الذات الشاعرة ومرموزات الطبيعة التعالق الوجودي
قراءة في المجموعة الشعرية (الشجرة التي أسقطتني كانت يدي) للشاعر المغربي محمد منير
نصير الشيخ
— يسعى الشاعر لبلوغ تخوم المعنى على وفق قدراته وبما يتيح له هذا السعي المتواصل. ولأنه ذات متفردة ــ أي الشاعرــ، فهو يرى الأشياء والموجودات والعلائق الإنسانية بمنظور مختلف وعين باصرةٍ. هذه الرؤى المتراكمة والتقاط الشذرات الحياتية؛ ومن ثم محاولة الإمساك باللحظات الشعرية الهاربة، كلها تنسرب طواعية في نهر اللغة وجروفها ومديات بلاغتها وتماوج صورها. منها يرسم الشاعر لوحته الكبرى ومجسداً قصيدة تحقق وجودها الفعلي في قاموس الكتابة ببعده الزمني والتاريخي.
والشاعر المغربي «محمد منير» في مجموعته الشعرية «الشجرة التي أسقطتني كانت يدي» والصادرة عن الرابطة العربية للفنون والإبداع / تونس 2020 / ط 1.
يأخذنا معه في رحلة البحث عن الذات، ومنذ تنصيصه الأول — الإهداء ـ « إليّ…إلى التي كلما حل الليل / فكت ضفيرتها، وغطتني/ كي لا يسرقني الصمت /واليهم جميعاً رفاقي في الحلم «ص 5. إذاً يحضر هنا مشهد إنساني، تتقاسمه امرأة تتغاوى بضفيرتها، ناثرة لمسة حنان تكثف وجودها في حياة الشاعر، وهناك الأصدقاء / الرفاق الذين يتقاسمون الوقت وحياة الشعر. أنهم حاضرون في تفاصيل الحياة المعيشة وقافزون أبديين في تهويمات الحلم.
تتقنع نصوص محمد منير لحظة مواجهتها العالم بأوشحةٍ من خيالاتٍ وأقنعة صورية تنهمك في حضورها المرئي تارة وتتخفى عبر سيل اللغة تاراتس آخر في لحظات صراعية مع الذات الشاعرة والمتفردة.
(الشجرة التي أسقطتني كانت يدي، في ليل عائم عرى وجهها للريح، امتطى وريقات ظلها، ونام في الخطيئة ..ها سقطت على خدي زيتونة شاخت في عينيها ثمرة قلبي، وكتبتني بالطين المبلل بزيت الاشتعال صدرَ قصيدةٍ لم ينته بعد..) ص 9.
ــ قراءة المناخ العام للمجموعة الشعرية « الشجرة التي أسقطتني كانت يدي» مشبعة بالطبيعة وعوالمها، وتعمل اللغة فيها جاهدة على الانزياح من مستوى الصوري إلى مستوى المجازي، وذلك عبر الحضور المتواتر لمفردات الطبيعة «الليل/ البحر/ القمر/الريح/ الموج/ الرمل ..إلخ «وهذا مؤكد لما نستشفهُ من شاعر ولد، ورأى البحر كثيرا ولمس رمال شواطئهِ، وتشبعت روحه بكل أنحاء الطبيعة، لذا نمسك في صوره الشعرية هذا التزواج ما بين الطبيعة وجلالها والمرأة وجمالها المحسوس في نظر الشاعر، وربما يصادفنا صعوبة الفصل أحياناً في استخلاص صورة شعرية من متن النصوص، هل هي تجسيد للمرأة وحضورها في الذات الشاعرة، أم أن الشاعر يرسم لنا مشهداً طبيعياً تتجلى فيه قدرة الخالق وشهوة الشعر…!!
(كم من الحرفِ يكفي لأخبئ في الصدر بياض أوراقي، وأمضي في اتجاه البوح، نورس هو الفؤاد يرمي بجناحيهِ على صخرة مخضبة بالأخضر المبللِ ببقايا الموج ونفايات مراكب صيد عابرةٍ للشط ؟) ص 44.
— الكشف عن المضمون في النص ومفهوم الشعرية، تدلنا إليه خطابات نقدية تفتح لنا بوابات للدخول إلى النص (فإذا ما أكدنا هنا حقيقة ثابتة، هي أن الشعراء المجددين جميعاً خرجوا من معطف الرومانسية، فإنهم وبالمقابل كانوا قد خرجوا على الرومانسية من دون أن ينكروها، باحثين عن حقائق جديدة تعزز مواقفهم الوجودية وعن رؤى جديدة تغني عطاءهم الشعري).*
— يجد الشاعر محمد منير طريقه وملاذه عبر فضاء الشعر؛ لأن ثمة ما يغريه على نحو دائم في ارتحاله الدائب، حيث اشتباك الرؤى لديه وهي تقرأ تفاصيل هذا العالم، وسؤالنا: إلى متى يظل الشاعر وحيداً، متفرداً في طرقاته، من هنا يحضر» الليل» مفردة تمد مساحاتها على أكثر من نصٍ شعري في هذه المجموعة، ليكون نص «الليل وحده يكفي» بؤرة هذه المفردة واشتقاقاتها، وتمركزاً للذات الشعرية في وحدتها، وهي تعاين الماحول، وتجد الأشياء تنفرط من بين أصابعها. ذلك أن الليل يفتح كوىً للرؤى، ويدلُ للبياض وهو تمركز» الأنا» عند صخرة الوقت والوجود.
(الليلُ…مدينة من دخان …اتساع لامرئي، فراغ كحلي، جنيات يسبحن في بياض الكف، ظلال أطفالي المتلاشية على أرصفة الموانئ…وعبرها الأودية ..مجرى الماء من عين الماء. اغتسال العذارى بماء الوجد…سلالم مهيأة لعناق نجمات العشق وارتقاء البوح) ص 57.
— تتوزع المجموعة الشعرية «الشجرة التي أسقطتني كانت يدي» على نصوص تباينت في معماريتها، ما بين نص طويل مشكلاً بوحاً عارماً للذات الشعرية في حضورها وغيابها واندماجها مع أيقونات الحب والطبيعة والحلم…!! وما بين نصوص اعتمدت الترقيم، أكتفت بالصورة الشعرية المكثفة، واحتوائها بؤرة دلالية موجهة للمتلقي، كما في النصوص «في محراب الليل / ليل عابر/منتصف الحلم/ لليل موائده/ في حضرة هذا المساء/ بدر….».
هذه المجموعة هي إضمامة شعرية كان البوح مساحتها ووضوح اللغة في تعبيرها، في سلسة صور مشهدية تعالقت مع الطبيعة برموزها وإشاراتها وعلاماتها، مرسخة تجربة مكثفة لعالم شعري يتمركز في بؤرة الذات الشاعرة .
ناقد من العراق