صدور نص مسرحي سوق المداويخ للناقد رشيد هيبا – المختار النواري
عن مطبعة آنفو بفاس المغرب صدر للناقد رشيد هيبا نصا مسرحيا بعنوان ” سوق المداويخ ”
يضم الكتاب 199 صفحة من الحجم المتوسط،
قام الناقد المختار النواري بكتابة مقدمته، التي ننشرها كاملة لكونها تسلط الضوء على النص المسرحي:
تقديم سوق المداويخ المختار النواري
ما بين الفلسفة أم العلوم والمسرح أب الفنون، تمتد شجرة الفكر الإنساني، وارفة الظلال، ممتدة الآثار، قوية الأصول، ثابتة الجذور، متعددة الفروع، تتشابك عبرها تفرعات الفكر، بمختلف أشكاله، وأبهى ألوانه.
والمسرح لا يكون مسرحا إلا حينما يمثل هذا التصور، ويرسخ هذا المنحى، فما الأجساد، ولا الأضواء، ولا الأثاث، ولا الموسيقى، ولا الأزياء، ولا اللغة، إلا وسيلة لتقديم الفكر ممسرحا، ولغاية فلسفية، يخطط لها كاتب المسرحية، ويدسها بين هذا وذاك، ويقدم أجزاءها وصورها آنا بعد آن، وخلال مشاهد المسرحية كلها، فتكتمل بجمع شتاتها، ولملمة فتاتها، وربط خيوطها، وضم أصولها، واتضاح منحاها، واجتلاء معناها، وتضام مبناها، وتجلي مغزاها.
ومسرحية “سوق المداويخ” من هذا الصنف، ولذلك مظاهر وتجليات، ومشاهد وتحققات، سنحاول الكشف عن بعضها في هذا التقديم.
إنها مسرح يقوم على المسرح، وحكاية تنبع من الحكاية، وشخصيات تخلخل ثوابت الزمان وتختصرها، وتقفز على حدود المكان، وتحطم منطق الجغرافيا، وتنبع في كل محيط.
مسرح يقدم شخصيات مجنونة بغير جنون، وعاقلة بغير عقل، وأخرى مخبولة بهلوسات حكيمة، وحكيمة بتصرفات معربدة، وصامتة تتحدث بمظاهر موشية مصرحة، وتعبر بحركاتها الخفية الملمحة، وتشي بغير ما قالت، وتقول غير ما تريد.
في هذه المسرحية تنبعث الحياة من بين ركام الرماد والدمار، وتشتم رائحه الوفاء والوباء من بين الأمطار والأزهار. فالفناء بقاء، والبقاء هباء. ومن بين الحالَيْن يتأسس منطق اللامنطق، وينبع صوت المسكوت عنه، ويفتضح المخبوء، وينجلي المدسوس.
والجميل في المسرح أنه يتوخى نقل صور من الحياة، ومشاهد من الواقع، فيفعل ذلك، ولكن بإرباك نظم الحياة، وخلخلة سيرورة الواقع، ليجعل مشاهده وقارئه يشك فيما إذا ما كان بإزاء خيال أم واقع، وحيال ما يحياه الناس من حياة أم ما ينسجونه من أوهام، ويطرِّزونه من خيالات.
فالأموات يحكون، والأحياء يضحكون، والعودة من عالم الموت تحتاج إلى جواز سفر، بينما الأحياء لا يحتاجون إلى حياة في مدينة الأصنام. وحينما كان الأموات مهمومون بإيصال رسائل، تفك ألغاز الكون، كان الأحياء يقفون شرطا وحراس حدود، ينشغلون بالمراقبة، والتدقيق في الوثائق.
تجتوي هذه المسرحية درجات متفاوتة من الكتابة، تجمع ما بين الشعر إلى حد الغموض، والنثر إلى درجة التلقائية، والعقل إلى حد القداسة، والجنون إلى درجة النذالة.
وتتمثل الاستماع إلى شخير النائمين، والإنصات إلى حلم الحالمين، واصتكاك الآذان بضجة الصاخبين، وارتخاء النفوس بهدوء الصامتين.
وتختصر الأزمنة إلى حد التماهي، وتمزج العصور إلى درجة التناهي، وتقدم لحظة الحدث عنوانا لكل زمان.
فيها تتداخل الأمكنة بما لا يميز بين حدودها، ولا يعتبر فوارقها الجغرافية، فمساحة الحدث هي كل مكان، وفسحة الواقعة هي الواقع بعينه.
إن غباء الواقع، وتسطح العقول، لا يمكن تجاوزه إلا بخيال الشعراء، الذين نزعوا أردية المباشر، وتحللوا من قيود المادة، وتسربلوا بأكسية المجاز، وتحلوا بعقود الخيال، واعتصموا بصفاء الروح، واعتصروا خالص البوح، وتخلوا عن عقل يرى عمق الإيمان زندقة، وجميل هذيان الوجد الإلهي سفسطة، وتركوا للعقل حزمه، وللمنطق عزمه، وللتعقل عزه، وللرزان بزه.
يعبر التوجه في هذه المسرحية عن نهج سئم نفوسا ترى الفكر كفرا، وتهليل الفَجْر فُجْرا.
وعن نهج يميز في السحر ما بين مسكون بالشِّعْر ومشغول بالشَّعَر، ومهووس بالسِّحْر ومسلوب بالسَّحَر.
ويفرق في حاملي الفكر بين من يَزْرون بالعارف، ويَعِزُّون العَرَّاف؛ ويَنْصرفون الى السامر، ويَنْصرفون عن السُّمَّار. بين من لا تداويهم “تفوسيخة الميريكان” ولا “تعربيدة الصهيون”.
في المسرحية يبقى الإنسان جوهر الخشبة – الكون – ولا أدري ما العلاقة بين الخشبة والإنسان؟ أهي عكس للعلاقة بين الحي والمتخشب، بين الحركي والجامد، بين الذي إذا أُوجد أشعل النور في الزمان، وبعث الحركة في المكان…؟ بين من لا يُعَد الزمان زمانا إلا به، ولا يسمى المكان، وتعرف حدوده، إلا بمنطق تدخله. فالكون بغيره يفقد غايته، وينفرغ من محتواه؟
ومن الإنسان فوق الخشبة يندلع صوته، ويتحول سوطا يجلد به عقولا صماء، ويرتفع إيقاع كلامه، لينقلب وقعا سليطا، يصلب به ألسنة بكماء. يبقى الكلام في بعده اللغوي طوفانا من الفعل الممسرح، يَفْعل ويتفاعل وينفعل ويُفَعِّل. إنه خلق للحركة اللغوية، التي عبرها تُخلق الشخصيات وتُبنى، وتتسلسل من خلالها الأحداث والوقائع.
لقد حاول كاتب المسرحية الدكتور رشيد الهيبا أن يجعل مسرحية “سوق المداويخ” رصدا لتاريخ الفكر الإنساني في أقوى مراحله، وأجلى محطاته. فالمسرحية عبر مشاهدها المختلفة (خروج الشيخ – العرافة – حلقة الضحك – رحلة المعرفة والعذاب – بصر وموت – أبو العبر – سوق المداويخ – المحاكمة) ترسم للفكر مساراته المتنوعة والمتباينة.
تنطلق المسرحية من الخروج إلى المحاكمة، عبر محطات الحياة المختلفة، ومساراتها المتشابهة. فالخروج بعث ووحي، رسالة وإرشاد، فكر ووعي، هداية وإعداد. المحاكمة فرصة لتوضيح الحقائق، لا لطلب الإنصاف.. إنها لحظة للدفاع عن وجهة نظر، لا لتجنب الاعتساف.. فهي تجسيد لكشف عقوق العدل في حق الفكر، على الرغم من أنه نتاجه، وسليل رعيه وتخريجه.
المحاكمة زج بالفكر في قفص الاتهام، وإقامة العقل في ساحة العدل، والاسترابة في حق ميزان الفكر.
وللفكر تمظهراته الإنسانية، التي اكتشفها عبر مراحل تاريخه المختلفة، فكان سحرا مرة، وعقيدة أخرى، وفلسفة ثالثة، وهزلا رابعة، وحكمة متبصرة خامسة، وواقعا معاشا، ونظما حياتية مغرقة مرة سادسة، يعكسها ما خُصص لفصل “سوق المداويخ” من صفحات المسرحية، تزيد عن ثلثها (صص 69 – 121).
تارودانت في 3 ماي 2024
ناقد من المغرب