلام الناقدة التي تعوزها المأسسة. فما دمنا بصدد صناعة حقيقية (ندرك جيدا مدى تأثيرها في اقتصادات كثير من البلدان ذكرنا بعضها اكتفاءً لا استيفاءً كأمريكا ومصر والهند)، فينبغي أن تتوافر لدينا المؤسسات ذات الطابع الأكاديمي لتخريج نقاد يستخذي لنظراتهم ورؤاهم كبارُ المخرجين والمؤلفين وكلُّ المتدخلين في القطاع، إن على الصعيد التقني أو على صعيد المضمون، بما أن الإنتاجات لا تنفك عن روح الاجتماع الذي يحتفها والثقافة التي نشأت فيها حتى تُخرج للعالم نسخا جديرة بأن تكون شِكْلاً لنا ولهويتنا.
ينبغي أيضا أن نقنن المجال ونحدد المعايير الدقيقة للدعم، لتفادي روح المحاباة أو التنافس في أسباب الزلفى إلى أصحاب القرار. وينبغي للدعم أن يكون على مقاس الجودة، وسخاء ذلك من سخاء هذا.
وفي الختام، فإننا ندعو المسؤولين ـ من هذا المنبر ـ أن يجعلوا بعيونهم هذه الصناعة وأَهْلَهَا، ولاسيما من أصحاب الأفلام القصيرة الذين يغالبون الخفوت والموت ويصارعون من أجل البقاء، وذلك تثمينا للنقلة البارزة في تاريخنا السينمائي.
ومع أننا حاولنا ـ بما وسعنا من جهد ـ أن نلامس جوانب النقص ومواطن الضعف من أجل تحريك البرك الراكدة، فإن ذلك لا يمنع من إظهار الوجه الوسيم بالقول إن السينما في بلادنا ماضية تُغِذُّ السَّيْرَ لتلحق بالركب، نرجو الله تعالى أن يبارك الخطى ويُنجح المساعي.
هوامش الموضوع:
[1] – هناك قولة لفيليني تفيد أن السينما تستخدم لغة الحلم.
[2] – عصر الصورة، السلبيات والإيجابيات ـ د. شاكر عبد الحميد ـ سلسلة عالم المعرفة ـ العدد 311 ـ يناير 2005 ـ (يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت) ـ ص 266.
[3] – يتفاعل السردي مع البصري في المونتاج، ويتم التوليف التركيبي بين البعد الزماني والبعد الفضائي، و”تتميز تجربة (المونتاج) بكونها تعد مرورا من تصميم Plan إلى آخر، وهذا المرور يجب أن يكون مبررا أي (مستساغا وضروريا)، ولا يتحقق ذلك إلا من خلال عناصر حكائية مثل : جملة حوارية، نظرة تصرف geste، تحرك (شخصية) أي الانتقال من مكان إلى آخر، وهذا يدل أن الحكي يوجه المونتاج، وأن التحبيك الحكائي عامة للمونتاج يدل ضمنيا على نشوة سردية…”. الرواية العربية الجديدة من السرد المكتوب إلى السرد المؤفلم، قراءة في كتابات الدكتور حسن لشكر النقدية ـ عبد الرحيم أخ العرب، ضمن كتاب “النقد المغربي وسؤال التلقي ـ إشراف وإعداد: د. خالد قدروز ـ دار الثقافة للنشر والتوزيع ـ الدار البيضاء ـ المغرب ـ ط 1 ـ 2024م ـ (مطبعة صناعة الكتاب ـ الدار البيضاء) ـ ص 277.
[4] – هذا التعريف أورده ابن رشيق القيرواني في كتابه “العمدة”.
ناقد من المغرب
كلية اللغة العربية ـ جامعة القاضي عياض ـ مراكش.