قراءة في ديوان ( عْصَرْتَكْ دَمْعَة ) للشاعر حسن العلوي
عبدالعزيز جنان*
– بعيدا عن صقيع النظريات
– قريبا من رائحة الطين الحاضنة
– محاولة لملامسة بوح الشاعر حسن العلوي
و النبش في المسكوت عنه .
* العنوان :
يشد عن الملاحَظ في كثير من الإصدارات الشعرية . هو ليس عنوانا لقصيدة معينة ، و إنما هو المحور والمرتكز الذي يؤطر اتجاه أغلب نصوص المجموعة .
( عْصَرْتَكْ ) : ( عْصِيرْ ) قد يكون ذاك الألم الشديد الذي يعصر أعضاء الإنسان و منها المعدة أو القلب . و قد يكون عملية تأتي بعد عرْك ( التصبين ) بكل مراحله . فيُعصر الشيء ليزول ما علق به من أوساخ و يعود إلى نقائه . و قد يأخذ اللفظ ( عْصَرْتَكْ) دلالة أخرى . و هو مزج الأشياء و خصوصا الفواكه و طحنها مجتمعة ليخرج منه خلاصة العصير اللذيذ و المنعش . لكن حال المعصور هنا ينم عن مسار معاكس . العصير ، لذة . و نتاج عصير الشاعر : دمعة . و الدمعة الناتجة عن ( عْصَرْتَكْ ) لن تكون سوى ألما قاهرا ،عكس دمعة الفرح فهي تأتي تلقائية بلا ألم أو وجع .
* صورة الغلاف :
لوحة هي وحدها تحتاج لوقفة طويلة و عميقة لفك أبعادها و دلالات الفضاء و الامتدادات الظاهرة أو المتوارية …
نعم هي حاولَتْ تقريب معنى العنوان بشكل أكثر تحديدا ، كما عمِلتْ على استفزاز المتلقي في أن يفسر و يحلل كلا من العنوان في اتجاه اللوحة أو العكس .
الوجه أو جانب من الوجه ، هو لأنثى . أما الدمع فمجراه أو مصدره ليس عين الأنثى ، و إن ظهرت على أسفل جفن الأعلى قطرات لم تسقط بعد . تدفّقُ الدمع دما ، آتٍ من الآخر المتخفّي اختيارا أو قسرا ، و المتمثل في المُخاطِب بالعنوان ( أنا ) في اتجاه المخاطَبة / الجانب الظاهر من الوجه . و الملاحظ في دفقة الدمعة المعصورة دما ، أنها سَقَت و أنبتت خضرة و ألوانا بنفسجية . و الخضرة رمز الحياة أما اللون البنفسجي فعنوان النور المضيء .
هو تجدد الحياة و استمراريتها ، رغم كل عصارة الدمع / الألم .
الدمع الذي بُدل في سبيل ذلك ، هل هو نتاج العصير المتمثل في النبت الأخضر ؟؟؟
و هذه الدمعة المنسكبة دما من الهُـوَ لتتحول رُواء يحضن الخضرة و يغذيها ، هل فِعل يدل على فرضية تجدّد الحياة بشرايين الآتي ؟؟؟
* الصورة : بقدر وضوح معالمها ، فهي مُراوِغة . هي وحدها تحتاج إلى أكثر من وقفة و قراءة لتفكيك رسائلها من خلال قراءة كل التفاصيل الجزئية المُشكلة للمشهد العام . مع رصد المُنطلَق و المنتهى ، إضافة إلى رمزية الألوان و تحولها من الأحمر القاني إلى البنفسجي ثم الاخضرار فالبياض المشع …
الدعوة هنا موجهة للمتلقي للاشتراك في الإجابة على التساؤلات المطروحة و ربطها بمسارات القصائد مادام العنوان هو للمجموعة الشعرية برُمّتها و ليس لقصيدة محددة بذاتها .
* القصائد :
+ المتن اللغوي :
و المقصود به اللغة التي عبّر بها الشاعر عن دواخله .
و هنا لا بد من وقفة ضرورية . و هو رفض و محاولة تصحيح لتصَوُّر الأقلام الإبداعية سواء في الشعر أو النقد .
إذ يقيّمون القصائد خصوصا الزجلية قربها أو بعدها عن لهجة ما يصطلح عليه بالمغرب النافع . أما لهجات المغرب غير النافع فيعتبرونها أنها لم ترقَ بعد إلى لهجة النخبة بالمغرب النافع . و هذا إقصاء مرفوض ، مرفوض ، مرفوض …
إضافة أن نظرة الكثيرين الضيقة ، تقتصر على اللهجة العربية أوالمنحدرة و المتفرعة عن اللغة العربية المعيارية من جهة . و المتأمل في هذه اللهجات ، و رغم أن جذرها واحد ، فهي تتعدد حسب الجهات و المناطق . إذ لهجة الشاوية ليست نفسها في الحوز ، و لا إقليم وجدة ، و لا هي المتداولة في إقليم طنجة . و لهجة إقليم آسفي – و هي من اللهجات الأكثر احتضانا للغة العربية – ، ليست هي لهجة إقليم بني ملال أو منطقة الغرب و سهل سايس . و هذا لا يعني أن هذه اللهجات أقل مستوى وأقل بلاغة و غنى من لهجة المغرب النافع ( محور الدار البيضاء / القنيطرة ) . و علينا أن نعي الخصوصيات ، و نصحح وهم و أوهام التفوق الزائف و الذي يشترك فيه مبدعون و نقاد و حتى جمهور المتلقين .
و المعجم اللغوي للشاعر حسن العلوي لا ينفصل عن التربة التي أنبتته مع تأثير بسيط للمناطق التي مرّ بها مثل الشاوية و إقليم آسفي ، دون إغفال المشترك بين كل اللهجات العربية المتنوعة على امتداد الوطن .
+ المعجم :
معجم لغوي سلس يتناغم مع الإلقاء و لا ينفصل عنه و هي خاصية نجدها عند كثير من الشعراء في المشهد الشعري . فالإلقاء يعطي للمعجم اللغوي أقصى مدى في التعبير عن كُنه المضمون . وعلى سبيل المثال لا الحصر– و أعتذر لمن لم أذكر أسماءهم – إدريس بلعطار ، مليكة فتح الإسلام ، فتيحة المير ، محمد عزيز بنسعد ، فاطمة المعيزي ،بوعزة الصنعاوي ، مصطفى دكي و آخرون . فهؤلاء الشعراء و أمثالهم الإلقاء يعطي للمعجم اللغوي إضافة كبيرة و يقرب المتلقي من استيعاب المعجم اللغوي .
مراكش . المدينة التي تعج بالحركة و بالوافدين شكلت المعجم اللغوي للشاعر . إضافة إلى الرمزية المضمرة في استعمال هذا المعجم و هو ما سنتطرق إليه من خلال نماذج من القصائد .
* الموضوعات :
بقدر ما تشترك في نفس الهم الذي يؤرق الشاعر و المتمثل في الخيبة الآنية ، و الأمل المرتجى في الآتي فإن القصائد تحتفظ كل واحدة بخصوصيتها و عالمها الذي تريد تقديمه للمتلقي .
فالخيط الناظم للنصوص يحمل عنوان ((( خيبة جيل ))) هذه الخيبة تحولت إلى غصة ملازمة لهذا الجيل الذي خرج من رحم ما بعد الاستقلال . و هي حالة يشترك فيها كثير من المبدعين من جيل أواخر الخمسينات و الستينيات من القرن الماضي . جيل تشبّع بأفكار الحركة الوطنية في كثير من توجهاتها لكنه اصطدم بواقع آخر حطّم الأحلام الوردية لهذا الجيل . سواء بالصراعات الجانبية أو بالخذلان أو بالتغيير الجذري لما كان يسمى باليسار الخارج من رحم الحركة الوطنية و المتمثلة في مشاهد الإنشطار أو التخلي عن الشعارات التي كان يحملها و يدعو إليها .
هي الخيبة المُرّة و الإنتكاسة التي أصابت هذا الجيل بالدُّوار
فتحول إلى جيل تائه مشتت بين الفكرة و الحسرة .
* النصوص :
هي وثائق إبداعية تعبر عن مرحلة مفصلية من تاريخ الوطن الحديث . و هذا هو الخيط الرابط بينها جميعا .
نعم ، هذا هو الخيط الناظم بين مبدعي جيل ما بعد الاستقلال و الذي يمكن رسمه بمثلث مقلوب :
– قاعدته الأساسية ← الاستقلال : الحلم الذي بدا أنه تحقق .
– الضلع الأيمن ←الزعماء + النكوص و التشردم .
– الضلع الأيسر ← الجماهير + الانتكاسة و اكتشاف الخدعة.
لكن هذه النصوص – في الآن ذاته – و رغم نظمها في نفس الخيط ، فإنها تحتفظ لنفسها بالخصوصية . إنها مثل مكونات العقد العربي .يضمه خيط واحد متين و قوي ، لكن منظوماته تختلف بين الفضة ( اللجين ) ، الذهب ( العسجد ) ، الزمرد ، الزبرجد ، الياقوت ، اليتيمة ، الواسطة …
فكل قصيدة لها تميّزها سواء على مستوى المعجم اللغوي المستعمل أو على مستوى تفاصيل الهمّ المُعتصر ، أو على مستوى شكل الكتابة الزجلية التي حاولت في معظمها أن تنتظم في ميزان ( لَمْبَيَّتْ ) ب ( مْرَمَّاتِهِ ) المتعددة . و عليه ، فمن الخطأ الفادح أن نجمع القصائد كلها في سلة واحدة أو نُلبسها نفس الثوب ثم ندّعي أنها قراءة نقدية للمجموعة الشعرية . فكل قصيدة من هذه المجموعة تحتاج إلى وقفة خاصة بها .
هناك قصائد تعتمد السرد القصصي مثل : ( زْهَرْ بْلاَدِي ، شَمْسْ الزّْهَرْ ، خَرْبوشَة ، … ) و قصائد أخرى ، و منها ما اعتمد المثن الملحوني مثل : ( طِيرْ لَجْرَاحْ ، مَرْكَبْ الْمَحْنَة ، عْزِيبْ الزٌْمَانْ … ) و غيرها ، لكن بشكل مغاير يناسب العصر و الشخوص و المتمثل في قصيدة ( آحْ عْلِيكْ ) ، و منها من اعتمد فن الحلقة المراكشية الصِّرفة كما هو في قصيدة حْكَاية حُرَّة ، و قصيدة السَّرّْ فَ السَّاكَنْ ، و قصيدة زِيدْ عْلَ بَلْعِيدْ . و منها من يسلك سبيل الدراويش و المَوْلَويّة بصيغتها المغربية كما نجده في قصيدة كْلَامْ الْحَقّْ ، و قصيدة هاشْ بْغِيتْ و قصيدة الشَّكْوى لْمُولْ الدَّعْوَة .
هذا التنوع بقدر ما يمنح للمجموعة الشعرية خصوبة في الطرح ، فهو يفرض تعاملا خاصا مع كل قصيدة على حدة رغم الوحدة التي تؤطر كل النصوص و التي أسميها خيبة جيل ، و سمّاها الشاعر ( عْصَرْتَكْ دَمْعَة ) . فليس كل أبناء عبد الواحد ، واحد .
* الإمتداد الزمني للقصائد أو بين المُعلن و المُضمر :
أي تعبير كيفما كانت أداته ، فيه المعلن المصرح به و الذي يسمح فيه المرسِل بالكشف عنه ، و في نفس الآن هناك المُضمر المسكوت عنه وهو الذي يبقى من حق المرسَل إليه . هذا الأخير مُطالَب بالعمل على اكتشافه و من تــمّ على كشفِه . و عليه ، لا يمكن لنص معين أن ينوب عن قصائد المجموعة الشعرية . فكل قصيدة لها عالمها المكشوف ، و عوالمها المستترة …
نعم ، هناك المشترك . لكن الخاص أو خاصية كل نص ، يفرض نفسه . و على المتلقي أن يعمل على ملامسة و مشاركة الشاعر سواء في المعلَن أو المضمَر :
– ( عْصَرْتَكْ دَمْعَة ) ، و هو أول المشترك بين النصوص . الدمع لا يكون إلا ألما ، حزنا ، خيبة ، انكسارا … و قد يأتي فرحة عندما تكون الأخيرة فوق توقّع و تحمّل الفرد . لكن تعبير (عْصَرْتَكْ ) يحيل إلى الشق الأول ، و ينأى بالدلالة عن الفرحة . لأن دمعة أو دموع الفرحة تأتي عفوية فُجائية أما غيرها ففيه معاناة و مخاض ثم بعدها ، وجع الطّلق و آلام الانطلاق من المحاجر …
إذن فدلالة عنوان المجموعة الشعرية أول قاسم مشترك بين النصوص .
– توثيق الإمتداد الزمني للنصوص :
كثير من المبدعين يتركون قصائدهم بلا تواريخ باستثناء تاريخ طبع الإصدار الذي يحدد سقف آخر تاريخ ممكن للكتابة ، أما متى كانت ولادة القصائد ، فيبقى مرتدا في الماضي و مطلقا فيه . هنا ، الشاعر وثّق زمن قصائده . و هذا مهم . قد تكون العملية الإبداعية تداعيات و ارتدادات أحداث سابقة لتاريخ الكتابة ، و لكن تأريخ كتابة النصوص يساعد في حصر الزمن و علاقته بالثابت و المتحول في اللحظة ، لذا نصوص المجموعة محصورة زمنيا في الفترة ما بين سنتي 2011 و 2019 . بستة عشرة نصا . ثم هناك أربعة نصوص متفرقة . نص في 2000 ، وثلاثة نصوص في 2006 ، إضافة إلى نص بلا تاريخ . بمعنى أن مجمل النصوص محصورة في العقدين الأول و الثاني من القرن الواحد و العشرين . فما هي خصوصية الزمن هنا و دلالاته ؟؟؟
يمكن توضيح ذلك من خلال الآتي :
1 / بدايات هذا القرن بدأت إرهاصات التحول – و إن كان صامتا – على مستوى كثير من الدول العربية.
2000/ 2006 .
أربعة نصوص و هي : الشكوة لْمُولْ الدّعْوَة / آحّْ عْلِيكْ / كْلامْ الْحَقّ / الدّْجاجَة التَّراسَة .
2 / تمظهرات و تحولات ما سمي بالربيع العربي :
2011 / نص واحد : نَخْوَةْ حَرْفْ .
2013 . 2014 . 2015 . خمسة نصوص.
مَرْكَبْ الْمَحْنَة / شَمْسْ الزّْهَرْ / شَجْرَةْ لَمْرَارْ / حْكَايَة حُرَّة/ السَّرّْ فَ السَّاكَنْ .
3 / مرحلة الردة و انكسار أحلام ما سمي بالربيع العربي .
2016 / 2020 .
تسعة نصوص : خَرْبُوشَة / وَا يَا سَعْدِي / هَاشْ بْغِيتْ / عْزِيبْ الزّْمَانْ / مَا فِيكْ أَمانْ / زِيدْ عْلَى بَلْعِيدْ / امْوَاجْ الْعَامْ / زْهَرْ بْلَادِي / تَغْرَّازْ لَحْرُوفْ .
هذا العملية الإحصائية تبين لنا تأريخ النصوص و علاقته بالأحداث التي عرفها . ذلك أن الشاعر و المنتمي لجيل له معالمه الخاصة ، لا يمكن أن تمر به مرور الكرام ، كما لا يمكن أن تستدعي فترات زمنية سابقة مشابهة مر بها الشاعر . و للقارئ مجال للمشاركة في رصد العلائق التي تجمع بين النصوص و تأريخها و التحولات المصاحبة لها محليا و إقليميا على الخصوص .
هذه الأحداث أثرت على إبداع الشاعر . بدءا من استعادة الحلم الممكن وصولا إلى الانتكاسة من جديد . هذه المرحلة الزمنية من القد الثاني للقرن الواحد و العشرين تبدو آثارها واضحة على كل قصائد الشاعر . و تعتبر وثائق مهمة للقادمين .
* الحقل الدلالي :
حقل يقدم لنا مؤشرات منحى النصوص . فإذا أخذنا النص الأول من المجموعة الشعرية كنموذج ينطبق على باقي النصوص بتفاوتات ضئيلة يمكننا من ملامسة خاصية النص على مستوى ضغط الموضوع على الشاعر ليختار له من الألفاظ ما يعبر عنه . مع الإشارة إلى أن هذا النص هو واحد من ستة عشرة قصيدة تشترك في نفس سياق الحقل الدلالي الذي عنونته بخيبة جيل من أصل واحد و عشرين قصيدة .
– الألفاظ الدالة على الإيجابي ستة ألفاظ :
زّْهَرْ – جْنانْ – يَحْيٍي –نَسْقِيهْ –تْرَجّانِي – عْزيزْ .
– الألفاظ الدالة على السلبي سبعة و عشرون لفظا :
هَايَمْ – امْفَافِي –نْبَرّي – بْهَاتْ – بْهَاتْ –حافِي – يَأْسْ – نَشْكِي – نْعانِي – هَمِّي – آهْ – التَّنْهِيدْ – نَبْكِيهْ – ضَرُّو – يْعَانِي – ڭيدْ – جَغْدِيدْ – الهَمّْ -شاعَلْ – مَرْبُوطْ – بْهَاتْ – حَافِي – نَشْكِي – نَكْدُو – تَنْكِيدْ – شْرِيدْ .
و هذا مؤشر على التوجّه الغالب في باقي النصوص الستة عشرة ، و التي تصور مختلف مظاهر الخيبة لدى هذا الجيل ، رغم كونه جيل معاند . يقاوم الإحباط بشراشة و دون استسلام للهزيمة . و رغم كل المطبّات و العثرات يصرّ على المحاولة من جديد . و كأني به قصة النملة مع الإسكندر الأكبر .
فالشاعر يختم القصيدة الأولى من المجموعة الشعرية ب :
“” ڭُلْتْ لُو زَهْرِي وَخَّا انْتَ شْرِيدْ
فْ وَسْـطْ تْرَابَـكْ مَـرْبُـوطْ بْ ڭِـيـدْ
رَا انْـتَ عَنْدِي عْـزِيـزْ مَـقْـدَارُو
فِيكْ احْلَامِي تُوبْهَا وَافِي
بِهَا نْڭَمَّطْ ضَوّْ مِيمُونِي
مَا نْعَزّْ عْلِيكْ فَنّْ قْوَافِي
وْ حَتَّى عُمْرِي هْدِيَّة مَنِّي
تْعَالَى زَهْرِي نْغَرْسَكْ مْنَ جْدِيدْ
ڭَلْبِي تْرَابَكْ تَكْبَرْ وَ تْزِيدْ
حِيتْ بْلَادِي تْرَابْهَا نَفْرُو “””
هكذا يخاطب الشاعر ( زَهْرُو ) في نوع من تحدي كل مظاهر النكوص و الأمل في عودة الأمل رغما عن كل شيء . و في القصيدة الثانية من المجموعة الشعرية ، يستمر نفس المشهد و إن بطريقة مغايرة . و هنا لن أعتمد على إحصاء ألفاظ الحقل الدلالي ، و إنما سأركز على الصورة ، و على عناصر تركيبها ، و كيف يقحم الشاعر المتلقي في مسار القصيدة من خلال التّصوّر أولا ، ثم استحضار المشهد العام . و بالتالي معايشة كل التفاصيل .
نفس الحديث عن ( الزّْهَرْ ) و اللفظ له دلالته العامة في التعبير العامي ، لكنه هنا يُروّضه فينتقل به من دلالة ( الحظ ) إلى دلالة ( الزّهرْ ) جمع كلمة زهرة .
و دلالة ( الزّهرة ) و ( الزّهرْ ) هنا تتجاوز الحظ لتدل على ما تصنعه أيدينا معتمدة على تصورنا و قدرتنا .
فكيف تعاملنا – نحن – مع ( الزهر ) ؟ و كيف تعهّدناه ؟
يقول الشاعر :
تْزَادْ الزّْهَرْ
مَا ݣَمَّطْنَاهْ
مَا بَخَّرْناهْ
مَا سَمِّينَاهْ
مَنْ حْلِيبْ لَغْيَالْ
رَضَّعْنَاهْ
سَكَّتْنَاهْ
بْكَمُّوسْتْ الطّاعَة
سَكَّتْنَاهْ
بْدَا يَحْبَا
مَا مَشِّينَاهْ
بْدَا يَكْبَرْ
مَا عَوْنَّاهْ
طَاحْ وُ نَاضْ
مَا خَلِّينَاهْ
بْدَا يَهْضَرْ
مَا عَلَّمْنَاهْ
فَـكّْ الْخَطّْ
مَا وَجَّهْنَاهْ
وَسْطْ الْحَمْلَة
حَطيِّنَاهْ
نْسِينَاهْ
وُ خَلِّينَاهْ
كل ما كان يجب القيام به لم نفعله و لم نكلّف أنفسنا متابعته و العناية به مرحلة بمرحلة .
فماذا كانت النتيجة ؟ :
اصْبَحْ قَشَّـة
تْلُوحْهَا لَرْيَاحْ
وَلَّى خُـبــْزَة
فْ كَفّْ الْمَطْرَاحْ
تْـڭَـلَّـبْ فِيـــهْ
وَ لَا يَرْتَاحْ
حَـلَّـقْ وْ طَــارْ
خَانُو لَجْنَاحْ
فِ دَهْلِيزْ الْهَمّْ
زْلَقْ وُ طَاحْ
مَا شَافْ اسْعَادْ
مَا شَمّْ افْرَاحْ
مَا شَافْ نْجَــاحْ
خِيبَة وَ طْلَاحْ
عَـاشْ بْْعَلَّــة
يَبْكِي بَنْوَاحْ
عَطْرُو مَا فَاحْ
دْبَـلْ وَ هْـبَا
عَطْرُو مَا فَاحْ
نتيجة سلبية تلك التي خرج بها الحلم المأمول ، و الأمل المشتهى . إنها ذروة الإنكسار لدى هذا الجيل و من تلاه .
فهل توقف الشاعر عند هذه النقطة ؟
خطاب بسيط في لغته ، في تركيبه ، لكنه عميق في دلالته . يستطيع المتلقي تخيّل الصور الشعرية البسيطة في تركيبة زواياها لكنه حتما سيستمتع بعملية الإستحضار هذه . و هي طريقة ذكية من الشاعر . إذ يقحم المتلقي في إعادة تشكيل الصورة بطريقته الخاصة و بأدواته الممكنة .
هذا التّفرّد المتميز للشاعر حسن العلوي في المقطع من القصيدة نجده ينطبق على كل النصوص : البساطة في عمق المعنى . اليسر في تركيبة الصور الشعرية و العمق في الدلالة و الإشارة . و كما يجمع النقاد هو ذا السهل الممتنع . لكن أهم إيجابية فيه هو هذه القدرة على إشراك المتلقي في اقتحام القصيدة و المشاركة في بناء التصوّر العام لأبعادها و مؤثثاتها على مستويات عدة . فالمتلقي حين يبسط بين يديه هذا المنجز الشعري ، لا يبقى منفصلا عنه ، و إنما يجد نفسه و دون مجهود كبير قد يصبح فاعلا فيه . و هي عملية لا تخلو من ذكاء و قدرة إبداعية بعيدة عن التّكلف و الإسهاب المجاني .
أدعو المتلقي إلى احتضان هذا المنجز الشعري ، و السفر فيه و معه لاكتشاف تجربة شعرية لها خصوصيتها و مميزاتها و منطلقاتها
و في الختم أسجل أن هذه القراءة و الرحلة لم تستوف كل المأمول منها ، لأنها لم تقف عند كل الممكن التطرق إليه فما زال ما يمكن أن يُستخرج من الإنجاز الشعري الكثير . فالمجموعة الشعرية ( عْصَرْتَكْ دَمْعَة ) هي وثيقة تؤرخ للمرحلة بالمفهوم الخلدوني للتأريخ ، مع التركيز على الإنتماء للشعر في أجلّ خصوصياته .
إشارة أخيرة أكررها ؛ كثير من القراءات النقدية على مختلف مستوياتها لمجموعة شعرية غالبا ما تكون ظالمة . أو بأقل تقدير غير منصفة . لأن كل قصيدة فيها لها عالمها الخاص . و هذا ما ينطبق على هذه المجموعة الشعرية . و كما يقول المثل : ( ليس كل أولاد عبد الواحد ، واحد .)
و إلى اللقاء في معانقة القصائد كل واحدة على حدة .
ناقد من المغرب