الرئيسية / ملف الهايكو / جمالية المفارقة في الهايكو – حسني التهامي

جمالية المفارقة في الهايكو – حسني التهامي

جمالية المفارقة في الهايكو – حسني التهامي

يعني مصطلح المفارقة في الأدب تجاور المتناقضات بهدف إدهاش المتلقي عبر تقديم رؤى غير متوقعة. تعد المفارقة إحدى الأدوات النقدية التي تتناول العبارات والمعاني المتضاربة ظاهريا، وإنشاء نوع من التآلف والانسجام بينها. يرى “كلينث بروكس” (Cleanth Brooks ) ضرورة هذه الجمالية وأهميتها لأنها «اللغة الملائمة والحتمية للشعر»، حيث تعتمد على المراوغة القائمة على قدرة التنافر السطحي على التحول وصنع تشابكات وتناقضات وترك تساؤلات دائمة في ذهن القارئ من أجل إيصال المعاني المتعددة والمتشابكة وإثارة العواطف والمشاعر، كما تهدف إلى إحداث الشرارة الإبداعية وضمان البنية المتماسكة في العمل الإبداعي. يجيد هذه التقنية، لا سيما الكامنة في السياق، كل شاعر مطبوع صاحب خبرة جمالية. يسعى – من وراء ذلك – إلى خلق فجوة توتر دلالي، وتقديم رؤى جديدة للعالم تستطيع تحقيق الإدهاش. يحتاج النص الذي يحتوي على المفارقة إلى قارئ من نوع خاص يعتاد على التأمل العميق في زوايا التعارض والتناقض من أجل الوصول إلى العمق الحقيقي واستكشاف الفضاءات البعيدة في العمل الإبداعي.

والمفارقة هي جوهر الهايكو، وسر عبقريته، وشرارة الإبداع التي تتفجر في جنباته، وعلى إثرها تحدث صدمة الوعي لحظة الإدراك المفاجئ للجمال الفاتن المستمد من المشاهد الكونية اللامتناهية، أو تفاصيل الحياة اليومية. تقوم المفارقة بخلق توازن حقيقي في العالم الذي نعيش فيه، لحظة إدراك كنه التناقضات بين جزئياته وتوائِمُها في إطار وجودي يتسم بالألفة والانسجام. وحين يحدث هذا التمازج بين تفاصيل الوجود المتنافرة بفعل المفارقة، تتبدى لنا حقائق الوجود؛ ذلك لأن عملية التجاور ببساطة هي جزء من البنية الواقعية للوجود. بهذا المعنى تصبح المفارقة – على حد تعبير الألماني “توماس مان” (Thomas Mann 1875-1955)–” لمحة صافية تتصف بالحرية والهدوء، هي لمحة الفن الصافي ذاته”. لا يقتصر دور الهايجن على اقتناص المتناقضات وتقديمها في إطار المفارقة، بل في قدرته على إعطائها صورا ذهنية، وتمثيلها في الواقع الحياتي كي يستطيع القارئ أن يتفاعل معها، ويعيد تشكيلها من خلال وعيه ورؤيته الخاصة للعالم والوجود.

تنقسم المفارقة في الهايكو، كما هو الحال في الأدب بشكل عام، إلى نوعين أساسيين: لفظية وتعني الانحراف اللغوي، وسياقية تتمثل في تركيبة الصورة أو تفاصيل الحدث. يؤدي هذا الانزياح اللغوي وتجاور الصورتين المتنافرتين إلى إحداث فجوة توتر، ويعمّقان من تجربة الشاعر الفنية، ويقدّمان العالم برؤى مغايرة وجديدة. وفي هذه الحالة تصبح بنية النص ” مراوغة وغير مستقرة ومتعددة الدلالات، وهي بهذا المعنى تمنح صلاحيات أوسع للقارئ وفق وعيه بحجم المفارقة”.        تعتمد مفارقة الموقف أو الحدث على حدس الشاعر الذي يرى من خلاله الأشياء من حوله، ويترك للقارئ مسألة التحليل واستنباط الأبعاد الفلسفية والشعورية، ويكشف خيوط التعارض في النص. ومن هنا تختلف المفارقة اللفظية عن السياقية في أن الأولى تعتمد في كشف حقيقتها أولاً على صاحب المفارقة (الهايجن)، أما السياقية فإنها تعتمد على المتلقي في البحث عن التعارض بين المعنى الظاهري والخفي.

أحيانا يأتي الهايكست بأشياء غير متجانسة أو بألفاظ بينها تضاد، ويطرحها في سياق متناغم ليقدم رؤىً جديدة للعالم تتشكل ليس فقط من البناء اللغوي، لكن أيضا من تصوراتنا للأشياء”. حينئذ يحاول القارئ حين تلقي الصورتين المتناقضتين ومحاولة المزج والتوفيق بينهما. أحيانا يلجأ المتلقي – بعد لحظات من التأمل – إلى تفكيك بنية النص وإعادة تشكيلها من جديد. نتأمل النص التالي للشاعر الياباني “نايتو ميستسو” (1847Naito Meisetsu 1926 –  ):

 

تابوت  –

فراشات ترافق

إكليل الزهور

يظهر عنصر المفارقة جليا عبر تقنية التجاور المستخدمة بشكل عفوي في لحظة جمالية وقع تحت تأثيرها الهايجن الياباني يتكون النص من مشهدين متنافرين، أحدهما يعكس حالة الموت والجمود الممثلة في كلمة (تابوت) في السطر الأول، والمشهد الآخر مفعم بالحياة (الفراشة التي تتبع إكليل الزهور). يشي الفعل “يتبع” بالحيوية التي تتخلل المشهد، كما يدلنا على اقتفاء أثر الورود الذكية برائحتها وجمالها. هذا الجمع بين عالمي الموت والحياة هو ما يصنع فجوة التوتر بالنص. كان من طبيعي، في هذه الحالة، أن يركز الشاعر على حالة الحزن، أو يسلط الضوء على وجوه المشيعين التي يخيم الوجوم عليها لفراق الفقيد، لكن على عكس ذلك، غالبا يا يسترعى انتباه شاعر الهايكو تلك الأشياء الصغيرة بتفاصيلها الدقيقة لأنه حين يتوحد معها، يصل إلى طبائع الأشياء وإلى حقيقة ذاته في لحظة من الوعي والكمال، وهذا ما حدث لحظة تتبع الهايجن للفراشة.

تلعب كلمة القطع في نهاية السطر الأول أو في أي مكان بالنص دورا مهمًا في تماسك بنية النص وإحداث دفقة شعورية، كما تسهم في تعميق فكرة المفارقة؛ لكونها تمثّل وقفة تأملية هدفها الأساسي ليس الفصل بين مشهدي النص  لكن – على عكس ذلك – إحداث انسجام بينهما، على الرغم من تناقضهما في كثير من الأحيان. تحدث المفارقة عند قيام كل من الكاتب والقارئ بعملية المقارنة الداخلية التي تمنحهما مساحة من التأمل كي يكتشفا العلاقة والتناقض بين الأشياء. ترتقي عملية القطع بالهايكو من الحالة النثرية إلى أعلى درجات الشعر، ومن خلالها تتبدى حالة من التوهج في قلب الأشياء ، وكأنها تولد من جديد، أو كما لو أنها لم تحدث من قبل، ذلك لأن الكاتب أو المتلقي في هذه اللحظة يستعيد إدراكه ليرى العالم، فيشير إلى الأشياء المدركة بإماءة طفل عفوية.

يقول باشو:

بركة عتيقة…

ضفدع يقفز …

صوت الماء!

تكمن المفارقة هنا في الجمع بين عالمين متقابلين: البركة العتيقة في السطر الأول وقفزة الضفدع وصوت الماء في السطرين الثاني والثالث. استخدم الهايجن علامة القطع ليظهر حالة الفصل والتناقض بين عالمين غاية في التناقض: الثابت مقابل الديناميكي، والسكون مقابل “الصوت”. تتفجر شرارة الدهشة أيضا لحظة الجمع بين العوالم الكبيرة الأبدية (البركة)، والكائنات الصغيرة الزائلة (الضفدع)، وبين الزائل والأبدي.. استطاع باشو أن يعمّق حالة السكون سواء أكانت قبل حركة الماء أم بعدها عبر قفزة الضفدع التي غيّرت عوالم البركة. تمثل تلك القفزة المفاجئة اللحظة الجمالية التي هي جوهر الحياة في حالة من التأمل والاستنارة.

تؤدي المفارقة في الهايكو إلى ما يسمى بالـ”يوجن” أو الغموض الشفيف الذي يجعل النص غنيا بالإمكانيات الدلالية المشفرة. يعرّف الناقد الإنجليزي إمبسون (1906 -1984 William Empson) هذا المصطلح بأنه “أي تناقض في اللفظ، مهما كان طفيفا، يفسح المجال لردود أفعال بديلة تجاه نفس الشيء”. يبدو من مقولة إمبسون أن الغموض عملية تكتيكية يسعى إلى بلورتها الكاتب من أجل إغراء القارئ واستدراجه لإيجاد تفسير للمعاني الخفية بالنص. ما يجعل الهايكو نصا غير عادي، ليس فقط خاصيتا الإيجاز والبساطة،  ولكن أيضًا عمقه ومنحاه التلميحي. هذا اليوجن الشفيف يعزز جودة الهايكو ويسمو به من حالته الوصفية إلى شكل شعري أكثر عمقا وإدهاشا.

يحتوى النص التالي لإيسا على هذا العمق الشفيف كحالة وسط بين الإيغال في الغموض والضبابية والسطحية، إنه غموض مشع بنثرات من الضوء، لا يهدف إلى إيضاح معنى بعينه، لكنه – كما يشير رولان بارت – “عبارة عن شبكة من الجواهر تعكس كل جوهرة فيها بقية الجواهر الأخرى، هكذا، إلى ما لا نهاية، دون أن يكون هناك مركز أو نواة للإشعاع”.

هذا اليوم من الربيع!

أينما يوجد ماء

يمتد الظلام

ربما يتساءل القارئ ما الذي كان يدور في ذهن إيسا عند كتابة هذا الهايكو الغامض؟ وقد يمتد تعجب المتلقي من بقاء الظلام، وسر امتداده في ذلك اليوم الربيعي حال وجود الماء! هل هناك رمزية ما حول جوهر الحياة وراء هذه الصور التي تبدو غير منطقية وغير مترابطة؟ وربما – على أساس أن الهايكو لقطة عفوية يعتمد فيها الهايجن على حدسه وحواسه – يصبح النص ليس إلا لحظة جمالية لا يقصد منها أي مغزى أو دلالة رمزية. تلك التساؤلات حول النص دون الوصول إلى إجابة معينة تثير ذهن القارئ، وتجعل النص لافتا ومثيرا.

في حين يرى رولان بارت أن الأمر مختلف في الهايكو؛ نظرا لأنه ليس معنيا، بأية حال من الأحوال، بمسألة تفسير وتأويل المعنى، فهو مشهد حسي معبّأ بـ “ أحاسيس مكثفة ” و” رصد أمين للحظة نادرا ما تتكرر”. إن المفارقة في الهايكو هي ذاتها تلك التي رآها بارت في اليابان أثناء زيارته لهذا البلد المدهش، بتفاصيله الدقيقة الفاتنة، حيث تتبدى العفوية في كل الأشياء: السلوك البشري، حركة الشارع، المتجر، والقطار، ” إنه تنافر في الملبس، ومفارقة تاريخية للثقافة، وحرية في السلوك، ولا منطقية في المسارات، إلخ”. ينقل الهايجن تلك المشهديات بشكل عفوي دون تخطيط أو تدقيق، معتمدا على حدسه وحواسه التي هي أدواته الحقيقية في تصويرها إلى القارئ، كمحاولة إبداعية أولى لا تعبر عن الوجود فحسب بل تتسبب فيه.

في العالم العربي هناك الكثير من النصوص الإبداعية التي تعكس امتداد الهايكو، وتشكّله المميز، ووعي كل من الشعراء والقرّاء بالتجربة الجديدة، وأغلب تلك النصوص الواعية تحتوي على مفارقات، مثال ذلك النص التالي للهايجن المغربي سامح درويش:

رجل الثلج

وحيدا

يموت من البرد

(هايكو 100 ص6)

إن بساطة اللغة والشكل في النص من الممكن أن تؤدي إلى تأويلات معقدة، تهدف إلى تعطيل التفكير العادي والكشف عن حقائق أعمق، والنفاذ إلى روح القارئ وإذكاء حالة الاستنارة والوعي. كما تدهشنا اللحظة الجمالية التي تصوّر العنصر البشري (رجل الثلج) المأخوذ من عالم الطبيعة. وعلى الرغم من أن المشهد واقعي يعكس حالة رجل الثلج الذي حتما مصيره الذوبان، فإحساسنا بعزلته نابع من إحساسنا بعزلة أرواحنا، وزواله انعكاس للمصير البشري. اعتمد الهايجن على إحداث فجوة التوتر في قفلة النص بإحداث صدمة الوعي الناتجة عن حدوث اللامتوقع (موت رجل الثلج من البرد، وربما يبدو هذا للقارئ غير منطقي)، والإدراك المفاجئ للحقائق الكامنة في الوجود. استطاع سامح درويش تحويل اللحظة الجمالية (لحظة احتضار رجل الثلج) إلى لحظة إنسانيةٍ نتوحد فيها مع رجل الثلج، ونتعاطف معه، ليظل هناك شيء غامض بالنص يُمكنُ احساسُه عبر الصورة الحسية، ولا تستطيعُ الكلماتُ أن تبوح به.

نص آخر للهايجن التونسية هدى حاجي:

مرتجفة

زهرة الللوتس

تجعد البحيرة

بين ضفتين ص 29

تحدث المفارقة في الجمع بين عالمين، أحدهما متناهي الصغر (زهرة اللوتس)، وآخر متسع وممتد (البحيرة الراكدة). يبدو النص – على الرغم من منحاه الكلاسيكي (قد تذكرنا زهرة اللوتس بما أحدثته ضفدعة باشو بالبركة العتيقة) – مثيرا للانتباه، فالزهرة على صغر حجمها وجمالها الفاتن تجعّد وجه البحيرة. ربما تعكس الالتقاطة الحالة المزاجية للرائي، فواضح أن جمال الزهرة لم يسترع انتباه الهايجن قدر التجاعيد المتراكبة فوق سطح الماء حال ارتعاش الكائن الطبيعي الصغير. على أنّ شعور الحزن شعور ذاتي قد تسببه حالة الوحدة التي تعاني منها روح الشاعرة، فجمالية السابي ( المتمثلة في الإحساس بالعزلة وتغضنات الزمن ) نابعة من عنصر طبيعي لا من المشاعر الفضفاضة التي تسكبها اللغة. هكذا تنجح الهايجن في صرف أنظارنا عن الذاتيّ (روحها الحزينة) إلى الكوني (زهرة اللوتس معا مع البحيرة) كي تجسّد المزاج العام للنص.

يقول الشاعر المغربي عبد الحق عبد الحق موتشاوي

قصف جديد،
مذياع يبث أغنية
من أغاني الخريف

( هايكو مصر)

يفصِل الهايجن بين مشهدي النص بعلامة قطع تهيئ المتلقي بعد وقفة تأملية لما بعد القصف. وكلمة “جديد” في مطلع الهايكو تشير إلى أن الحدث تكرر مرارا، لكنّ هذه المرة تحدث المفارقة عندما لا يغطي البث الأحداث الجارية؛ نظرا لأن مشغّل المذياع أراد تخفيف حدة الفجائع المتكررة على العامة ببث أغنية خريفية أثناء القصف. تحدث التوأمة بتوحد البشري مع الكوني، أو بعبور أحدهما عبر الآخرفي سياق متآلف يعكس جمالية السابي التي تجعلنا نتقبّل الأشياء المريرة في العالم، ونرى في ثناياها بصيصا من الضوء والمرح.

تقول الهايجن السورية هالة شعار في نص على موقع هايكو مصر:

ياسمينةٌ ذابلةٌ

مظلةٌ

لنملة

يمتاز النص بالإيجاز الشديد، والتكثيف البارع، والعمق الجمالي، حيث لا يتجاوز أربع كلمات غاية في البساطة استطاعت الشاعرة من خلالها اقتناص اللحظة الجمالية التي تحتوي على مفارقة أحدثت شرارة الدهشة والتأمل العميق. بدأت هالة الشعار نصها بحالة الموت والزوال (ياسمينة ذابلة)، كانعكاس واضح لتأملاتها العميقة في العالم الطبيعي التي تعزّز وعينا بالجمال الكوني في لحظة آنية عابرة سرعان ما تولد حتى تتلاشى. بيد أن تلك الياسمينة الذابلة لحظة زوالها تتشبث بها نملة وتتخذها مظلة، وهنا يجمع النص بين عالمين أحدهما ديناميكي (النملة النشطة حتى في سكونها)، وعالم زائل (الياسمينة الذابلة)، فتحدث المفارقة التي تثير أذهاننا وتزيد اهتمامنا وتساؤلاتنا حول النص.

 

ناقد من مصر

 

عن madarate

شاهد أيضاً

الهايكو وفلسفة اللغة توفيق أبو خميس

الهايكو وفلسفة اللغة توفيق أبو خميس   ‏”إن الذي لا يحب لغته الأم ؛ هو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *