آوت إلى جذع النخلة في ربوة في قرار مكين أمام مدخل مستشفى بنو مرين، آلام المخاض جعلها تستغيث بالرب علّه يأخذ روحها بعدما فقدت الأمل في دخولها المستشفى المريني، نظرت إلى ثمار النخلة التي لم تنضج بعد كأنها تنتظرها لتتساقط عليها رطبا جنيا، ولكنها لم تفعل، اتكأت على جذع النخلة وشدت بيديها على بطنها وهي تنظر إليها بحزن شديد وتفكر في هذا المولود الجديد هل هو المنقذ؟ أم أنه ضحية أخرى من ضحايا هذا المجتمع؟
تمنت لو يتكلم معها، لو يكلم هؤلاء الذين يمرون من حولها ويظنون، بل ويقولون عنها الويلات، أخرجت من حقيبتها الصغيرة ورقة الانتظار وورقة «راميد» التي تكلفت عناء الحصول عليها وفي النهاية لم تُدخلها حتى مدخل المستشفى، رمت بهما بعيدا عنها وجلست تتأوه وتستغيث ولا من مجيب.
راحت تسترجع ذكريات الماضي، طفلة صغيرة بلا أم وأب تشتغل عند خالتها بمنزل قصي في حي شعبي من أحياء البيضاء، طفلة صغيرة تطل من شباك غرفتها الضيقة نحو مدرسة يعقوب المنصور، طفلة صغيرة تقتفي أثر خالتها في أزقة السوق الأسبوعي وهي تتصارع مع قفة التسوق، طفلة صغيرة تقصد كل سبت مكتبة المعرفة لشراء أوراق بيضاء والصباغة المائية وتأتي بها لابن خالتها بأمر من هاته الخالة المصونة، طفلة بريئة تجلس بين رجلي زوج خالتها في غرفتها الضيقة ولا تعلم ما ذاك الشيء ولا ما يفعل بها «سي الراضي».
راحت تسترجع كيف ألقي بها إلى الشارع بعدما اكتشفت الخالة أفعال بعلها (بغلها) المرضي، حينما وجدت نفسها محاصرة في الشارع من قبل مافيا البشر التي تديرها أيادي أرخبيلية لها أصبع في السياسة وأصبع في الاقتصاد وآخر في تدبير الشأن العام، تسترجع كيف تم استغلال جسدها وهي لا تزال مراهقة لا حول ولا قوة لها، تسترجع مشاهدا من ملهى «السيد جاك» الملهى الأول الذي ولجته، تسترجع كيف تم تذوق جسدها بالتناوب ليلة جمعة سوداء بفيلا يكتريها حسن المكلف بإدارة أعمال المافيا، تسترجع كيف أجبرت على أداء أدوار في أفلام لا تعرف في أي دُور الفن السابع تم عرضها.
تسترجع وتسرح في الذكريات السوداء والماضي الذي لا يمضي، ولكنها لم تستطيع التوصل إلى أب هذا الجنين الذي يستعد للخروج إلى هذا الوجود المكفهر، احتارت هل هو حسن، أم جاك، أم الرجل النافذ الذي تردد على جسدها أكثر من مرة؟
سلالة أسئلة ليس لها أجوبة دقيقة، وهي بين هذا السؤال وذاك تنهمر عيناها دمعا وتعض على شفتيها الذابلتين من شدة الوجع: وجع المخاض ووجع الماضي ووجع المستقبل.
ووجع نظرات هؤلاء «البشر» المارون الذين يقصفونها بنظرات وأقاويل تربك كينونتها، ألفاظ من قبيل: «العاهرة كريمة»، المومس كريمة، ال… كريمة، السيدا «…
جمل من قبيل: «حطب جهنم، لي ما خرج من الدنيا ما خرج من عقايبها، بْنْت لْحرام ما تْولد غير ولد لحرام» …
ألفاظ ونظرات كانت كافية لتقتلها وتقتل جنينها الذي خرج أخيرا لكنه خرج صامتا مبتسما، بعد لحظات، وبعد طول انتظار انتبه إليها حارس مدخل المستشفى وأتى صوبها مهرولا جسّ نبضها تأكد من اللاحياة وأرسل برقية من لاسلكه إلى الإدارة، لتخرج عربة نقل الأموات لتقلّها إلى المستشفى، حُمل جسدها وجسد الطفل إلى حيث كُتب لهما، ودوّنت قوات الأمن محضرا تُقر فيه بموت بائعة هوى عشرينية قرب مزبلة هامشية نتيجة آلام المخاض.